معركة ملاذكرد: وانتصار السلاجقة بقيادة ألب أرسلان
معركة ملاذكرد عام ( 463هـ/ 1071م):
تعد معركة ملاذكِرد([1]) واحدة من أهم المعارك والملاحم في التاريخ الإسلامي، بل هي من أيام الإسلام والمسلمين الخالدة، هذه المعركة تذكرنا بمعارك المسلمين وملاحمهم العظيمة المباركة، كبدر الكبرى، واليرموك، والقادسية، وحطين، وعين جالوت، والزلاقة، وغيرها من المعارك الكبرى، حيث كانت هذه المعركة من أقوى المعارك في تاريخ المسلمين، ومثلت نقطة تحول في التاريخ العباسي والسلجوقي، والحروب الصليبية، هذه المعركة انتصر فيها السلاجقة انتصارًا مبينًا على الروم.
لقد أقبل ملك الروم رومانوس الرابع إمبراطور الدولة البيزنطية، عازمًا على أن يُبيد الإسلام وأهله، وكان جيشه يتكون من مائتى ألف مقاتل تقريبًا، فالتقاه القائد السلجوقي ألب أرسلان في جيش، وهم قريب من عشرين الفًا، ووقعت المعركة في ملاذكِرد.
استطاع رومانوس الرابع أن يقوم بتكوين جيش كبير من جنسيات مختلفة، وتحرك في جحافل أمثال الجبال، من الروم والفرنج والبطارقة، والغزاة الذين يسكنون الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وهم يملكون أحدث الأسلحة والحفارات والسروج والمناجنيق وأدوات الحرب ومعداته.
وكانت الوقعة في شهر ذي القعدة، من عام( 463هـ/ 1071م)، وخاف السلطان ألب أرسلان من كثرة جند ملك الروم، فَأَشَارَ عَلَيْهِ الْفَقِيهُ أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْبُخَارِيُّ بِأَنْ يَكُونَ وَقْتُ الْوَقْعَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ، حِينَ يَكُونُ الْخُطَبَاءُ يدعون للمجاهدين([2]).
فلما كان ذلك الوقت وتقابل الفريقان، نَزَلَ السُّلْطَانُ عَنْ فَرَسِهِ وَسَجَدَ للَّه عَزَّ وَجَلَّ، وَمَرَّغَ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ وَدَعَا اللَّهَ واستنصره، وصَلَّى بِهِمْ، وَبَكَى السُّلْطَانُ، فَبَكَى النَّاسُ لِبُكَائِهِ، وبدأت المعركة والخطباء يدعون للمجاهدين، وأقبل جند المسلمين، كالأسود الضواري تفتك بمن يقابلها، وهجم ألب أرسلان بمن معه على مقدمة الأعداء، لقد هاجموا أعداءهم في شجاعة وبسالة وتضحية وفداء، وأمعنوا فيهم قتلاً وتجريحًا، وما هي إلا سويعات من النهار، حتى تحقق النصر، وانقشع غبار المعركة عن جثث الروم في كل مكان متناثرة، وأنزل الله نصره على المسلمين، ومنحهم أكتافهم فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا، وأُسر ملكهم أرمانوس([3]).
قال ابن الجوزي:”وهذا الفتح في الإسلام كان عجباً لا نظير له، فإن القوم اجتمعوا ليزيلوا الإسلام وأهله([4])“.
ومن روائع يوم ملاذكرت، أن ألب أرسلان عند الزوال خطب في الناس وقال:” إما أن أبلغ الغرض، وأما أن أمضى شهيدًا إلى الجنة، فمن أحب أن يتبعني منكم فليتبعني، ومن أحب أن ينصرف فليمض مصاحبًا، فما هاهنا سلطان يأمر، ولا عسكر يؤمر، فإنما أنا اليوم واحد منكم، وغاز معكم، فمن تبعني، ووهب نفسه لله تعالى فله الجنة أو الغنيمة، ومن مضى حقت عليه النار والفضيحة، فقالوا: مهما فعلت تبعناك فيه وأعناك عليه، فبادر ولبس البياض وتحنط استعدادًا للموت وقال: إن قُتلت فهذا كفني”.
وقال لهم أيضًا:” أنا أحتسب عند الله نفسي، وإن سعدت بالشهادة ففي حواصل الطيور الخضر من حواصل النسور الغبر رسمي، وإن نصرت فما أسعدني وأنا أُمسي، ويومي خير من أمسي”([5]).
