قراءة نقدية حول كتاب “الخلافات السياسية بين الصحابة”
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلا شك أن قراءةَ التاريخ تضيفُ أعمارًا إلى عمر الإنسان، وذلك بتتبعه للتجارب التاريخية التي قام بها الإنسان، والوقوف على ما بها من دروس وعِبَر؛ فإن الاطلاع على أحوال السابقين ودولهم وأيامهم، وملوكهم؛ يوسِّع الآفاق الفكرية والثقافية للإنسان، ويُساعده على فهم السنن الكونية، وكيف ترتقي الأمم، وكيف تنهار ثم تزول.
فالتاريخ هو النبراس والذاكرة التي يطلِّع الإنسان مِن خلالها على الأحوال والحوادث والوقائع، وما صاحبها مِن متغيراتٍ ومجرياتٍ، والتاريخ فيه استلهام للمستقبل على ضوء السنن الربانية الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل، ولا تحابي أحدًا مِن الخلق بحالٍ.
ودراسة التاريخ ركن أساسي لبناء أمةٍ قويةٍ، لا كما يظن البعض أنها دراسة تكميلية، ولعل مِن المسلَّم به لَدى الباحثين في التاريخ: أن التاريخ الإنساني لا يعرف أمة على مرِّ العصور دَوَّنت تاريخها بكل حسناته وسيئاته كأمة الإسلام، فلم يحاول المؤرخون أن يتستروا على سيئات تاريخهم، بل نَقلوا الأحداث بكل أمانةٍ؛ فليس في تاريخنا ما نخجل منه، حتى ما وقع مِن أحداثٍ مؤلمةٍ، فلا تخلو دراستها مِن فائدةٍ.
ولقد مرَّت الأمة منذ أواخر عصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه بمحنٍ شديدةٍ عاتيةٍ، وفتنٍ متتابعةٍ ومتنوعةٍ؛ وذلك منذ خرج الهمج الرعاع على أمير المؤمنين عثمان وقتلوه، ثم ما حدث بين الصحابة مِن قتالٍ في موقعتي: الجمل وصفين([1]).
ولو مرَّت أي أمة مِن الأمم بما مَرَّت به أمة الإسلام مِن أحداثٍ وتوتراتٍ، وفتنٍ وحروبٍ وقلائل؛ لذهبت ريحها، ولغابت شمسها، ولكن نظرًا لقوة ومتانة البنيان الذي أقامه رسول الله صلى الله عليه وسلم، استطاعت الأمة رغم ضراوة الصراع وقسوة الأحداث، أن تحافِظَ على بقائها وبنائها، وكيانها وقوتها.
هذا وتُعد الفتنة التي أدَّت إلى استشهاد أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه من أكبر المعوقات التي أصابت الدعوة الإسلامية بعد حركة الردة أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حيث أدَّى استشهاد عثمان رضي الله عنه إلى توقف حركة الجهاد، واتجاه سيوف المسلمين إلى بعضهم في فتنةٍ كادتْ تعصف بالأمة الإسلامية؛ لولا أن تداركتها رحمة الله بصلح الحسن بن علي مع معاوية رضي الله عنهم، ومن هنا عادت الأمة لاستئناف رسالتها ومسيرتها مرة أخرى.
وقد تناولتْ العديدُ مِن المؤلَّفات هذه الفترة بالتأليف والدراسة، ومنها هذا الكتاب الذي سنتعرض له في هذا المقال بحولٍ مِن الله وقوته.
أولًا: بيانات الكتاب:
– عنوان الكتاب: “الخلافات السياسية بين الصحابة – رسالة في مكانة الأشخاص وقُدسية المبادئ”.
– اسم المؤلف: هو الكاتب والمحلل السياسي الموريتاني محمد بن المختار الشنقيطي، محرر مجلة الفقه السياسي. وقد قَدَّم للكتاب الدكتور يوسف القرضاوي، والأستاذ راشد الغنوشي.
– دار الطباعة: الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
– رقم الطبعة: الطعبة الأولى عام 2013م.
– حجم الكتاب: 294 صفحة.
ثانيًا: عرض إجمالي للكتاب:
ذكر مؤلف كتاب: “الخلافات السِّياسيَّة بين الصَّحابة رضي الله عنهم”، جملةً من القواعد التي نتَّفق معه في بعضها، عِلْمًا بأنه قد ذَكَر في مَدْخَل كتابه: أنه استمد واستلهم تلك القواعد من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حيث إنه تتبع تراث شيخ الإسلام ابن تيمية ومنهجه في كتابيه: “منهاج السنة”، و”مجموع الفتاوى”.
وقد جاءت القواعد على النحو الآتي:
القاعدة الأولى: التثبُّت في النَّقل والرِّواية.
القاعدة الثَّانية: استصحاب فضل الأصحاب.
القاعدة الثَّالثة: التَّمييز بين الذَّنب المغفور والسَّعي المشكور.
القاعدة الرَّابعة: التَّمييز بين المنهج التأصيليِّ والمنهج التاريخيِّ.
القاعدة الخامسة: الاعتراف بحدود الكمال البشريِّ.
القاعدة السَّادسة: الإقرار بثِقل الموروث الجاهليِّ.
القاعدة السَّابعة: اجتماع الأمانة والقوَّة في الناس قليل.
القاعدة الثَّامنة: الأخذ بالنِّسبية الزَّمانيَّة.
القاعدة التَّاسعة: عدم الخَلط بين المشاعر والوقائع.
القاعدة العاشرة: الابتعاد عن اللَّعن والسبِّ.
القاعدة الحادية عشرة: الابتعاد عن التَّكفير وعن الاتِّهام بالنِّفاق.
القاعدة الثَّانية عشرة: التحرُّر من الجدل وردود الأفعال.
القاعدة الثَّالثة عشرة: إدراك الطَّبيعة المركَّبة للفتن السِّياسيَّة.
القاعدة الرَّابعة عشرة: الترَّكيز على العوامل الداخليَّة.
القاعدة الخامسة عشرة: اجتناب الصِّياغة الاعتقاديَّة للخلافات الفرعيَّة.
القاعدة السَّادسة عشرة: الابتعاد عن منهج التَّهويل والتَّعميم.
القاعدة السَّابعة عشرة: التَّمييز بين السَّابقين وغير السَّابقين.
القاعدة الثَّامنة عشرة: اجتناب التكلُّف في التأوُّل والتأويل.
القاعدة التَّاسعة عشرة: التَّدقيق في المفاهيم والمصطلحات.
القاعدة العشرون: التَّمييز بين الخطأ والخَطيئة، وبين القصور والتَّقصير.
القاعدة الواحدة والعشرون: التَّمييز بين الخِطاب الشَّرعي والخطاب القدَري.
القاعدة الثَّانية والعشرون: الحُكم بالظواهر والله يتولَّى السرائر.
ثم أتبع المؤلف ذلك بفصلٍ تَحَدَّث فيه عن ملاحظاته على منهج ابن تيميَّة، وآخر للحوارات مع مَن سمَّاهم: مدرسة (التشيُّع السُّني).
وقد اعتبر المؤلف كتابه بمثابة رسالة في الفقه السياسي، دعا فيها إلى إعادة كتابة التاريخ الإسلامي بمنهج جديد يمنح قُدسية المبادئ رجحانًا على مكانة الأشخاص، ويقترح المؤلف اثنتين وعشرين قاعدة للتعاطي مع الخلافات السياسية بين الصحابة من خلال مدرسة أهل الحديث وأفكار ابن تيمية ومنهجه.
