صفحات مِن ذاكرة التاريخ (38) قراءة حول الملك والخلافة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زلنا نلقي الضوء على بعض المسائل الخاصة بالملك والخلافة، وذلك بعد عرضنا لبعض أحداث الفتن السياسية التي وقعتْ في عصر الصحابة -رضي الله عنهم-.
ثانيًا: مَن يرشح الخليفة ويوليه وينصبه؟
يرشح الخليفة “أهل الحل والعقد” عن طريق الشورى، وأهل الحل والعقد هم أهل العلم وأولو المكانة، ووجوه الناس وزعماؤهم، وموضع الثقة بالنسبة للناس؛ فالأمة تتبعهم في طاعة مَن يولونه، ولا يلزم اجتماعهم جميعًا، بل ما يتيسر اجتماعهم منهم، وهذا هو المأخوذ مِن عمل الصحابة -رضي لله عنهم- في تولية الخلفاء الراشدين؛ فإن عمر -رضي الله عنه- عدَّ البدء في بيعة أبي بكر -رضي الله عنه- فلتة؛ لأنه وقع قبْل أن يتم التشاور بيْن جميع أهل الحل والعقد؛ إذ لم يكن في سقيفة بني ساعدة أحد مِن بني هاشم.
وتضافرت الروايات بأن أبا بكر -رضي لله عنه- أطال التشاور مع كبراء الصحابة في ترشيح عمر -رضي الله عنه-، ولما طُعن عمر -رضي الله عنه- رأى حصر الشورى الواجبة في الستة الزعماء الذين مات الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راضٍ؛ لعلمه بأنه لا يتقدم عليهم أحدٌ، ولا يخالفهم فيما يتفقون عليه أحد.
وإذا تأملنا حال أولئك الستة نرى أنه لم يكن في أهل الإسلام أحد له مِن المنزلة في الدين، والهجرة والسابقة، والعقل والعلم، والمعرفة بالسياسة، ما للستة الذين جعل عمر -رضي الله عنه- الأمر شورى بينهم.
وقد صح أن عمر -رضي الله عنه- أنكر على مَن زعم أن البيعة تنعقد بواحدٍ مِن غير مشاورة الجماعة؛ فلقد قال على منبر الرسول -صلى الله عليه وسلم-: “بلغني أن قائلًا منكم يقول: ولله لو مات عمر لبايعت فلانًا، فلا يغترنَّ امرؤ أن يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك، ولكن وقى الله شرها، وليس فيكم مَن تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر”.
وقد أقرت جماعة الصحابة عمر -رضي الله عنه- على ذلك، فكان إجماعًا؛ فتحرر بهذا: أن الأصل في المبايعة أن تكون بعد استشارة جمهور المسلمين، واختيار أهل الحل والعقد، ولا نعتبر مبايعة غيرهم إلا أن تكون تبعًا لهم، وإمامة عثمان -رضي الله عنه- لم تكن بمبايعة عبد الرحمن بن عوف وحده، بل كانت عامة لا خاصة به، وكان يملك تفويضًا بذلك، وكذلك مبايعة عمر لأبي بكر -رضي الله عنهما-.
ثالثًا: الأمة تابعة لأولي الأمر:
وقد أمر الله بطاعة أولي الأمر، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) (النساء:59).
عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ): “يعني أهل الفقه والدين”. وكذا قال مجاهد، وعطاء، والحسن البصري، وأبو العالية: (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) يعني: العلماء. وقال ابن كيسان: “هُمْ أُولُو الْعَقْلِ وَالرَّأْيِ الَّذِينَ يُدَبِّرُونَ أَمْرَ النَّاسِ”. وقال أبو هريرة -رضي الله عنه-: “هم الأمراء”.
وقال ابن كثير -رحمه الله- بعد أن ساق أقوال مِن قال هم العلماء، وأقوال مَن قال هم الأمراء: “والظاهر -والله أعلم- أن الآية في جميع أولي الأمر مِن الأمراء والعلماء”.
وإذا تأملنا نجد أن ولي الأمر واحد منهم، وإنما يطاع بتأييد جماعة المسلمين الذين بايعوه وجعلوا ثقتهم به، ويدل على هذا المعنى ما ورد مِن الأحاديث الصحيحة في التزام الجماعة، وقد جاء في الحديث: (مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ، إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) (متفق عليه)، فقد أجمع أهل العلم على وجوب طاعة خليفة المسلمين إذا كان عادلًا، وحرمة خلعه والخروج عليه؛ لقول الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).
