د. زين العابدين كامل: ماذا تعرف عن القائد المجاهد محمود بن سبكتكين؟
ماذا تعرف عن القائد محمود بن سبكتكين؟
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،
لقد كان فتح بلاد السند([1]) والهند في أواخر القرن الأول الهجري، في عصر الدولة الأموية، وقد تم ذلك الفتح على يد محمد بن القاسم الثقفي، وهو الذي قاد حركة الفتوحات عام ( 89 – 96هـ )، وقد سبق ذلك جهود كثيرة قد مهدت لهذا الفتح منذ عصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقد كانت الديانة المنتشرة في بلاد السند والهند آنذاك هي البرهمية، وهي ديانة تقوم على فكرة الحلول وتناسخ الأرواح وألوهية براهما، وقد كانت هناك ديانات أخرى بجوار هذه الديانة مثل الجينية والبوذية، ولكن الديانة البرهمية كانت هي الأوسع انتشارًا وهي ديانة الطبقة الحاكمة.
وقد كان كثير من أهل السند والهند يعانون من اضطهاد البراهمة، لذا اعتنق كثير منهم الإسلام مع دخول الفاتحين، لاسيما الذين فروا من السند إلى بلاد فارس قبل ذلك، بل ومنهم من لحق بالمسلمين في أرض العراق قبل الفتح، فأنزلهم أبو موسى الأشعري مدينة البصرة، وكان ذلك في خلافة علي بن أبي طالب.
ومن المعلوم أن الدولة العباسية قد مرت خلال عمرها بعدة مراحل وأطوار، فقد بدأت دولة قوية متسعة الأطراف، ثم مرت بعد ذلك بمراحل ضعف متفاوتة.
وفي إحدى مراحل الضعف بدأت بعض الدول التابعة لها تستقل بذاتها، وهذه الدول يُطلق عليها المؤرخون؛ الدول المستقلة أو المحلية، ومنها: الدولة الطاهرية والدولة الصفارية والدولة السامانية والدولة البويهية، والدولة الطولونية والدولة الإخشيدية والدولة السلجوقية ودولة الأغالبة وغيرها من الدول المستقلة.
وقد ساهمت بعض تلك الدول في خدمة الإسلام، وساعدت على نشر الدين، ورفعت علم الجهاد ضد أعداء الأمة، وكانت موالية للدولة العباسية، والبعض الآخر كان خنجرًا مسمومًا يطعن في جسد الأمة.
وقد حفظ لنا التاريخ جهود بعض أبناء الأمة الذين لعبوا دورًا كبيرًا من أجل رفعتها، لاسيما في أوقات الضعف، التي حلت بالدولة العباسية.
ومن هؤلاء المجاهدين الأبطال: محمود بن سُبُكْتِكِين.
من هو محمود بن سُبُكْتِكِين ؟
هو الأمير المجاهد محمود بن سُبُكْتِكِين الغزنوي، تركي الأصل، ولد عام 361هـ، يكنى أبا القاسم ويكنى أبوه أبا منصور، تولى إمرة حكم غزنةَ([2]) بعد وفاة والده؛ الأمير ” سُبُكْتِكِين ” عام 388 هـ، بعدما أنشأ دولة كبيرة قوية، تشمل إقليم خراسان وإقليم سجستان.
وقد زالت على يده دولة سامان، وكان آل سامان قد ملكوا سمرقند وفرغانة وتلك النواحي أكثر من مائة سنة، فقصدهم محمود وقبض عليهم ومالك ديارهم وأقام الخطبة للخليفة العباسي القادر باللَّه، ولذا لقبه بيمينَ الدَّولة.
وقد لعب محمود بن سُبُكْتِكِينَ دورًا رائدًا في بلاد الهند، حيث كان أمراء الهند آنذاك يتربصون بالمسلمين، فخاض ابن سُبُكْتِكِين معارك كثيرة، وأقام دولة عظيمة شاسعة، تضم إيران وما وراء النهر والشمال الهندي كله.
قال ابن كثير:” وقد غزا الْمَلِكُ الْكَبِيرُ الْجَلِيلُ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ، صَاحِبُ غزنة، في حدود أربعمائة، بلاد الهند فدخل فِيهَا وَقَتَلَ وَأَسَرَ وَسَبَى وَغَنِمَ وَدَخَلَ السُّومَنَاتَ وكسر الند الأعظم الذي يعبدونه، واستلب سيوفه
وقلائده، ثمَّ رجع سالماً مؤيداً منصوراً”أ.هـ.
وكان من إنجازات ابن سُبُكْتِكِين محاربة الدولة البويهية الشيعية، و تحالفه مع الخلافة العباسية ضد الدولة العُبيدية – الفاطمية – وكان يعمل على نشر السنة ومحاربة البدعة، أقام العدل ونكس الأصنام ورؤوس الكفر وهدمها.
وكان محمود ابن سُبُكْتِكِين محبًا للعلماء والفقهاء والصالحين، ولذا اثنى عليه الفضلاء والعلماء.