ثالثًا: التقييم الإجمالي للكتاب:
بعد اطلاعي على هذا الكتاب وقراءتي له، ورغم أنني أتفق مع المؤلف في بعض القواعد التي ذكرها إجمالًا؛ إلا أنني وقفتُ على بعض الإخفاقات العلمية، والأخطاء المنهجية، وهي تحتاج إلى نقدٍ علميٍ منصفٍ، والتي منها:
– أن المؤلف لم يتقيد أثناء تناوله للأحداث وتحليلها بمنهج ابن تيمية وأهل الحديث كما ذكر -وهذا ما سنوضحه بمشيئة الله تعالى-.
– كما أنه لم يتقيَّد بمنهج أهل السنة أثناء تناوله لأحداث الفتنة، فأهل السنة قد اتفقت كلمتهم على الكف عما دار بين الصحابة الأخيار من اقتتال، وعدم ذكر مساويهم؛ إلا لما فيه مصلحة، وقد استقر هذا المنهج عبر القرون المتتالية، لكننا نرى أن المؤلف لم يتقيَّد بهذا القيد، ولم ينضبط بهذا الضابط، بل تكلَّف في التأويلات والتحليلات، حتى حكم على بعض الصحابة بأحكام جانبه فيها الصواب؛ ولذا أتى بنتائج نتحفظ عليها -كما سنوضح في البحث-.
– ثم نراه قد وقع في تناقض ملحوظ بين منهجه التنظيري عبر القواعد التي ذكرها، وبين تطبيقه العملي لما ذكره من قواعد -كما سنبيِّن ذلك بأمثلة بمشيئة الله تعالى-.
وأود أن أُشير إلى أنه يجب التفريق بين النقد والتجريح، فالبون بينهما شاسع، حيث إن النقد البنَّاء يعني تقييم العمل وتصحيحه بطريقة منهجية؛ لاسيما وأن الحس النقدي لابد أن يُبنى على العلم والمعرفة.
رابعًا: نقد الكتاب:
سيكون هذا النقد من خلال عِدَّة وقفاتٍ، كالآتي:
الوقفة الأولى:
قال المؤلف في (ص 53) ما نصه: “وما أحوج المتكلفين في التأويل لهؤلاء إلى تأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمار بن ياسر الذي أوردناه في القاعدة السابعة عشرة من هذا الكتاب: “وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ، عَمَّارٌ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ”([2])، فهل يصلح فيمن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: إنهم يدعونه إلى النار أن يكونوا مجتهدين مأجورين؟! ألا ما أرخص الاجتهاد إذًا؟!
أقول وبالله التوفيق:
لقد أخطأ المؤلف هنا وجانبه الصواب، حيث أنكر على علماء المسلمين الذين قالوا بأن معاوية رضي الله عنه ومَن معه قد اجتهدوا فأخطأوا، فلهم أجر الاجتهاد، وقد بَنَى المؤلف إنكاره على حديث: “وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ، عَمَّارٌ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ”، ولم ينتبه المؤلف إلى المعنى المقصود من منطوق حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بذلك قد خالف جماهير أهل العلم في هذه المسألة.
وقد قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى في صدد عرضه لعقيدة أهل السُّنة والجماعة فيما شجر بين الصحابة: “إنَّ هَذِهِ الْآثَار الْمَرْوِيَّةَ فِي مساويهم مِنْهَا مَا هُوَ كَذِبٌ وَمِنْهَا مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ وَنُقِصَ وَغُيِّرَ عَنْ وَجْهِهِ، وَالصَّحِيحِ مِنْهُ هُمْ فِيهِ مَعْذُورُونَ؛ إمَّا مُجْتَهِدُونَ مُصِيبُونَ، وَإِمَّا مُجْتَهِدُونَ مُخْطِئُونَ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ؛ بَلْ تَجُوزُ عَلَيْهِمْ الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَهُمْ مِنْ السَّوَابِقِ وَالْفَضَائِلِ مَا يُوجِبُ مَغْفِرَةَ مَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ إنْ صَدَرَ، حَتَّى إنَّهُ يُغْفَرُ لَهُمْ مِنْ السَّيِّئَاتِ مَا لَا يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ”([3]).
وقال ابن كثير رحمه الله: “أما ما شجر بينهم بعده عليه الصلاة والسلام، فمنه ما وقع مِن غير قصد كيوم الجمل، ومنه ما كان عن اجتهادٍ كيوم صفين، والاجتهاد يخطئ ويصيب، ولكن صاحبه معذور وإن أخطأ، ومأجور أيضًا، وأما المصيب فله أجران اثنان، وكان علي وأصحابه أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين”([4]).
وقال ابن حجر رحمه الله: “وَاتَّفَقَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى وُجُوبِ مَنْعِ الطَّعْنِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ بِسَبَبِ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْ عرف المُحِقَّ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا فِي تِلْكَ الْحُرُوبِ إِلَّا عَنِ اجْتِهَادٍ، وَقَدْ عَفَا اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْمُخْطِئِ فِي الِاجْتِهَادِ، بَلْ ثَبَتَ أَنَّهُ يُؤْجَرُ أَجْرًا وَاحِدًا، وَأَنَّ الْمُصِيبَ يُؤْجَرُ أَجْرَيْنِ”([5]).
وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال: “رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ وَأَبُو بكر وعمر جالسان عنده، فسلمتُ عليه وَجَلَسْتُ، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ إِذْ أُتي بَعَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، فَأُدْخِلَا بَيْتًا وَأُجِيفَ الْبَابُ وَأَنَا أَنْظُرُ، فَمَا كَانَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ خَرَجَ عَلِيٌّ وَهُوَ يَقُولُ: قُضِيَ لِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ مَا كَانَ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ خَرَجَ مُعَاوِيَةُ وَهُوَ يَقُولُ: غُفِرَ لِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ”([6]).
وقال ابن تيمية رحمه عن معاوية رضي الله عنه: “ولم يكن معاوية ممَّن يختار الحرب ابتداءً، بل كان مِن أشد الناس حرصًا على أن لا يكون قتال”([7]).
قلتُ: ولعل ما استند إليه المؤلف في قوله المذكور، هو قول النبي صلى الله عليه وسلم عن عمار رضي الله عنه: “يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ”، فقد اختلط الأمر على المؤلف واستعصى عليه الجمع بين: “يَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ” وبين “إنه مجتهد مأجور”، وهذا ما ذكره المؤلف بالفعل في قوله: “فهل يصلح فيمَن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: إنهم يدعونه إلى النار أن يكونوا مجتهدين مأجورين؟! ألا ما أرخص الاجتهاد إذًا؟!”.
ولعل مِن الضروري هنا أن نبيِّن المقصود من قوله صلى الله عليه وسلم: “يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ”، فالمراد بالدعاء إلى الجنة في هذا الحديث: الدعاء إلى سببها، وهو طاعة أمير المؤمنين، والمراد بالدعاء إلى النار: الدعاء إلى سببها، وهو مشاقة أمير المؤمنين والخروج عليه، لكن مَن فعل ذلك باجتهادٍ وتأويلٍ سائغٍ؛ فهو معذور بلا شك -كما أوضحنا-.