وفي الصحيحين -وغيرهما- عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: “دَعَانَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا، عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ”. والكفر البواح هو الظاهر الذي لا يحتمل تأويلًا.
وعن عوف بن مالك -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ»، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ؟ فَقَالَ: «لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلَاتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ، فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ، وَلَا تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ) (رواه مسلم).
وللأمة خلع الإمام وعزله بسببٍ يوجبه، فإذا ثبت كفر الخليفة فقد سقطت بيعته شرعًا، وفى حال بغيه وجوره فإن حكم الخروج عليه وخلعه يدور مع المصلحة وجودًا وعدمًا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “الواجب تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، فإذا تعارضت كان تحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، ودفع أعظم المفسدتين مع احتمال أدناهما هو المشروع”.
وقال الدسوقي المالكي: “يحرم الخروج على الإمام الجائر؛ لأنه لا يُعزل السلطان بالظلم والفسق، وتعطيل الحقوق بعد انعقاد إمامته، وإنما يجب وعظه، وعدم الخروج عليه، إنما هو تقديم أخف المفسدتين؛ إلا أن يقوم إمام عادل فيجوز الخروج عليه وإعانة ذلك القائم”.
والخلع يعني تنحية الإمام عن الحكم فتسقط طاعته وتنحل بيعته، ولا تكون له حقوق عند الرعية زائدة عن حقوق المسلم على المسلم.
وأضرب مثالين في هذة المسألة:
أولهما: موقعة “الحرة”؛ فلا شك أن موقعة الحرة مِن الفتن التي حدثت بيْن المسلمين، وقد ظن أهل المدينة أن المصلحة ستتحقق بما فعلوا، وستعود الشورى مرة أخرى، وللأسف فقد ازدات المفسدة؛ فلا أقاموا دينًا ولا أبقوا دنيا!
والمثال الثاني: هو مقتل الملك المعز “عز الدين أيبك”، ثم قُتلت بعده زوجته “شجرة الدر”، ثم تولى الحكم السلطان الطفل “المنصور نور الدين علي بن عز الدين أيبك”، ثم تولى “سيف الدين قطز” الوصاية على السلطان الصغير، وإن كان “قطز” يدير الأمور فعليًّا في مصر؛ إلا أن الذي يجلس على الكرسي سلطان طفل، ولا شك أن هذا يضعف مِن هيبة الحكم في مصر، ويزعزع مِن ثقة الناس بملكهم، ويقوي مِن عزيمة الأعداء إذ يرون الحاكم طفلًا!
وفي ضوء الخطر التتري الرهيب، والمشكلات الداخلية الطاحنة، وثورات بعض المماليك، وأطماع بعض الأمراء لم يجد “قطز” أي معنى لأن يبقى السلطان الطفل “نور الدين علي” على كرسي أهم دولة في المنطقة “وهي مصر”، والتي لم يعد هناك أمل في صد التتار إلا فيها؛ فتم مبايعة “قطز” ليتولى الأمر في مصر، وتم عزل السلطان الطفل، وقد تم ذلك في اجتماع حضره كبار أهل الرأي مِن العلماء والقضاة.
وقد أجرى “قطز” بعض التعديلات في المناصب القيادية، وولَّى أصحاب الخبرة والكفاءة والأمانة، وقام ببعض الإصلاحات الداخلية لتستقر الأمور في مصر، ثم كانت الوحدة بيْن مصر والشام.
قال ابن كثير -رحمه الله-: “وقد اجتمعت الكلمة عليه حتى انتهى إلى الشام”. يعني اجتمعت الكلمة لقواد وأمراء المسلمين.
وتحرك قطز بجيوش المسلمين وانتصر على التتار، وانتهت أسطورة الجيش الذي أرهب العالم، وسيطر على نصف الكرة الأرضية تقريبًا؛ لذا نقول: إن الأمة تابعة لأهل الحل والعقد، وعدم الطاعة يترتب عليها مفاسد كبرى، وقد ظهر ذلك جليًّا في عدم مبايعة معاوية لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-، وما ترتب على ذلك مِن قتالٍ وفسادٍ وشرٍّ.
وللحديث بقية -بمشيئة الله تعالى-.