وقد سُحِق الجيش البيزنطي في هذه المعركة، وقُتل منه عشرات الآلاف، وأُسر رومانوس الرابع نفسه وبعض قادة الجيش، وتمَّ فداؤه بألف ألف دينار.
ومما يذكره بعض المؤرخين، أن الذي أسر رومانوس، هو غلام رومي، قال ابن كثير:” وَقَدْ كَانَ هَذَا الْغُلَامُ عُرِضَ عَلَى نِظَامِ الْمُلْكِ الْوَزِيرِ فِي جُمْلَةِ تَقْدِمَةٍ، فَلَمْ يَقْبَلْهُ فَقَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: إِنَّهُ وَإِنَّهُ- أي يُثْنِي عَلَيْهِ يذكر محالسنه – فَرَدَّهُ، وَقَالَ كَهَيْئَةِ الْمُسْتَهْزِئِ بِهِ: لعله يجيئنا بملك الروم أرمانوس أسيرًا، فوقع الأمر كما قال، فلله الحمد والمنة.
فلما أوقف أرمانوس بين يدي الملك ألب أرسلان ضربه بيده ثلاث مقارع، وقال: لو كنت أنا الأسير بين يديك ماذا كنت تفعل؟ قال: كل قبيح. قال فما ظنك بي؟ قال: تقتلني أو تشهرني في بلادك، فأما العفو وأخذ الفداء فبعيد، فقال: ما عزمت على غير العفو والفداء، فافتدى نفسه منه بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار، وأن يطلق كل أسير في بلاد الروم، وعلى هدنة خمسين سنة، يحمل فيها عن كل يوم ألف دينار، وقام بين يدي الملك فسقاه شربة من ماء، وقبل الأرض بين يديه، وإلى نحو جهة الخليفة إجلالًا وإكرامًا، فأطلق له الملك عشرة آلاف دينار ليتجهز بها، وأطلق معه جماعة من البطارقة ومن أصحابه، وشيعه فرسخًا، وأرسل معه جيشًا يخدمونه ويحيطونه ويحفظونه إلى بلاده، ومعهم راية مكتوب عليها: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
فلما انتهى إلى بلاده وجد الروم قد ملكوا عليهم غيره، فأرسل إلى السلطان يعتذر إليه، وبعث من الذهب والجواهر ما يقارب ثلاثمائة ألف دينار([6])“.
وقد تحدثت وثيقة صليبية عن موقف السلطان ألب أرسلان من أرمانوس، وعن كيفية معاملته الكريمة له، وسماحه له بالعودة إلى بلاده([7]).
هذا وتعتبر معركة ملاذكرد أكبر نكسة في تاريخ الإمبراطورية البيزنطية، فلأول مرة يقع الإمبراطور نفسه في الأسر، وعقب المعركة بدأ السلاجقة ينتشرون في آسيا الصغرى، واستكمل ألب أرسلان فتوحات بلاد الروم، حيث افتتح بعض القلاع، وأرعب كثيرًا من الملوك، وسار إلى أصبهان ثم كرمان ثم شيراز، ثم عاد إلى خرسان.
وهنا يجدر بنا أن نشير إلى أن بعض مراحل وعصور الضعف يعتريها بعض الانتصارات، فربما ظن البعض أن عصر ضعف الدولة العباسية، لم يكن هناك أي انتصارات، وهذا بخلاف الحقيقة، ومعركة ملاذكرد هي خير مثال على هذا، هذا فضلًا عن بعض الانتصارات التي حققها المسلمون في بلاد المغرب أيضًا، على يد دولة المرابطين خلال القرن الخامس الهجري، وكذلك ما حققه المجاهد مَحمودِ بنِ سبكتكين من انتصارات ببلاد الهند خلال القرن الرابع الهجري.
- () منطقة ملاذكرد تعرف الآن بمحافظة موش بتركيا. ↑
- () ابن كثير: البداية والنهاية (12/123). ↑
- () ابن كثير: المصدر السابق ( 12/124). ↑
- () ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الأمم والملوك (16/128). ↑
- () ابن الجوزي: المنتظم في تاريخ الأمم والملوك (16/128). ↑
- () ابن كثير: المصدر السابق ( 12/125). ↑
- () سعيد عبد الفتاح عاشور: أوروبا في العصور الوسطى(1/705). ↑