قال ابن كثير رحمه الله: “وَأَمَّا قَوْلُهُ: يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ: فَإِنَّ عَمَّارًا وَأَصْحَابَهُ يَدْعُونَ أَهْلَ الشَّامِ إِلَى الْأُلْفَةِ وَاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ، وَأَهْلُ الشَّامِ يُرِيدُونَ أَنْ يَسْتَأْثِرُوا بِالْأَمْرِ دُونَ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ النَّاسُ أَوْزَاعًا عَلَى كُلِّ قُطْرٍ إِمَامٌ بِرَأْسِهِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى افْتِرَاقِ الْكَلِمَةِ، وَاخْتِلَافِ الْأُمَّةِ، فَهُوَ لَازِمُ مَذْهَبِهِمْ وَنَاشِئٌ عَنْ مَسْلَكِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَقْصِدُونَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ”([8]).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “فَإِنْ قِيلَ: كَانَ قَتْلُهُ بِصِفِّينَ وَهُوَ مَعَ عَلِيٍّ، وَالَّذِينَ قَتَلُوهُ مَعَ مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: فَكَيْفَ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الدُّعَاءُ إِلَى النَّارِ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّهُمْ كَانُوا ظَانِّينَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى الْجَنَّةِ، وَهُمْ مُجْتَهِدُونَ لَا لَوْمَ عَلَيْهِمْ فِي اتِّبَاعِ ظُنُونِهِمْ، فَالْمُرَادُ بِالدُّعَاءِ إِلَى الْجَنَّةِ: الدُّعَاءُ إِلَى سَبَبِهَا وَهُوَ طَاعَةُ الْإِمَامِ، وَكَذَلِكَ كَانَ عَمَّارٌ يَدْعُوهُمْ إِلَى طَاعَةِ عَلِيٍّ، وَهُوَ الْإِمَامُ الْوَاجِبُ الطَّاعَةُ إِذْ ذَاكَ، وَكَانُوا هُمْ يَدْعُونَ إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ، لَكِنَّهُمْ معذورون للتأويل الَّذِي ظهر لَهُم”([9]).
وفي الحديث عنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقْتُلُهَا أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ”([10]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فهذا الحديث الصحيح دليل على أن كلتا الطائفتين المقتتلتين -علي وأصحابه، ومعاوية وأصحابه- على حقٍّ، وأن عليًّا وأصحابه كانوا أقرب إلى الحق من معاوية وأصحابه”([11]).
وأود أن أشير إلى أنه كان يوجد في صفوف الفريقين مَن يقوم بإشعال نار الفتنة؛ فلا يلزم أن يكون المقصود بذلك شخص معاوية رضي الله عنه، بل المقصود مَن يدعو إلى الفتنة ويؤجج نارها مِن الأتباع.
وأود أن أنبِّه المؤلف إلى مسألة مهمة؛ ألا وهي: قصة خالد بن الوليد رضي الله عنه في مسألة القتل الخطأ، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ إِلَى بَنِي جَذِيمَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا صَبَأْنَا، فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُ مِنْهُمْ وَيَأْسِرُ، وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمٌ أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لاَ أَقْتُلُ أَسِيرِي، وَلاَ يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ، حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْنَاهُ، فَرَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ فَقَالَ: “اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ مَرَّتَيْنِ”([12]).
وهنا عذر النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد؛ ولذا تبرأ مِن فعله ولم يتبرأ منه، حيث إنه لم يتعمد قتل هؤلاء بعد أن أسلموا، وإنما اجتهد فأخطأ؛ فهو معذور، حيث إنهم لم يحسنوا قول: “أسلمنا”، وقالوا: “صبأنا”، فلم يفهم منها خالد أنهم أسلموا؛ ولذا عذره النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقدح هذا الفعل في كون خالد رضي الله عنه سيفًا مِن سيوف الله.
وفي هذا الصدد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وَمَعَ هَذَا فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْزِلْ خَالِدًا عَنِ الْإِمَارَةِ، بَلْ مَا زَالَ يُؤَمِّرُهُ وَيُقَدِّمُهُ؛ لِأَنَّ الْأَمِيرَ إِذَا جَرَى مِنْهُ خَطَأٌ أَوْ ذَنْبٌ، أُمِرَ بِالرُّجُوعِ عَنْ ذَلِكَ، وَأُقِرَّ عَلَى وِلَايَتِهِ، وَلَمْ يَكُنْ خَالِدٌ مُعَانِدًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَلْ كَانَ مُطِيعًا لَهُ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْفِقْهِ وَالدِّينِ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِ، فَخَفِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ”([13]).
قلتُ: وهكذا يجب أن نتناول مثل هذه القضايا على هذا النحو، بفهم شمولي لا تبعيضي، ولا شك أن هذا يساعدنا على الارتقاء في مدارج الفكر، وذلك بلا شك بعد الاستقراء الدقيق للواقع.
وأخيرًا: يجب علينا كذلك أن نترضى على الطرف الثالث الذى اعتزل الفتنة: كسعد بن أبى وقاص، وعبد الله بن عمر، وغيرهما.
الوقفة الثانية:
لقد ذكر المؤلف في (ص 97) خلال حديثه حول القاعدة الرابعة ما نصه: “إن الخلاف الذي دار حول تقييم العديد من مواقف الصحابة وأشخاصهم، كان مرده إلى عدم التمييز بين منهج التأصيل ومنهج التاريخ”.
ولا شك أن المؤلف قد أخطأ في هذا الموطن، حيث جعل مرد الخلاف هو عدم التفريق بين منهجين حديثيين، ومن المعلوم أن المصطلحات المتباينة أو المترادفة للمناهج الحديثة، مثل: المنهج التأصيلي أو التجريببي أو الإستقرائي أو التحليلي أو الاستنباطي، وغيرها من المُسمَّيَات والمصطلحات، ليست هي النقطة الفاصلة في هذه المسألة، حيث إن التاريخ لا يُعد أحد العلوم التجريبية، بل ثمة فرق بينه وبينها؛ فإن التاريخ بمعناه العام أو الخاص لا يدرس سوى الماضي، أما العلوم التجريبية؛ فهي تدرس الظواهر الراهنة، هذا مع إقرارنا بحتمية تحليل الأحداث التاريخية.
وأما عن حقيقة الخلاف الذي وقع حول تقييم مواقف الصحابة رضي الله عنهم، فمرده يعود إلى عدم معرفة البعض بقدر الصحابة وتميُز أهل القرون الأولى، فإن كلمة أهل السنة قد اتفقت على الكف عما دار بين الصحابة الأخيار من اقتتال، وعدم ذكر مساويهم؛ إلا لما فيه مصلحة، وقد استقر هذا المنهج عبر القرون المتتالية، ولم يخالف في ذلك إلا أصحاب الأهواء والمناهج المنحرفة، وقد ذكرنا آنفًا أقوال أهل العلم في ذلك، وأن ما وقع بين الصحابة كان باجتهادٍ؛ للمصيب فيه أجران، وللمخطئ أجر، وكلهم كان مريدًا للحق والخير.
الوقفة الثالثة:
لقد ادَّعى المؤلف أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قد تأخر عن بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ لأنه كان يريد الإمرة لنفسه، بل وقد نسب المؤلف هذا القول لشيخ الإسلام حيث يقول (ص 100): “لقد بيَّن ابن تيميَّة جوانب الضَّعْف البشري هذه لدى العديد من الأكابر؛ فهو يُعلِّل امتناع عليِّ بن أبي طالب من بيعة الصِّدِّيق في الشُّهور الستَّة الأولى من خِلافته بأنَّ عليًّا كان يريد الإمْرةَ لنفسه”، وقد قام المؤلف بتكرار زعمه هذا في عدة مواطن بالكتاب.
