مقالات تاريخية

د. زين العابدين كامل يكتب: الثاني من يناير و احتفالات إسبانيا بسقوط الأندلس

الثاني من يناير و احتفالات إسبانيا بسقوط الأندلس

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،

بينما يحتفل قطاع كبير من المسلمين، بالسنة الميلادية؛ وهو الاحتفال الذي لا ناقة لنا فيه ولا جمل، يحتفل الإسبان بذكرى سقوط مدينة غرناطة، وهو الاحتفال المعروف، بـ”استعادة غرناطة” أو ” ذكرى الاسترداد”؛ وهو يصادف الثاني من شهر يناير من كل عام، ومن مظاهر احتفال الإسبان؛ توزيع آلاف الأعلام، والتجمع في كثير من الميادين، ورفع بعض الشعارات.

ولعل مظاهر الاحتفال تظهر بصورة كبيرة بمدينة غرناطة، حيث أنها آخر مدينة سقطت من مند بلاد الأندلس.

ويعلق بعض الساسة ورجال الدين في إسبانيا، على الاحتفال فيقولون؛ بأن الثاني من يناير عام 1492م، يعني بالنسبة لإسبانيا “ولادة الدولة الحديثة والتوحيد التاريخي لشبه الجزيرة الأيبيرية”،

وتجري العادة منذ أيام جمهورية الجنرال فرانكو في إسبانيا في ثلاثينيات القرن الماضي، على إقامة تلك الاحتفالات سنويًا في قلب المدينة في ذكري يوم “استرداد غرناطة” من المسلمين.

لقد كانت مدينة غرناطة هي آخر مدن الأندلس سقوطًا، ففي نهاية القرن التاسع الهجري نظرت غرناطة حولها فلم ترَ مدينة ببلاد الأندلس إلا وسقطت في أيدي الأعداء، ولم يبقَ في الأندلس إلا هي، وذلك بعد أن تمزقت الدولة، وتحولت إلى دويلات صغيرة وضعيفة.

وهكذا لم يبقَ أمام الأعداء سوى غرناطة، فحاصرها ملوك النصارى لعدة سنوات، حتى قرر آخر ملوك الأندلس أبو عبد الله محمد بن الأحمر تسليم المدينة لفرناندو الخامس، وأُعلن يومها أن مدينة غرناطة أصبحت تابعة للكاثوليك، وأن حكم المسلمين للأندلس قد انتهى، وكان ذلك عام (897ه/ 1492م)، وبهذا التسليم تم طي صفحة التاريخ الإسلامي في بلاد الأندلس.

علمًا بأن هناك مَن خرج ورفض فكرة التسليم، وطالب بالقتال والدفاع عن المدينة حتى الموت، وعلى رأس هؤلاء: موسى بن أبي الغسان رحمه الله، فيروى أنه انطلق بمفرده وهو يحمل سلاحه ويمتطي جواده، وقد قابل سرية من سرايا النصارى، فقاتلهم وقتل عددًا منهم، ثم قُتل هو في سبيل الله.

قال الدكتور محمد عبد الله عنان معلِّقًا على موقفه: “فقد حاول كعادته أن يبثَّ بكلماته الملتهبة قبسًا أخيرًا من الحماسة؛ وكان مما قال: “لم تنضب كل مواردنا بعد، فما زال لنا مورد هائل للقوة، كثيرًا ما أدَّى المعجزات؛ ذلك هو يأسنا، فلنعمل على إثارة الشعب، ولنضع السلاح في يده، ولنقاتل العدو حتى آخر نسمة، وإنه لخير لي أن أُحصى بين الذين ماتوا دفاعًا عن غرناطة، من أن أحصى بين الذين شهدوا تسليمها!”، على أن كلماته لم تؤثِّر في هذه المرة، فقد كان يخاطب رجالًا نضب الأمل في قلوبهم، وغاضت كل حماسة، ووصلوا إلى حالة من اليأس لا تنجع فيها البطولة، ولا يحسب للأبطال حساب”([1]).

