مقالات تاريخية

نفض الغبار عن تاريخ الأخيار (14)

(تحقيق موقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه من قتال يوم الجمل)

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،

لقد تحدثنا في مقالنا السابق عن محاولات الصلح التي تمت بين الفريقين، أم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم من جانب، والفريق الآخر بقيادة علي بن أبي طالب رضي الله عنه من جانب آخر، وقد شارك في محاولات الصلح عددُ من الصحابة وكبار التابعين وقد تم الاتفاق على إبرام الصلح، وذلك بعد الدور العظيم الذي قام به القعقاع بن عمرو التميمي رضي الله عنه، ونستعرض في عدة مقالات مواقف (علي بن أبي طالب وأم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم من قتال يوم الجمل).

أولًا: موقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه من قتال يوم الجمل:([1])

لقد كان في جيش علي -رضي الله عنه- بعض الطغاة الذين شاركوا في قتل عثمان -رضي الله عنه-، فلما نزل الناس منازلهم واطمأنوا؛ خرج علي طلحة والزبير -رضي الله عنهم- فتوافقوا وأكدوا على حتمية إتمام الصلح، ثم رجع عليٌّ إلى عسكره، ورجع طلحة والزبير إلى عسكرهما، وقد انتشر خبر الصلح بين أتباعهم ، وهنا حرص أتباع ابن سبأ على إشعال الفتنة وتأجيج نيرانها حتى يفلتوا مِن القصاص، وبات الذين أثاروا الفتنة بشرِّ ليلة باتوها قط؛ إذ أشرفوا على الهلاك، وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها، حتى اجتمعوا على إنشاب الحرب في السرِّ، واستسروا بذلك خشية أن يُفتضح أمرهم، وقال لهم عبد الله بن سبأ : “يا قوم إن عزّكم في خلطة الناس فصانعوهم، وإذا التقى الناس غدًا فانشبوا القتال؛”.

وقبيل الفجر انقسم أهل الفتنة بالفعل إلى فريقين، ونفذوا ما تم الاتفاق عليه، فنهضوا مِن قبْل طلوع الفجر وهم قريب مِن ألفي رجل؛ فانصرف كل فريق إلى قراباتهم فهجموا عليهم بالسيوف، وقتلوا مجموعة كبيرة مِن الفريقين، وصاحوا وصرخوا أن كلاً مِن الفريقين: البصرة والكوفة قد هجم على الآخر، وفزع الناس مِن نومهم إلى سيوفهم، وليس لديهم شك أن الفريق الآخر قد غدر بهم، ونقض ما اتفق عليه مِن وجوب الصلح؛ فثارت كل طائفة إلى قومهم ليمنعوهم، وقام الناس مِن منامهم إلى السلاح، فقالوا: طرقتنا أهل الكوفة ليلاً، وبيتونا وغدروا بنا، وظنوا أن هذا عن ملأ مِن أصحاب علي -رضي الله عنه-؛ فبلغ الأمر عليًّا فقال: ما للناس؟ فقالوا: بيتنا أهل البصرة، فثار كل فريق إلى سلاحه ولبسوا اللأمة وركبوا الخيول، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا، وقامت الحرب على ساق وقدم، وتبارز الفرسان، ولم يكن هناك أي فرصة للتثبت مِن الأمر في ظلام الليل, وفي الجانب الآخر ينادي طلحة وهو على دابته وقد غشيه الناس فيقول: يا أيها الناس أتنصتون؟ فجعلوا يركبونه ولا ينصتون، فما زاد أن قال: أف أف! فراش نار، وذباب طمع!