قلتُ: وبعد التتبع الدقيق لكلام شيخ الإسلام رحمه الله، لم نجد لهذا الزعم أثرًا في كلامه، وقد توهم المؤلف هذا الكلام؛ فلقد وردت عبارة: “كان يُريد الإمرة لنفسه” وذلك في سياق كلام شيخ الإسلام عن تخلُّف بيعة سعد بن عُبادة رضي الله عنه، وليس علي بن أبي طالب كما زعم المؤلف!
وهاك نص كلام شيخ الإسلام من كتاب منهاج السنة: “ثُمَّ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ بَايَعُوهُ وَدَخَلُوا فِي طَاعَتِهِ، وَالَّذِينَ بَايَعُوهُ هُمُ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَهُمُ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، وَهُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ بَيْعَتِهِ إِلَّا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَأَمَّا عَلِيٌّ وَسَائِرُ بَنِي هَاشِمٍ فَلَا خِلَافَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ بَايَعُوهُ، لَكِنْ تَخَلُّفَهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُرِيدُ الْإِمْرَةَ لِنَفْسِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ”.
فالضَّمير هنا عائد على سعد ابن عُبادة بلا ريب؛ فإنَّه الذي ذكر تخلُّفه، وهو يُعلِّل سبب تخلُّفه هذا.
ويوضِّحه أكثر قول شيخ الإسلام: “وأمَّا أبو بكر فتخلَّف عن بيعته سعد؛ لأنَّهم كانوا قد عيَّنوه للإمارة، فبقِي في نفسه ما يبقَى في نفوس البشر”([14]).
قلتُ: ولو أن المؤلف تتبع روايات اجتماع سقيفة بني ساعدة وما تبعها في كتب السنة؛ لعلم أن زعمه باطل، وأن غاية ما في الأمر أن عليًّا رضي الله عنه كان يرى أنه ينبغي أن يُستشار في هذا الأمر، فلم يكن علي رضي الله عنه يرى وجوب أن تكون الخلافة في آل البيت، ولا تأخر عن مبايعة أبي بكر الصديق لهذا السبب، بل يقر بفضله وأنه الأحق بالخلافة، ويؤيد ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها في قصة بيعة علي، وفيها: “فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ، فَتَشَهَّدَ عَلِيٌّ، فَقَالَ: إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا فَضْلَكَ، وَمَا أَعْطَاكَ اللَّهُ، وَلَمْ نَنْفَسْ عَلَيْكَ خَيْرًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ، وَلَكِنَّكَ اسْتَبْدَدْتَ عَلَيْنَا بِالأَمْرِ، وَكُنَّا نَرَى لِقَرَابَتِنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصِيبًا” -أي: مِن الشورى- ويتضح بما لا يدع مجالًا للشك مِن قول علي بن أبي طالب: “إِنَّا قَدْ عَرَفْنَا فَضْلَكَ، وَمَا أَعْطَاكَ اللَّهُ، وَلَمْ نَنْفَسْ عَلَيْكَ خَيْرًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيْكَ”؛ أنه لم يطلب الخلافة، ولم تَتق نفسه إليها.
ثم إنه قد وَرَد أن عليًّا رضي الله عنه قد بايع الصديق يوم السقيفة، أو في اليوم الثاني مِن اجتماع سقيفة بني ساعدة، وهذه الرواية أوردها الحافظ أبو بكر البيهقي، وقد أورد ابن كثير رحمه الله البيعتين، وقال بعد ذكر البيعة الثانية: “فهذه البيعة التي وقعت مِن علي رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه، بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها، بيعة مؤكِّدة للصلح الذي وقع بينهما، وهي ثانية للبيعة التي ذكرناها أولًا يوم السقيفة، كما رواه ابن خزيمة وصححه مسلم بن الحجاج، ولم يكن علي مجانبًا لأبي بكر هذه الستة الأشهر، بل كان يصلي وراءه ويحضر عنده للمشورة”([15]).
قلت: ولو طعن البعض في مسألة البيعة الأولى لعلي بن أبي طالب، وسلك مسلك الترجيح على مسلك الجمع بين الروايات، ففي نهاية الأمر قد بايع علي الصديق، وبذلك انتفت كل شبهة، ولا يوجد دليل على طمع علي بن أبي طالب في منصب الخلافة، كما زعم المؤلف.
الوقفة الرابعة:
قال المؤلف (ص 150) ما نصه: “وأهم أسباب الفتن السياسية في نظر ابن تيمية هو الظلم السياسي، وأكبر عاصم منها هو الوقوف في وجه الظلم، والأخذ على يد الظالم ابتداءً، قبل استفحال الأمر وخروجه من أيدي الصالحين”.
ونحن نورد هنا نص كلام ابن تيمية في “منهاج السنة” في معرض حديثه حول فتنة مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقد قال رحمه الله: “وَغَايَةُ مَا يُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَنْصُرُوهُ حَقَّ النُّصْرَةِ، وَأَنَّهُ حَصَلَ نَوْعٌ مِنَ الْفُتُورِ وَالْخِذْلَانِ، حَتَّى تَمَكَّنَ أُولَئِكَ الْمُفْسِدُونَ. وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ تَأْوِيلَاتٌ، وَمَا كَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ الْأَمْرَ يَبْلُغُ إِلَى مَا بَلَغَ، وَلَوْ عَلِمُوا ذَلِكَ لَسَدُّوا الذَّرِيعَةَ وَحَسَمُوا مَادَّةَ الْفِتْنَةِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الْأَنْفَالِ: 25]، فَإِنَّ الظَّالِمَ يَظْلِمُ فَيُبْتَلَى النَّاسُ بِفِتْنَةٍ تُصِيبُ مَنْ لَم يَظْلِمْ، فَيَعْجَز عَنْ رَدِّهَا حِينَئِذٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ مُنِعَ الظَّالِمُ ابْتِدَاءً، فَإِنَّهُ كَانَ يَزُولُ سَبَبُ الْفِتْنَةِ”([16]).
ومِن الواضح هنا أن ابن تيمية رحمه الله يتحدث عن حالة خاصة، ولا يتحدث بوجه عام، فلا يُحمل كلامه هذا على العموم والإطلاق، بل لو تتبع المؤلف كلام شيخ الإسلام حول هذه المسألة؛ لعلم أن ابن تيمية يضع الضوابط والقواعد حين يتحدث عن هذا الأمر، فيقول رحمه الله: “فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلِهَا، وَتَعْطِيلِ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا. فَإِذَا تَوَلَّى خَلِيفَةٌ مِنَ الْخُلَفَاءِ: كَيَزِيدَ، وَعَبْدِ الْمَلِكِ، وَالْمَنْصُورِ، وَغَيْرِهِمْ؛ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ: يَجِبُ مَنْعُهُ مِنَ الْوِلَايَةِ وَقِتَالُهُ حَتَّى يُوَلَّى غَيْرُهُ كَمَا يَفْعَلُهُ مَنْ يَرَى السَّيْفَ، فَهَذَا رَأْيٌ فَاسِدٌ، فَإِنَّ مَفْسَدَةَ هَذَا أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَتِهِ. وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كَانَ مَا تَوَلَّدَ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا تَوَلَّدَ مِنَ الْخَيْرِ. كَالَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى يَزِيدَ بِالْمَدِينَةِ، وَكَابْنِ الْأَشْعَثِ الَّذِي خَرَجَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِالْعِرَاقِ، وَكَابْنِ الْمُهَلَّبِ الَّذِي خَرَجَ عَلَى ابْنِهِ بِخُرَاسَانَ، وَكَأَبِي مُسْلِمٍ صَاحِبِ الدَّعْوَةِ الَّذِي خَرَجَ عَلَيْهِمْ بِخُرَاسَانَ أَيْضًا، وَكَالَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى الْمَنْصُورِ بِالْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ، وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ؛ وَغَايَةُ هَؤُلَاءِ إِمَّا أَنْ يَغْلِبُوا وَإِمَّا أَنْ يُغْلَبُوا، ثُمَّ يَزُولُ مُلْكُهُمْ فَلَا يَكُونُ لَهُمْ عَاقِبَةٌ، فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ وَأَبَا مُسْلِمٍ هُمَا اللَّذَانِ قَتَلَا خَلْقًا كَثِيرًا، وَكِلَاهُمَا قَتَلَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ وَأَمَّا أَهْلُ الْحَرَّةِ وَابْنُ الْأَشْعَثِ وَابْنُ الْمُهَلَّبِ وَغَيْرُهُمْ، فَهُزِمُوا وَهُزِمَ أَصْحَابُهُمْ، فَلَا أَقَامُوا دِينًا وَلَا أَبْقَوْا دُنْيَا([17])”.
