صفحات مِن ذاكرة التاريخ (41) وفاة يزيد بن معاوية وخلافة معاوية بن يزيد، وبيعة ابن الزبير -رضي الله عنهما-
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زلنا نلقي الضوء على أحداث الفتن السياسية في عصر الصحابة -رضي الله عنهم-، وقد انتهينا سابقًا مِن ذكر تفاصيل الأحداث التي وقعتْ بعد موت معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه-، وما كان مِن أمر الحسين -رضي الله عنه-، ونستكمل في هذا المقال تفاصيل الأحداث.
وفاة يزيد بن معاوية وخلافة معاوية بن يزيد:
في عام 64 هـ – 683م توفي يزيد بن معاوية، وكانت وفاته بقرية مِن قرى حمص يُقال لها حوّارين مِن أرض الشام، لأربع عشرة ليلة خلت مِن ربيع الأول سنة 64هـ، وهو ابن ثمان وثلاثين سنة أو وهو ابن تسع وثلاثين، وكانت ولايته ثلاث سنين وستة أشهر أو ثمانية أشهر (تاريخ للطبري)، فتولى الخلافة بعده معاوية بن يزيد وهو ثالث الخلفاء الأمويين، ولد سنة 44هـ، ونشأ في بيت الخلافة، بويع له بالخلافة بعد موت أبيه، في رابع عشر ربيع الأول سنة أربع وستين هجرية.
ويختلف المؤرخون كثيرًا في المدة التي حكمها معاوية بن يزيد، ويتراوح الخلاف بيْن عشرين يومًا إلى ثلاثة أشهر (تاريخ الطبري)، وكان مريضًا مدة ولايته، ولهذا لم يؤثر له عمل ما مدة خلافته، حتى الصلاة، فإن الضحاك بن قيس هو الذي كان يصلي بالناس، ويسيّر الأمور، وظل الضحاك يصلي بالناس حتى بعد وفاة معاوية، حتى استقر الأمر لمروان بالشام.
ولما أحس معاوية بن يزيد بالموت نادي في الناس الصلاة جامعة، وخطب فيهم، وكان مما قال: “أيها الناس، إني قد وليت أمركم وأنا ضعيف عنه، فإن أحببتم تركتها لرجل قوي، كما تركها الصديق لعمر، وإن شئتم تركتها شورى في ستة كما تركها عمر بن الخطاب، وليس فيكم مَن هو صالح لذلك وقد تركت أمركم، فولوا عليكم مَن يصلح لكم، ثم نزل ودخل منزله، فلم يخرج حتى مات -رحمه الله تعالى-” (البداية والنهاية لابن كثير).
فقد أراد معاوية بن يزيد أن يقول لهم: إنه لم يجد مثل عمر، ولا مثل أهل الشورى، فترك لهم أمرهم يولون مَن يشاءون، وقد جاء ذلك صريحًا في رواية أخرى للخطبة عند ابن الأثير، قال فيها: “أما بعد، فإني ضعفت عن أمركم فابتغيت مثل عمر بن الخطاب حين استخلفه أبو بكر فلم أجده، فابتغيت ستة مثل ستة الشورى فلم أجدهم، فأنتم أولى بأمركم، فاختاروا له مَن أحببتم، ثم دخل منزله وتغيب حتى مات” (الكامل في التاريخ لابن الأثير).
واعتبر هذا الموقف منه دليلًا على عدم رضاه عن تحويل الخلافة مِن الشورى إلى الوراثة (العالم الإسلامي في العصر الأموي، عبد الشافي محمد عبد اللطيف، ص137)، فقد رفض أن يعهد لأحدٍ مِن أهل بيته حينما قالوا له: “اعهد إلى أحدٍ مِن أهل بيتك”، فقال: “والله ما ذقتُ حلاوة خلافتكم؛ فكيف أتقلد وزرها، وتتعجلون أنتم حلاوتها، وأتعجل مرارتها؟! اللهم إني بريء منها، مُتخلِّ عنها”.
وجاء في رواية: “قيل له ألا توصي؟”، فقال: “لا أتزوّد مرارتها، واترك حلاوتها لبني أمية” (البداية والنهاية لابن كثير)، وتعتبر حادثة تنازل معاوية بن يزيد عن الخلافة حادثة نادرة في التاريخ الإنساني، وإذا كان معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- أول الخلفاء الأمويين قد حول الخلافة مِن الشورى إلى الملك، فإن حفيده معاوية الثاني، ثالث خلفاء الأمويين أيضًا، قد أعاد الخلافة مِن الملك العضوض إلى الشورى الكاملة، وإنه لمما يستوجب الإنصاف أن تصاغ القضية على هذا النحو بدلاً مِن التركيز على الشق الأول الخاص بتوريث الخلافة فقط (الدولة الأموية المفترى عليها، د.حمدي شاهين، ص293).
لقد مات معاوية بن يزيد عن إحدى وعشرين سنة. وقيل: ثلاث وعشرين سنة وثمانية عشر يومًا. وقيل: تسع عشرة سنة. وقيل عشرين سنة. وقيل ثلاث وعشرين سنة. وقيل غير ذلك.
بيعة عبد الله بن الزبير:
بعد موت يزيد بن معاوية لم يكن هناك مِن خليفة، وإذا كان يزيد قد أوصى لابنه معاوية، فإن هذا لا يكفي للبيعة، إضافة إلى أن الذين قد بايعوا معاوية بن يزيد لا يزيدون على دمشق وما حولها، ثم إن معاوية بن يزيد لم يعش طويلاً، وترك الأمر شورى، ولم يستخلف أحدًا، ولم يوصِ إلى أحدٍ، وكان عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-، قد بويع له في الحجاز بعد موت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وكذا في العراق وما يتبعه إلى أقصى مشارق ديار الإسلام، وفي مصر وما يتبعها إلى أقصى بلاد المغرب، وبايعت الشام أيضًا إلا بعض جهات منها ولم يكن رافضًا بيعة ابن الزبير في الشام إلا منطقة البلقاء(الأردن) وفيها حسان بن مالك بن بحدل الكلبي (سير أعلام النبلاء)، وهكذا تّمت البيعة لعبد الله بن الزبير في ديار الإسلام، وأصبح الخليفة الشرعي، وعين نواّبه على الأقاليم، وتكاد تجمع المصادر على أن جميع الأمصار قد أطبقت على بيعة ابن الزبير خليفة للمسلمين.
قال ابن كثير -رحمه الله-: “ثم هو -أي ابن الزبير- الإمام بعد موت معاوية بن يزيد لا محالة، وهو أرشد مِن مروان بن الحكم، حيث نازعه بعد أن اجتمعت الكلمة عليه، وقامت البيعة له في الآفاق وانتظم له الأمر” (البداية والنهاية لابن كثير)، ويؤكد كلٌّ مِن ابن حزم (المحلى)، والسيوطي (تاريخ الخلفاء للسيوطي، ص212) شرعية ابن الزبير، ويعتبران مروان بن الحكم وابنه عبد الملك باغيين عليه، خارجين على خلافته، كما يؤكِّد الذهبي شرعية ابن الزبير ويعتبره أمير المؤمنين (سير أعلام النبلاء للذهبي 3/ 363)، وهذا الذي عليه المؤرخون والعلماء.
ونستكمل في المقال القادم -بإذن الله-.