ومِن خلال هذا العرض يتبين أثر ابن سبأ وأعوانه في إشعال المعركة، ويتضح بما لا يدع مجالاً للشك حرص الصحابة -رضي الله عنهم- على الإصلاح وجمع الكلمة، وهذا هو الحق الذي تثبته النصوص وتطمئن إليه النفوس، لقد كانت المعركة عنيفة و قاسية، وقد وقعت المعركة يوم الجمعة في السادس عشر مِن جمادى الآخرة، عام 36 هـ / 656 م في منطقة “الزابوقة” قرب البصرة، وأثناء الجولة الأولى من المعركة و التي استمرت مِن الفجر حتى قبيل الظهيرة، قد نادى علي -رضي الله عنه- في جيشه، كما نادى طلحة والزبير -رضي الله عنهما- في جيشهما: لا تقتلوا مدبرًا، ولا تُجهزوا على جريح، ولا تلحقوا خارجًا مِن المعركة تاركًا لها، وقد تقابل أمير المؤمنين عليٌّ والزبير -رضي الله عنهما-، فكلمه عليٌّ و ذكَّره بحديث سمعه مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول له -أي الزبير-: (يَا زُبَيْرُ, أَمَا وَاللهِ لَتُقَاتِلَنَّهُ وَأَنْتَ ظَالِمٌ لَهُ) ([2]) ، وقد كثر الجرحى والقتلى من الفريقين، وكانت الغلبة فيها لجيش علي -رضي الله عنه-، وكان علي -رضي الله عنه- يراقب سير المعركة، ويرى القتلى والجرحى في الجانبين؛ فيتألم ويحزن، وأقبل علي على ابنه الحسن، وضمّه إلى صدره، وصار يبكي ويقول له: يا بُني، ليت أباك مات قبْل هذا اليوم بعشرين عامًا، فقال الحسن: يا أبتِ، لقد كنتُ نهيتك عن هذا، فقال علي: ما كنتُ أظن أن الأمر سيصل إلى هذا الحد، وما طعمُ الحياة بعد هذا؟ وأيُّ خير يُرجى بعد هذا؟!([3]) وبسقوط القتلى والجرحى مِن الجانبين تكون قد انتهت الجولة الأولى مِن معركة الجمل، وكان علي -رضي الله عنه- مِن الخلف يأمر بالكف عن القتال، وعدم الهجوم على البصريين، لكن السبئيين في مقدمة جيشه لا يستجيبون له، ويأبون إلا إقدامًا وهجومًا وقتالاً، ثم اشتدت الحرب واشتعلت، ووجَّه السبئيون جهودهم لعقر الجمل، وقتل عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها-؛ فسارع جيش البصرة لحماية عائشة -رضي الله عنها-، وقاتلوا أمام الجمل، وكان لا يأخذ أحد بخطام الجمل إلا قُتِل، حيث كانت المعركة أمام الجمل في غاية الشدة والقوة، حتى أصبح الهودج كأنه قٌنفٌذ ([4]) مما رمي فيه مِن النبل ، وقتل حول الجمل كثير مِن المسلمين ، وكان علي -رضي الله عنه- يردد: اللهم ليس هذا أردتُ، اللهم ليس هذا أردتُ، ثم فكر علي -رضي الله عنه- كيف يقف هذا القتال؟ وأيقن أن في بقاء الجمل استمرارًا للحرب، وهلاكًا للناس، وأن أصحاب الجمل لن ينهزموا أو يكفوا عن الحرب ما بقيت أم المؤمنين -رضي الله عنها- في الميدان، كما أن في بقائها خطرًا على حياتها؛ فالهودج الذي هي فيه أصبح كالقنفذ مِن السهام, فأمر علي نفرًا مِن جنده، منهم محمد بن أبي بكر “أخو أم المؤمنين” وعبد الله بن بديل أن يعرقبا([5]) الجمل، ويخرجا عائشة -رضي الله عنها- مِن هودجها إلى الساحة، فعقروا الجمل, واحتمل أخوها محمد وعبد الله بن بديل الهودج حتى وضعاه أمام علي، فأمر به علي، فأدخل في منزل عبد الله بن بديل, وهنا بدأت الأمور تهدأ، وأخرجت أم المؤمنين مِن الميدان، ولو لم يتخذ هذا الإجراء لاستمرت الحرب إلى أن يَفنى جيش البصرة أصحاب الجمل، أو ينهزم جيش علي -رضي الله عنه-.

وعندما بدأت الهزيمة نادى علي أو مناديه في جيشه: أن لا يتبعوا مدبرًا، ولا يجهزوا على جريح، ولا يغنموا إلا ما حمل إلى الميدان أو المعسكر مِن عتاد أو سلاح فقط، وليس لهم ما وراء ذلك مِن شيء، ونهاهم أن يدخلوا الدور؛ ليس هذا فحسب، بل قال لمن حاربه مِن أهل البصرة: مَن وُجد له شيئًا مِن متاع عند أحدٍ مِن أصحابه؛ فله أن يسترده، وهكذا في أوقات الفتن تطيش العقول ولا يسمع أحدٌ أحدًا، وهكذا ظهر جليًّا أن القتال الذي وقع بيْن الصحب الكرام -رضي الله عنهم- وقع رغمًا عنهم.

ونستكمل تحقيق مواقف الصحابة في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.

 

  1. () تاريخ خليفة بن خياط، تاريخ الرسل والملوك للطبري ، البداية والنهاية لابن كثير، محمد سهيل طقوش، تاريخ الخلفاء الراشدين، الفتوحات والإنجازات السياسية، أحداث الفتن السياسية في عصر الخلافة الراشدة والدولة الأموية لزين العابدين كامل.
  2. () أخرجه الحاكم وغيره، وقد اختلف العلماء في صحته، وقال الألباني -رحمه الله- في السلسلة الصحيحة: “صحيح بمجموع طرقه”.
  3. () البداية والنهاية لابن كثير (8/521).
  4. () معنى تَقَنْفَذُ: تقبَّض. و(القُنْفُذ): دويْبَّة مِن الثَّدييات ذات شوك حادّ، يلتفُّ فيصير كالكرة، وبذلك يقي نفسه مِن خطر الاعتداء عليه. انظر المعجم الوسيط،(2/760).
  5. () أي يضربا قوائم الجمل بالسيف.

 

زر الذهاب إلى الأعلى