وإذا تأملنا كلام شيخ الإسلام رحمه الله نلحظ أنه كان دقيقًا جدًّا في اختيار ألفاظه، فلقد قال: “وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كَانَ مَا تَوَلَّدَ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا تَوَلَّدَ مِنَ الْخَيْرِ!”.
ومعنى “عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ” أي: ذي منعة وشوكة وقوة، أما في حالات ضعف الإمام؛ فربما يؤدي ذلك إلى حدوث التغيير، كما قامت الدولة العباسية بعد وقوع الضعف الشديد الذي حلَّ بأخر خلفاء عصر بني أمية، ولما حلَّ الضعف كذلك بالدولة العباسية قامت الدويلات المستقلة في المشرق والمغرب في ظل وجود الخلافة العباسية؛ فلقد استطاع “عبد الرحمن الداخل” أن يعيد قيام الدولة الأموية في الأندلس، وقد قامتْ بعض الدول في بلاد المغرب: كالدولة الرستمية، ودولة الأدارسة، ودولة الأغالبة، وكذا قامت بعض الدول الأخرى في بلاد المشرق: كالدولة الطاهرية، والدولة الصفارية، والدولة السامانية، والدولة الغزنوية، وفي مصر والشام قامت الدولة الطولونية، والدولة الإخشيدية، والدولة الحمدانية، والدولة العبيدية الفاطمية، والدولة الأيوبية، والدولة المملوكية، وغير ذلك مِن الدول التي استقلت عن الدولة العباسية؛ كل ذلك في ظل وجود الخلافة العباسية، لكن كان الخليفة العباسي آنذاك عبارة عن صورةٍ شكليةٍ فقط، وليس له مِن الأمر مِن شيءٍ؛ فلا يستطيع أن يأمر أو وينهى، أو أن يولي ويعزل مَن شاء!
لذا نقول: إن الأمر مرده إلى دراسة موازين القوى، والترجيح بين المصالح والمفاسد، وهذه هي منهجية التغيير الصحيحة، وليس الأمر على إطلاقه -كما زعم المؤلف-.
ومن العجيب أيضًا: أن المؤلف قد حصر أسباب الفتنة في عصر عثمان بن عفان رضي الله عنه في أسباب داخلية كلُّها ترجع إلى نظام تسيير الدولة، وقد غض الطرف عن ابن سبأ ودوره في إشعال الفتنة، وقلل مِن تأثير ابن سبأ وأتباعه على الأحداث.
ومما سبق يتضح: أن المؤلف لم ينتهج نهج شيخ الإسلام رحمه الله، بل شَذَّ عن منهجه في كثيرٍ مِن المواطن، وتكلف في تصوره للأحداث.
الوقفة الخامسة:
لقد قام المؤلف بنقل بعض النصوص عن ابن تيمية وابن حجر، مفادها: أن عثمان رضي الله كان يولي أقاربه ويؤثرهم على غيرهم، ويخصهم بالأموال والعطايا، ثم عَقَّب قائلًا في (ص 169) وتأؤُل ابن تيمية لعائشة وطلحة والزبير هو نوع مِن نوع تأوله لعثمان رضي الله عنه، فهو لم يصوِّب سياسات عثمان في إثار الأهل والأقارب بالمناصب والأموال –كما يفعله المتكلفون اليوم-“.
قلتُ: وقد قام المؤلف بتكرار هذا الكلام حول تولية عثمان لأقاربه من بني أمية في عدة مواضع من الكتاب، وأكَّد على أن هذا السبب كان من أسباب الفتنة، وكانت طريقة عرض المؤلف تُوحي بأن هذا الأمر من المسلَّمات، وهو من الحقائق التاريخية!
وكان ينبغي على المؤلف هنا أن يتحرى الدقة في هذا الأمر، بل وأن يقوم بدور المُنقِّح للروايات الواردة في هذا الشأن؛ ولذا نقول: إن هذه التهمة لا تثبت بأي وجهٍ مِن الوجوه؛ فعلى سبيل المثال: إذا تأملنا أمر تولية عثمان بن عفان لمعاوية بن أبي سفيان، نرى أن معاوية قد ولاه عمر، وجمع له الشامات كلها، وأقرّه عثمان، بل إنما ولاه أبو بكر الصديق وجعله خليفة لأخيه يزيد بن أبي سفيان على الجيش الخارج لحرب الروم في الشام، وكان معاوية رضي الله عنه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يكتب له الوحي، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأتمنه على وحي السماء، كما استعمل الرسول صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد الأموي أميرًا على مكة نائبًا عنه، وكان مِن خيار المسلمين.
وقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم كذلك أبا سفيان بن حرب -أبا معاوية- على نجران نائبًا له، وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان عامله على نجران، وكان معاوية أحسن إسلامًا مِن أبيه باتفاق أهل العلم، كما أن أخاه “يزيد بن أبي سفيان” كان أفضل منه ومِن أبيه؛ ولهذا استعمله أبو بكر الصديق رضي الله عنه على قتال النصارى حين فتح الشام، وكان هو أحد الأمراء الذين استعملهم أبو بكر الصديق، وقد ولَّى الرسول صلى الله عليه وسلم على صنعاء، واليمن، وصدقات بني مذحج خالد بن سعيد بن العاص الأموي، وولّى على تيماء، وخيبر، وقُرى عرينة عثمان بن سعيد بن العاص الأموي، وولَّى على البحرين أبان بن سعيد بن العاص، واستعملهم بعد ذلك أيضًا أبو بكر الصديق عمر رضي الله عنهما، وزاد عمر رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان ومعاوية بن أبي سفيان.
ثم نطرح سؤالًا: هل كان معظم ولاة عثمان بن عفان رضي الله عنه مِن أقاربه بالفعل؟!
والإجابة: لا؛ فلقد كانت المناصب العليا في عهد عثمان رضي الله عنه -وتحديدًا في الوقت الذي جاء فيه المجرمون المنافقون يطلبون عزله رضي الله عنه- على هذا النحو التالي: كان على القضاء: زيد بن ثابت الأنصاري، وكان على بيت المال: عقبة بن عامر الجهني، وكان على إمارة الحج: عبد الله بن عباس الهاشمي، وعلى الخراج: جابر بن فلان المزني، وسماك الأنصاري، وعلى إمارة الحرب: القعقاع بن عمرو التميمي، وعلى الشرطة: عبد الله بن قنفذ مِن بني تيم.