قال ابن كثير:” وَفِي سَنَةِ ثَمَانٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ اسْتَتَابَ الْقَادِرُ بِاللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فُقَهَاءَ الْمُعْتَزِلَةِ الْحَنَفِيَّةَ، فَأَظْهَرُوا الرُّجُوعَ، وَتَبَرَّءُوا مِنَ الِاعْتِزَالِ وَالرَّفْضِ وَالْمَقَالَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِلْإِسْلَامِ، وَأَخَذَ خُطُوطَهُمْ بِذَلِكَ، وَأَنَّهُمْ مَتَى خَالَفُوهُ حَلَّ بِهِمْ مِنَ النَّكَالِ وَالْعُقُوبَةِ مَا يَتَّعِظُ بِهِ أَمْثَالُهُمْ، وَامْتَثَلَ يَمِينُ الدَّوْلَةِ وَأَمِينُ الْمِلَّةِ أَبُو الْقَاسِمِ مَحْمُودُ بْنُ سُبُكْتِكِينَ أَمْرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَاسْتَنَّ بِسُنَّتِهِ فِي أَعْمَالِهِ الَّتِي اسْتَخْلَفَهُ عَلَيْهَا مِنْ خُرَاسَانَ وَغَيْرِهَا، فِي قَتْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَالرَّافِضَةِ وَالْإِسْمَاعِيلِيَّةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَالْجَهْمِيةِ وَالْمُشَبِّهَةِ، وَصَلَبَهُمْ، وَحَبَسَهُمْ وَنَفَاهُمْ، وَأَمَرَ بِلَعْنِهِمْ عَلَى مَنَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِبْعَادِ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ، وَطَرْدِهِمْ عَنْ دِيَارِهِمْ، وَصَارَ ذَلِكَ سُنَّةً فِي الْإِسْلَامِ”.
وقال ابنُ كثير أيضًا: ” كان يمينُ الدَّولة يخطُبُ في سائِرِ ممالِكِه للخليفةِ القادر بالله، وكانت رسُلُ الفاطميِّينَ مِن مصر تَفِدُ إليه بالكُتُبِ والهدايا لأجلِ أن يكونَ مِن جِهَتِهم، فيحرِقُ بهم ويحرِقُ كتُبَهم وهداياهم، وفتَحَ في بلاد الكُفَّارِ مِن الهند فتوحاتٍ هائلةً، لم يتَّفِقْ لغَيرِه من الملوكِ، لا قَبلَه ولا بعده، وغَنِمَ منهم مغانمَ كثيرةً لا تَنحَصِرُ ولا تنضَبِطُ، مِن الذَّهَب والمجوهرات، والسَّبْي، وكسَرَ مِن أصنامِهم شيئًا كثيرًا، وأخذ مِن حِليَتِها, ومِن جملةِ ما بلغ تَحصيلُه مِن سومنات أعظَمِ أصنامِهم مِن حُلِيِّ الذَّهَبِ عشرون ألف ألف دينار، وكَسَرَ مَلِكَ الهِندِ الأكبَر الذي يُقالُ له صينال، وقهَرَ مَلِكَ التُّركِ الأعظَم الذي يقال له إيلك الخان، وأباد مُلْكَ السَّامانيَّة، الذين ملكوا العالَمَ في بلاد سمرقند وما حولها، وبنى على جيحون جسرًا عظيمًا أنفَقَ عليه ألفي ألف دينار، وهذا شيءٌ لم يتَّفِقْ لغيره، وكان في جيشِه أربعُمِئَة فيلٍ تُقاتِلُ معه، وهذا شيءٌ عظيمٌ وهائِلٌ، وكان مع هذا في غايةِ الدِّيانةِ والصِّيانةِ وكراهةِ المعاصي وأهلِها، لا يحِبُّ منها شيئًا، ولا يألَفُه، ولا أن يَسمَعَ بها، ولا يَجسرُ أحَدٌ أن يُظهِرَ مَعصيةً ولا خَمرًا في مملَكتِه، ولا غير ذلك، ولا يُحِبُّ الملاهيَ ولا أهلَها، وكان يحِبُّ العُلَماءَ والمُحَدِّثين ويُكرِمُهم ويُجالِسُهم، ويحِبُّ أهلَ الخيرِ والدِّينِ والصَّلاح، ويُحسِنُ إليهم، وكان حنفيًّا ثمَّ صار شافعيًّا على يدي أبي بكرٍ القَفَّال الصغيرِ على ما ذكره إمامُ الحَرَمينِ وغَيرُه”.
وقال عنه ابن تيمية في الفتاوى : “وأظهر السلطان محمود بن سبكتكين لعنة أهل البدع على المنابر وأظهر السنة وتناظر عنده ابن الهيصم وابن فورك في مسألة العلو فرأى قوة كلام ابن الهيصم فرجح ذلك. كما قام بالقضاء على كل المذاهب والعقائد الضالَّة المخالفة لعقيدة أهل السُّنَّة والجماعة؛ مثل: الاعتزال، والتشيع، والجهمية، والقرامطة، والباطنية. والعمل على نشر عقيدة السلف الصالح بين البلاد الواقعة تحت حكمه، وتصدَّى لمحاولات وإغراءات الدولة الفاطمية للسيطرة على دولته، وقام بقتل داعية الفاطميين التاهرتي، الذي جاء للتبشير بالدعوة الفاطمية ببلاد محمود بن سبكتكين، وأهدى بغلته إلى القاضي أبي منصور محمد بن محمد الأزدي وقال: “كان يركبها رأس الملحدين، فليركبها رأس الموحِّدين”
وقال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّة أيضًا: ” لَمَّا كانت مملكةُ مَحمودِ بنِ سبكتكين من أحسَنِ ممالِكِ بني جِنسِه، كان الإسلامُ والسُّنَّة في مملكَتِه أعَزَّ؛ فإنَّه غزا المُشرِكينَ مِن أهلِ الِهندِ، ونشَرَ مِن العدلِ ما لم ينشُرْه مِثلُه، فكانت السُّنَّةُ في أيامِه ظاهِرةً، والبِدَعُ في أيَّامِه مَقموعةً”أ.هـ.
هذا وقد توفي عام 421هـ. فرحم الله هذا البطل الذي سطر تاريخًا مشرقًا خلال عمره المبارك.
وهكذا فإن دراسة التاريخ تبرز القدوات الصالحة، والعلماء والمصلحين والمجاهدين.