لقد كان موسى آخِر نَفَسٍ من أنفاس الحياة في الأندلس، وكان آخِرَ سَطْرٍ في سِفر أمجاد المسلمين؛ ذلك السفر الذي كَتَبَهُ العربُ المسلمون في ثمانمائة عام.

وهكذا طُويت آخر صفحة من تاريخ المسلمين في الأندلس، وكان ذلك في ربيع الأول عام (897ه/ 1492م)، فبسقوط غرناطة سقطت دولة الإسلام في الأندلس.

ثم مارس النصارى سياسة القهر ضد المسلمين، مثل: القتل والتعذيب، والتهجير، والإكراه على اعتناق النصرانية.

إن مِن أفضل الكلمات التي قيلت في رثاء الأندلس: ما ذكره المستشرق الإنكليزي استانلي بول في كتابه: “قصة العرب في إسبانيا”، والذي تناول فيه تاريخ المسلمين والعرب منذ الفتح، وحتى إخراج آخرهم منها، فقال: “الإسبان لم يدركوا أنهم قتلوا الإوزة التي تبيض بيضة من ذهب في كل يوم، فقد بقيت إسبانيا قرونًا في حكم العرب وهي مركز المدنية، ومنبع الفنون والعلوم، ومثابة العلماء والطلاب، ومصباح الهداية والنور، ولم تصل أي مملكة في أوروبا إلى ما يقرب منها في ثقافتها وحضارتها، ولم يبلغ عصر فرديناند وإيزابيلا القصير المتلألئ، ولا إمبراطورية شارل الخامس، الأوج الذي بلغه المسلمون في الأندلس!”.

ويضيف: “إن حضارة العرب بقيت إلى حين خروجهم من إسبانيا وضَّاءة لامعة، ولكن ضوءها كان يشبه ضوء القمر الذي يستعير نوره من الشمس، ثم أعقب ذلك كسوف بقيت بعده إسبانيا تتعثر في الظلام، وإنا لنحس فضل العرب وعظم آثار مجدهم، حينما نرى بإسبانيا الأراضي المهجورة القاحلة، التي كانت في أيام المسلمين جنات تجري من تحتها الأنهار، تزدهر بما فيها من الكروم، والزيتون، وسنابل القمح الذهبية، وحينما نذكر تلك البلاد التي كانت في عصور العرب تموج بالعلم والعلماء، وحينما نشعر بالركود العام بعد الرفعة والازدهار”.

وقال في موضع آخر: ” لقد كانت الأندلس في العصور الوسطى شعلة النور ومنار الهداية، وكانت جامعاتها بقرطبة، وإشبيلية، وغرناطة، وغيرها، ملتقى طلاب العلم من الشرق والغرب، وكان فيها للأدب والشعر والفنون عامةً منـزلة لم تكد تصل إليها أمة، وإذا تحدثنا عن فنون العمارة، والهندسة، والنقش، وغيرها، طال بنا الكلام.

إن سقوط الأندلس لم يكن إلا سقوط النجم المتلألئ اللامع، وانهيار الجبل الأشم الراسخ، وإن دولة في الأرض لم تُشيَّع بعبرات العيون، وحسرات القلوب، كما شُيِّعت الأندلس، ولم يبكِ الشعراءُ مُلْكًا طواه الزمان كما بكوا مُلك الأندلس، ولم يقف المؤرخون وهم يدوِّنون خاتمة أمة حاسري الرؤوس خاشعين، يرسلون الزفرات، كما وقفوا عند قبر دولة العرب بالأندلس!”([2]).

  1. () محمد عبد الله عنان، دولة الإسلام في الأندلس (5/ 241).
  2. () ستانلي لين بول: قصة العرب في الأندلس، ترجمة علي الجارم.

 

زر الذهاب إلى الأعلى