فهذه المناصب الستة العليا في الدولة لم يكن فيها أحدٌ مِن بني أمية.
وأما ولاة عثمان بن عفان رضي الله عنه على البلاد المختلفة؛ فكانوا على هذا النحو التالي: كان على اليمن: يعلى بن أمية التميمي، وكان على مكة: عبد الله بن عمرو الحضرمي. وعلى همذان: جرير بن عبد الله البجلي. وعلى الطائف: القاسم بن ربيعة الثقفي. وعلى الكوفة: أبو موسى الأشعري. وعلى البصرة: عبد الله بن عامر بن قريظ. وعلى مصر: عبد الله بن سعد بن أبي سرح. وعلى الشام: معاوية بن أبي سفيان. وعلى حمص: عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي. وعلى قنسرين: حبيب بن مسلمة القرشي الهاشمي. وعلى الأردن: أبو الأعور السلمي. وعلى فلسطين: علقمة بن حكم الكنعاني. وعلى أذربيجان: الأشعث بن قيس الكندي. وعلى حلوان -في أرض فارس-: عتيبة بن النهاس العجلي. وعلى أصفهان في عمق فارس: السائب بن الأقرع الثقفي.
ولا نلحظ في كل هذه الولايات إلا اثنين فقط مِن أقارب عثمان رضي الله عنهما: عبد الله بن عامر بن قريظ، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح فهو أخوه من الرضاعة ولا ينتمي إلى بني أمية.
ثم نقول: إن الولاية أمر يجتهد فيه أمير المؤمنين أو الخليفة حسب ما يرى، وحسب مَن يصلح أن يكون أهلًا للإمارة؛ سواء أكان قريبًا له أو غير قريب، بل إن له أن يعزل الفاضل، ويولِّي المفضول إن رأى في ذلك مصلحة للمسلمين، أو دفع فتنة عنهم، كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما عزل سعد بن أبي وقاص، وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وخال الرسول صلى الله عليه وسلم، والوحيد الذي افتداه الرسول صلى الله عليه وسلم بأبيه وأمه، وولَّى بعده مَن هو أقل منه درجة عبد الله بن عبد الله بن عتبان، ثم زياد بن حنظلة، ثم عمار بن ياسر، ولم ينكر عليه أحدٌ ذلك؛ ولذا كان ينبغي على المؤلف أن يتبع طريقة أهل الحديث، وأن يتحرى الروايات التاريخية الصحيحية الواردة في هذا الشأن، وكذا يتحرى كلام شيخ الإسلام بدقة، حيث إنه دحض تلك الشبهة في كتاب منهاج السنة.
الوقفة السادسة: (تناقضات المؤلف):
لقد وقع المؤلف في كثيرٍ من التناقض في كتابه، فهو يدعو إلى الشيء ولا يطبقه! لاسيما وأنه قد ادَّعى أنه استمد قواعد الكتاب من تراث ابن تيمية ومنهجه، ولكن بالتتبع يتضح أنه كان بعيدًا عن منهج ابن تيمية رحمه الله.
فعلى سبيل المثال:
لقد حاول المؤلف أن يبتعدَ خلال حديثه عن التنقُّص لمقام الصَّحب الكِرام رضي الله عنهم، بل ومِن القواعد الذي ذكرها: (استصحاب فضل الأصحاب – الابتعاد عن اللَّعن والسبِّ – الابتعاد عن منهج التَّهويل والتَّعميم – التَّمييز بين السَّابقين وغير السَّابقين- اجتناب التكلُّف في التأوُّل والتأويل).
ومع ذلك؛ فلقد استرسل منه الحبل في كثيرٍ مِن المواطن، ولم يُوفق في تطبيق ما ذكره من قواعد، ولم يجتنب المحاذير التي حذر منها، فلقد تأوَّل بعض أفعال عثمان بن عفَّان رضي الله عنه في الأموال، وأكد على مسألة إيثار أقاربه بالولايات كم أوضحنا آنفًا! وذكر أن عليًّا تخلَّف عن بيعة أبي بكر رضي الله عنهما؛ لأنَّه كان يُريد الإمارة لنفْسه!
ولقد تحامل المؤلف على معاوية رضي الله عنه، واتهمه بأنه كان طامحًا في المُلك، وكذا عمرَو بنَ العاص رضي الله عنه.
– قال المؤلف (ص 153) ما نصه: “وكيف لعاقلٍ أن يُصدِّق أنَّ الصَّحابة الذين بنَوا دولة الإسلام، وهزَموا أقوى الجيوش في العالم، وهدُّوا عروش كسرى وقيصر، يستطيع غِرٌّ يهوديٌّ التلاعُب بعقولهم لهذه الدَّرجة؟! ومع ذلك يوجد مَن يتبنى هذا الطَّرح بحسن نيَّة؛ خوفًا من مواجهة الحقيقة المُرَّة، لكن نظرية المؤامرة لا تستقيم، وكثيرًا ما يضطرُّ أصحابها إلى إعمال الخيال والافتراض لسدِّ الثغرات فيها، فبدلًا مِن تفسير حرب صفِّين بأسبابها الحقيقيَّة، وهي مطامح الملك لدى معاوية وعمرو، وتجاوزهما حدودَ الشَّرع في الدِّماء والجنايات في الطَّريقة التي طالبَا بها الأخْذ بدم عثمان، ثمَّ رفْضهما ما ارتآه أبو موسى الأشعريُّ من الصُّلح وتأمير عبد الله بن عمر، وخلع كلٍّ من عليٍّ ومعاوية؛ يحاول الكثيرون إيجاد عناصر متآمرة داخل المعسكرين هي المسؤولة عن كلِّ شيء!”.
قلتُ: ولقد ظهر تحامل المؤلف على معاوية رضي الله عنه منذ الصفحات الأولى من الكتاب، حيث يقول في المقدمة (ص 52) ما نصه: “وإني لأعجب مِن قومٍ يتكلفون في التبرير لمن قُتل جرَّاء مطامحه السياسية عشرات الألوف من خيار الصحابة والتابعين!”.
قلت: إذا كانت الجرأة محمودة في بعض الموطن؛ كالصدع بالحق، ونحو ذلك؛ فهي بالتأكيد مذمومة في مواطن أخرى، كهذا الموطن الذي نحن بصدده، فلقد اتَّهم المؤلف معاوية وعمرو رضي الله عنهما، بحب الدنيا واللهث وراء الملك بأي ثمن، وأنهما تجاوزا حدود الشرع في الدماء والجنايات!
فلا شك أن معاوية رضي الله عنه قد أخطأ، فأهل الشام هم الفئة الباغية بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولكننا ذكرنا أنه اجتهد في هذا الأمر والمجتهد معذور.
قال ابن كثير رحمه الله: “وطلب معاويةُ عمرَو بن العاص ورؤوس أهل الشَّام فاستشارهم، فأبوا أن يُبايعوا حتى يَقتُل عليٌّ رضي الله عنه قَتَلَةَ عثمان، أو أن يُسلم إليهم قَتلةَ عثمان، وإن لم يفعل قاتلوه ولم يبايعوه حتى يقتلَهم عن آخرهم”([18]).
