محاولات الأعداء .. وشمس الإسلام
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلا شك أن تمسُّك الأمة المسلمة بدينها وثوابتها مِن أهم عوامل النصر والتمكين والنهضة، ولا أدل على ذلك مِن أن الإسلام في فترة يسيرة في حساب القرون والأزمنة، ظهر وامتدت رقعته حتى حدود الصين والهند، وأقصى الأندلس، وقلب إفريقية، وأنشأ حضارة متكاملة، وكان المرجو والمعقول أن تستمر هذه الحضارة، ولكن الذي حدث أن منحنى التقدم توقف لفترة ثم بدأ بعد ذلك في الهبوط الحاد!
وذلك يعود إلى عدة أسباب، منها:
تفريط المسلمين في دينهم ومنهجهم وثوابتهم، ثم الحملات الصليبية المتتابعة، وهذه الحملات أحدثت دويًّا هائلًا أدى إلى تراجع ملحوظ في حضارة المسلمين وقوتهم، ثم حركة التغريب في الوطن العربي.
ولقد سعى الاستعمار إلى إيقاف شمس حضارة الإسلام التي ظلت مشرقة لعدة قرون متتابعة، وقد ظهر ذلك جليًّا في أواخر عهد الخلافة العثمانية، فلقد نجح أعداء الأمة آنذاك في استئصال كل الكفاءات المتواجدة على الساحة الإسلامية والعربية، وذلك في ظل ضراوة الصراع القائم في حينها، وأصبح العالم ينظر إلى دولة المسلمين على أنها “تركة الرجل المريض!”، والكل ينتظر متى ينتهي أجله!
وبدأت عمليات التغريب التي استمرتْ إلى وقتنا هذا.
ومِن هنا نقول: إنه لا تعارض بيْن الأصالة والمعاصرة، فإن الأصالة مصطلح يعنى به الرجوع إلى الأصول، والتي تعني عند أمة الإسلام الوحي المتمثل في الكتاب والسُّنة؛ لأنهما مصدرا التشريع الإسلامي، وهي الميراث الديني والثقافي والحضاري، وأما المعاصرة فهي تعني مواكبة العصر ومعايشته؛ فلكل عصر عصريته، والحداثة أو المعاصرة تعني عملية التغيير التي بمقتضاها تحصل المجتمعات المختلفة على الصفات المشتركة التي تتميز بها المجتمعات المتقدمة.
والعصرية: مصطلح يٌطلق على المجتمع إذا اتصف بها، وهي تعني مجموعة الخصائص البنائية التي تميز المجتمع العصري، وهذا التقدم والتطور في الحياة المعاصرة ليس فيه حرج؛ بشرط ألا يتعارض مع نصوص الوحي، أو يتعارض مع ثوابت الدين؛ أما أن تكون المعاصرة هي محاولة تغريب العالم الإسلامي؛ وطمس هويته الإسلامية، وصبغها بالصبغة الغربية؛ فهذا هو المحذور، فلا مانع مِن التأثر بالثقافات الأخرى، فالتأثير والتأثر مِن خصائص أي حضارة، ولكن يجب أن تكون هناك معايير لهذا التأثر، بحيث يكون ما نتأثر به قائمًا على المصلحة التي لا تتعارض أو تؤثر على العقيدة وأحكام الشريعة.
ولقد حقق الاستعمار الأوروبي هدفه في الاستفادة مِن المنشآت والإصلاحات المادية التي قام بها، والتي أحدثتْ قدرًا كبيرًا مِن التغريب في مصر عن طريق العلوم والمناهج التي تٌدرس في بعض المدارس: كتدريس الرسم، والموسيقى، وغيرهما.
وها نحن الآن في مجتمعاتنا نرى قدرًا قد انتشر مِن مظاهر التغريب: كالتبرج والعري والسفور، وإعطاء أسماء أجنبية للمحال التجارية، وللأبناء أيضًا! وتقليد سلوكيات الغرب وعاداتهم، والاحتفال بالأعياد التي ليستْ مِن الإسلام؛ فهذه هي مظاهر التغريب المذمومة، فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ)، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اليَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: (فَمَنْ؟!) (متفق عليه).
ومع ذلك فإننا نؤكد على أن: “شمس الإسلام” ما زالتْ مشرقة -ولن تزال-، وإذا غربتْ في مكانٍ فإنها تشرق في مكان آخر، أمتٌنا أمةٌ منصورة ظاهرة إلى قيام الساعة، لا تضعف في ناحيةٍ إلا وتَقوى وتنتصر في ناحيةٍ أخرى؛ فعندما ضعفت الدولة العباسية ظهر السلاجقة وحموا الأمة مِن الدولة البويهية الشيعية، ثم ظهر “نور الدين” في الأراضي الشامية.
ولما ضعف الإسلام في الديار المغربية والمصرية ظهر “صلاح الدين” بالدولة الأيوبية.
ولما استعصت على الأمويين والعباسيين القسطنطينية استسلمت للدولة العثمانية، وتحققت البشارة النبوية، ولما خرج المسلمون مِن الأندلس انتشر الإسلام وسط إفريقيا والجزائر الاندونيسية، فهذه الأمة محفوظة بحفظ الله لها، وهو الذي يدبِّر لها أمرها.
ومِن تقدير الله -تعالى- أنه في عام 656هـ، ولد “عثمان أرطغرل” مؤسس الدولة العثمانية، وهي السَّنة التي غزا فيها المغول بلاد المسلمين بقيادة “هولاكو”، وأسقطوا بغداد عاصمة الخلافة العباسية.
لقد كان الخطب عظيمًا والحدث جللًا، والمصيبة كبرى؛ جاء التتار فهتكوا الأعراض، وسفكوا الدماء، وقتلوا الأنفس، ونهبوا الأموال، وخرَّبوا الديار، في تلك الظروف الصعبة وُلد “عثمان” مؤسس الدولة العثمانية.
فبداية التمكين هي أقصى نقطة مِن الضعف، وتلك هي بداية الصعود نحو العزة، والنصر والتمكين.
والله المستعان.