وقال الذهبي رحمه الله: “جاء أبو مسلم الخولانيُّ وأناس إلى معاوية، وقالوا: أنت تُنازِع عليًّا؛ أم أنت مثلُه؟! فقال: لا والله، إنِّي لأعلم أنَّه أفضلُ مني، وأحقُّ بالأمر منِّي، ولكن ألستُم تعلمون أنَّ عثمان قُتل مظلومًا، وأنا ابن عمِّه، والطَّالب بدمه، فأتوه فقولوا له، فليدفعْ إليَّ قتلة عثمان، وأسلِّم له. فأتوا عليًّا، فكلَّموه، فلم يَدفعْهم إليه”([19]).
وقال إمام الحرمين الجويني في لمع الأدلة: “إن معاوية وإن قاتل عليًّا؛ فإنه لا ينكر إمامته، ولا يدعيها لنفسه، وإنما كان يطلب قتلة عثمان ظنًّا منه أنه مصيب، وكان مخطئًا”([20]).
قلتُ: والروايات حول هذا المعنى كثيرة؛ فلن أكثر مِن ذكرها خشية الإطالة، ولعل فيما ذكرنا كفاية، فمعاوية رضي الله عنه كان دومًا يؤكِّد على سبب قتاله، وهو أنه يطالب بدم عثمان رضي الله عنه، حيث أنه ولي الدم كما كان يظن.
ولعل مِن المناسب هنا أن أذكَّر المؤلف وأذكَّر القارىء الكريم بنزرٍ يسيرٍ مِن فضائل معاوية رضي الله عنه؛ لأنه من الشخصيات التي نالها الكثير من التشويه، فمن فضائل معاوية رضي الله عنه: دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم له بالهداية وبالوقاية من العذاب، فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عُمَيْرَةَ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ قَالَ لِمُعَاوِيَةَ: “اللهُمَّ اجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا وَاهْدِ بِهِ”([21]). (هَادِيًا) أَيْ: لِلنَّاسِ أَوْ دَالًّا عَلَى الْخَيْرِ. (مَهْدِيًّا) أَيْ: مُهْتَدِيًا فِي نَفْسِهِ.
وثَبَتَ أن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم دعا لمعاوية فقال: “اللهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ وَالْحِسَابَ، وقِهِ الْعَذَابَ”([22])، فضلًا عن أنه كان مِن كتبة الوحى لرسول اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، ويقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: “ما رأيت أحدًا أسود من معاوية. قيل: ولا عمر؟ قال: كان عمر خيرًا منه، وكان معاوية أسود منه”، وفي رواية: “ما رأيت أحدًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أسود من معاوية. قيل: ولا أبا بكر؟ قال: كان أبو بكر وعمر وعثمان خيرًا منه، وهو أسود منهم”([23]).
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: “ما رأيت رجلًا كان أخلق بالملك من معاوية”([24]).
وقال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: “وأول ملوك المسلمين معاوية وهو خير ملوك المسلمين”([25]).
وقال ابن تيمية رحمه الله: “واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة، فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة وهو أول الملوك؛ كان ملكه ملكا ورحمة”([26]).
وقال أيضًا: “فلم يكن من ملوك المسلمين خيرًا منهم في زمان معاوية إذا نسبت أيامه إلى أيام من بعده، أما إذا نسبت إلى أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل”، وذكر ابن تيمية قول الأعمش عندما ذكر عنده عمر بن العزيز فقال: “فكيف لو أدركتم معاوية؟ قالوا: في حلمه، قال لا والله في عدله”([27]).
قلتُ: والعجيب أن المؤلف قد ذكر قدرًا من فضائل معاوية خلال حديثه، ولكنه وقع في الاضطراب والتناقض -كما ذكرتُ-.
ومن الأمثلة على تناقضه أيضًا: أنه اتهم شيخ الإسلام ابن تيمية بالاضطراب والتكلف، فقال (ص 195) ما نصه: “ومِن مظاهر هذا الاضطراب والتكلُّف: تَكرار ابن تيميَّة في (منهاج السنة) وغيره أنَّ معاوية لم يَسعَ إلى الخلافة في حياة عليٍّ، ولا نازع عليًّا الخلافة، وهو أحيانًا يُطلق، فيقول -مثلًا- متحدِّثًا عن عليٍّ: ولا ادَّعى أحدٌ قط في زمن خلافته أنَّه أحقُّ بالإمامة منه، وأحيانًا يتحفَّظ بعض الشيء، فيصرِّح أنَّ منازعة معاوية لعليٍّ في الإمامة إنَّما حدثت بعد حُكم الحَكمين، فيقول: وكذلك معاوية لم يبايعْه أحدٌ على الإمامة، ولا حين كان يقاتل عليًّا بايعه أحد على الإمامة، ولا تسمَّى بأمير المؤمنين، ولا سمَّاه أحد بذلك، ولا ادَّعى معاوية ولايةً قبل حُكم الحَكمين”.
ثم يعقِّب المؤلف قائلًا: “وكل هذا تكلُّف في التأوُّل يناقض نصوصًا صحيحة صريحة؛ أنَّ الدلائل على مطامح الملك لدى معاوية أثناء الفتنة كثيرة وافرة، وهي كلُّها تدلُّ على أنَّ قصده من الخروج على الخليفة الرابع لم يكن مجرَّد الثأر للخليفة الثَّالث، بل كانت مطامح الملك حاضرةً في سعيه منذ أوَّل وهلة”، ثم ذكر المؤلف بعض النُّصوص التي يستدلُّ بها على ذلك الزَّعم الخاطئ، منها حديث البخاري في قصَّة التحكيم.
ثم قال في (ص: 206): “إنَّ كلَّ هذه النصوص تدلُّ على أنَّ معاوية سعى إلى الملك بالفعل وبالقول، وصرَّح بمطامحه في قيادة الأمَّة دون لبس. فالقول بعد ذلك: إنَّه لم يُنازِع عليًّا الخلافة ولا سعى إليها، تكلُّف بارد، كان الأولى بشيخ الإسلام ابن تيميَّة أن يتنزَّه عنه”.
قلتُ: لا شك أن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ليس فيه اضطراب -كما زعم المؤلف!-، بل إن كلام شيخ الإسلام أسلم أصحُّ وأحكم وأضبط، والنص التي استدلَّ به المؤلِّف على طلب معاوية للخلافة كان بالفِعل بعد حُكم الحَكمين، والعجيب أن رواية البخاري نفسها التي استدل بها المؤلف تثبت ذلك.
وهاك نص الرواية: (عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: دَخَلْتُ علَى حَفْصَةَ ونَسْوَاتُهَا تَنْطُفُ، قُلتُ: قدْ كانَ مِن أمْرِ النَّاسِ ما تَرَيْنَ، فَلَمْ يُجْعَلْ لي مِنَ الأمْرِ شيءٌ، فَقَالَتْ: الحَقْ فإنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَكَ، وأَخْشَى أنْ يَكونَ في احْتِبَاسِكَ عنْهمْ فُرْقَةٌ، فَلَمْ تَدَعْهُ حتَّى ذَهَبَ، فَلَمَّا تَفَرَّقَ النَّاسُ خَطَبَ مُعَاوِيَةُ قَالَ: مَن كانَ يُرِيدُ أنْ يَتَكَلَّمَ في هذا الأمْرِ فَلْيُطْلِعْ لَنَا قَرْنَهُ، فَلَنَحْنُ أحَقُّ به منه ومِنْ أبِيهِ، قَالَ حَبِيبُ بنُ مَسْلَمَةَ: فَهَلَّا أجَبْتَهُ؟ قَالَ عبدُ اللَّهِ: فَحَلَلْتُ حُبْوَتِي، وهَمَمْتُ أنْ أقُولَ: أحَقُّ بهذا الأمْرِ مِنْكَ مَن قَاتَلَكَ وأَبَاكَ علَى الإسْلَامِ، فَخَشِيتُ أنْ أقُولَ كَلِمَةً تُفَرِّقُ بيْنَ الجَمْعِ، وتَسْفِكُ الدَّمَ، ويُحْمَلُ عَنِّي غَيْرُ ذلكَ، فَذَكَرْتُ ما أعَدَّ اللَّهُ في الجِنَانِ، قَالَ حَبِيبٌ: حُفِظْتَ وعُصِمْتَ).
ففي قَوْله: “فَلَمَّا تفرق النَّاس” أَي: بعد أَن اخْتلف الحكمان، وهما: أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَكَانَ حكمًا من جِهَة عَليّ رضي الله عنه، وَعَمْرو بن الْعَاصِ وَكَانَ حكمًا من جِهَة مُعَاوِيَة رضي الله عنه؛ ولذا فالذي وقع في التكلف والاضطراب والتناقض هو المؤلف! والله المستعان.
الوقفة السابعة:
ومن المؤاخذات على المؤلف كذلك: إطلاقه ما سمَّاه: (مدرسة التشيُّع السُّني) على بعض العلماء؛ ممَّن بذلوا جهدًا مشكورًا في الدفاع عن الصحابة رضي الله عنهم، وتنقيح بعض الروايات التاريخية التي تناولها بعض المنحرفين حول أحداث الفتنة، وكان ذلك في الفصل الأخير من الكتاب تحت عنوان: “حوارات مع مدرسة التشيُّع السُّني”.
وقد صرَّح المؤلف بأنه يقصد بمدرسة التشيُّع السُّني؛ الإمام ابن العربي صاحب كتاب “العواصم من القواصم” وتلامذته المعاصرين على حدِّ تعبيره: كمحب الدين الخطيب، وغيره، ممَّن نهجوا هذا النهج.
وقد ذكر المؤلف عدة مآخذ على ابن العربي، منها: ما يتعلق بمنهج ابن العربي في تناول هذه القضية، وكذا تحامل ابن العربي على المخالفين وعدم الإنصاف، ورده للأحاديث الصحيحة والوقائع الثابتة، وحِدَّة طبعه وسطوته، وغير ذلك من الانتقادات التي ذكرها المؤلف.
والذي نراه في الفصل المذكور: أن المؤلف رغم ثنائه على ابن العربي؛ إلا أنه هَّول من بعض الأخطاء والمآخذ التي أخذها على ابن العربي؛ لا سيما وأن كتاب: “العواصم” مِن أعظم الكتب التي واجهت انحراف الروافض، وكان ينبغي على المؤلف أن ينظر إلى الجُهد المبذول في كتاب: “العواصم” بعين العدل والإنصاف، وأن يراعي الظروف والبيئة والعصر الذي أُلَّف فيه ابن العربي كتابه؛ لمواجهة أهل البدع من الروافض وغيرهم.
وأخيرًا:
كانت هذه بعض الوقفات النقدية حول كتاب: “الخلافات السياسية بين الصحابة – رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ”؛ أردتُ أن أسلِّط الضوء فيها على بعض المسائل المهمة، وذلك إظهارًا للحق الذي أرتضيه، وتنقيحًا لبعض المرويات التاريخية الذي ذكرها المؤلف، ودفاعًا عن الصحابة رضي الله عنهم.
ولعل هذه الوقفات هي أهم ما يستحق تسليط الضوء عليه في الكتاب، وإلا فما زال هناك تحفظات على بعض المسائل التي تعرَّض لها المؤلف، ولكن أرى أن فيما ذكرنا كفاية، فالأدلة على فضائل الصحابة، متضافرة ومتواترة، وكان حبهم لدينهم وأمتهم متوهجًا في نفوسهم؛ ولذا قد وصلوا إلى قمة المجد والحضارة، لكننا نحتاج فقط إلى فهم عميق للأحداث، ونظرة شمولية دقيقة لاستقراء الواقع آنذاك، حتى ننهل من الرصيد الثقافي للأمة؛ فليس في تاريخ أمتنا ما يُكدر صفوها أو يُعكر نقائها.
فإعادة كتابة التاريخ أو إعادة صياغته، تعني: كتابته بلغة معاصرة مع تنقيحه مما عَلَق به من أباطيل، ولا تعني أن نقوم بالتغريد خارج السرب، وأن نتحول إلى خنجرٍ مسمومٍ يطعن في ظهر الأمة، ويكفينا ضراوة الصراع القائم الآن على أشده؛ للنيل من هذه الأمة، وتلويث تاريخها المشرق، ولابد أن نعلم أن المكون الحضاري الذي نرومه ونطلبه لابد أن ينضبط بشرط: “مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي” كما قال صلى الله عليه وسلم”([28])؛ ولذا يجب على المؤرخين والمفكرين على اختلاف مشاربهم وتنوع روافدهم، أن ينضبطوا بهذا الضابط، وأن يعملوا على إبراز القدوات الصالحة التي دخلت التاريخ من أوسع أبوابه، وتركت صفحات بيضاء ناصعة لا تُنسى على مرِّ الأيام والسنين؛ لا أن يساهموا دون قصدٍ في جريمة إسقاط القدوات. والله المستعان.
وأختم هذه الإضاءات المتواضعة، بعدة آيات مِن كتاب الله تعالى؛ ما أحوجنا إلى تدبرها:
– (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100].
– (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
– (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [البقرة: 134].
– (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة: 286].
فاللهم هذا مبلغي مِن العلم، فتجاوز برحمتك عن خطئي، واغفر بعفوك تقصيري، واجعلنا ممن يقولون فيعملون، ويعلمون فيخلصون، ويخلصون فيقبلون.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
——
([1]) للاطلاع على تفاصيل الأحداث حول مقتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، ومعركتي: الجمل وصفين، راجع كتابنا: “أحداث الفتن السياسية في عصر الخلافة الراشدة والدولة الأموية “.
([3]) مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/ 155).
([4]) الباعث الحثيث اختصار علوم الحديث (ص 182).
([6]) البداية والنهاية (8/ 133).
([8]) البداية والنهاية (4/ 538).
([11]) مجموع الفتاوى (4/ 467).
([13]) منهاج السنة النبوية (4/ 487).
([14]) منهاج السنة (1/ 536 – 537).
([15]) البداية والنهاية (5/ 249).
([18]) البداية والنهاية (10/ 492).
([19]) سير أعلام النبلاء (3/ 140).
([20]) لمع الأدلة في عقائد أهل السنة (ص 115).
([21]) رواه أحمد (17895)، والترمذي (3842)، وصححه الألباني.
([22]) رواه أحمد (17192)، وابن حبان (7210)، وقال الألباني: “صحيح لغيره”.
([23]) البداية والنهاية (11/ 430). وأسود أي: أحكم. والأسْوَدُ من الناس: أكثرهُم سيادة.
([24]) المصدر السابق (11/ 439).
([26]) مجموع الفتاوى (4/ 478).
([27]) منهاج السنة (6/ 232) (3/ 185).
([28]) رواه الترمذي (2641)، وحسنه الألباني.
كتبه:
د. زين العابدين كامل
مؤرخ إسلامي.. وأكاديمي متخصص – جامعة الإسكندرية