تاريخ فتح مصر والإسكندرية
تاريخ فتح مصر
الحمد والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،
كلمة حول بعض الكتب: لا شك أن تاريخ مصر قد احتل مساحة عريضة في كتب التاريخ الإسلامي، سواء في المصادر القديمة أو المراجع الحديثة، وذلك لما تشكله مصر من أهمية إقليمية كبيرة في الشرق، ثم لكثرة الدول التي قامت على أرضها.
ومن أشهر وأقدم الكتب التي اهتمت بتاريخ مصر:
كتاب” فتوح مصر والمغرب ” لابن عبد الحكم، وقد ولد ابن عبد الحكم في الفُسْطَاطُ عام 187 هـ/ وتوفي عام 257ه، وعاش وترعرع وتعلم في مصر، وهو أقرب مؤرخ مصري لحقبة الفتح الإسلامي لمصر.
كتابي” ولاة مصر ” ” قضاة مصر” للكِندي، وهو من أشهر مؤرخي مصر الإسلامية؛ وقد عاش الكندي في مصر وتوفي عام 350هـ.
ومن المؤرخين في هذا الشأن: المقريزي، الذي ولد عاش في القاهرة وتناول تاريخ مصر في العديد من مؤلفاته، وتوفي عام 845هـ، ومن أشهر كتبه المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار.
وكذلك ابن تغري بردي: وهو مؤرخ مصري ولد بالقاهرة عام812هـ، وتوفي عام 874 هـ، ومن أشهر كتبه عن تاريخ مصر كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة.
ومن المؤرخين في هذا الشأن: ابن إياس: صاحب كتاب: بدائع الزهور في وقائع الدهور، وهو مؤرخ مصري ولد بالقاهرة عام 852ه، وتوفي 930ه.
أحوال مصر قبل الفتح الإسلامي: إذا أردنا أن نلقي نظرة سريعة حول أحوال مصر قبل الفتح الإسلامي، فنقول: لقد كانت مصر عبارة عن ولاية بيزنطية، تخضع للإمبراطور البيزنطي في القسطنطينية، وينوب عنه حاكم في مصر، مقره مدينة الإسكندرية، وكانت مصر ولاية رومانية تابعة مباشرة لرومة منذ عام 31 ق. م، حين استولى الرومان عليها، وكانت مصر من الناحية الإدارية تنقسم لعدة أقسام: منها مصر العليا والمقصود بها الصعيد، و هناك مصر الوسطى والدلتا أو مصر السفلى، وينقسم كل قسم لعدة مديريات على رأس كل مديرية حاكم.
وأما عن الحالة الاقتصادية: كان البيزنطيون يتعاملون مع مصر على أنها البقرة الحلوب، حيث كان الناتج الزراعي وخصوصًا القمح يتم نقله إلى العاصمة البيزنطية، ويتم فرض ضرائب باهظة على الشعب المصري، ضرائب على الفرد- الأرض الزراعية- المواشي- العقارات- وهذه الضرائب أثقلت كواهل المصريين، حتى أن بعضهم ترك أرضه الزراعية و هاجر إلى أماكن أخرى.
وكان سكان مصر ينقسمون إلى عدة طبقات- الطبقة الحاكمة وهم كبار الحكام و رجال الأعمال و قادة الجيش والجنود البيزنطيين، وهناك الطبقة المغلوب على أمرها، وهي التي تعمل لتعيش الطبقة الأولى في رفاهية، وكانت هناك طبقة اليهود وكانوا يعملون في مجال التجارة وكان معظمهم من متوسطي الحال.
الاضطهاد الديني للمصريين: ملخص ما حدث بإيجاز لقد دخلت المسيحية إلى مصر في منتصف القرن الأول الميلادي على يد رجل يعرف بالقديس مرقص، وقد اعترف الإمبراطور قسطنطين الكبير بالمسيحية عام 313م، لكن وقع خلاف شديد بين الكنيسة المصرية وهي التي تعتقد بأن المسيح له طبيعة واحدة، وبين الكنيسة الرومانية، التي تعتقد بأن المسيح له طبيعتان، وقد أطلق المصريون على أنفسهم الأرثوذكس – وهي كلمة يونانية معناها: أتباع الديانة الصحيحة، واشتد الخلاف بين الطرفين وتدخل كبار الأباطرة لحل هذا النزاع العقدي، وعقدوا المجامع الدينية على مستوى العالم، ومنه مجمع خلقدونية – مكان باسطنبول الحالية – وعقدت الجلسة الأولى للمجمع في 8 أكتوبر عام 451م بحضور أكثر من خمسمائة من الأساقفة، وصدر قرار المجمع بأن للمسيح طبيعتين، ومن قال بالطبيعة الواحدة فهو كافر.
وهنا بدأ الأقباط في مصر مرحلة عصيبة، تعرضوا فيها للتعذيب والاضطهاد والقتل من قبل الرومان، حتى أن البطريرك بنيامين هرب من الإسكندرية إلى وادي النطرون، ثم إلى الصعيد، واستمر هذا الوضع لسنوات ولم ينته إلا بدخول عمرو بن العاص إلى مصر.
دوافع فتح مصر:
لم يكن فتح مصر عشوائيًّا، وإنما كان ذلك بخطة محكمة ودراسة مسبقة، ويرجع السبب في ذلك إلى عدة عوامل؛ منها ما هو ديني أو عسكري أو سياسي أو اقتصادي.
إن حركة الفتوحات هي حركة هداية للناس، وقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم قديمًا دعوة إلى المقوقس دعاه فيها إلى الإسلام، فأراد المسلمون أن ينشروا الإسلام بين الناس، وأن يطلع الناس على مفهوم الإسلام ومعاني الإسلام وعقيدة الإسلام، ولما كانت مصر خاضعة للإمبراطورية البيزنطية كان من الضروري مواجهتها.
ثم إن مصر هي الامتداد الطبيعي لفِلسطين والشام بوجه عام.
وكان من دواعي فتح مصر أيضًا أن البيزنطيين حاولوا استرداد الشام من المسلمين، وأرادوا عرقلة جهودهم للتوجه جنوبًا، وهاجموهم من شمال الشام.
ثم إن فتح مصر لن يكلف المسلمين كثيرًا، لقلة التحصينات بها.
ثم ما تَجَمَّع لدى المسلمين من معلومات عن أوضاع مصر الاقتصادية السيئة،
ويُضَافُ إلى ذلك الصراع الديني المذهبي.
ثم إن مصر مشهورة بثرواتها وخيراتها، فستكون عونًا لهم، وقد رغب عمرو بن العاص أمير المؤمنين عمر في فتحها فقال “إِنَّكَ إن فَتَحْتَهَا كَانَت قُوَّةً للمُسْلِمِين وَعَوْنًا لَهُم، وَهِيَ أَكْثَرُ الأَرْضِ أَمْوَالًا وَأَعْجَزَهَا عَنِ القِتَالِ وَالحَربِ”. ( ابن عبد الحكم)
ومما يذكره المؤرخون أنه مع بداية دخول عمرو إلى مصر، وقعت مجاعة بالمدينة المنورة وما حولها، وكان ذلك عام 18هـ، وهو العام المعروف بعام الرمادة، فحُبس المطر من السماء وأجدبت الأرض، وهلكت الماشية، واستمرت هذه المجاعة تسعة أشهر تقريبًا، وكتب عمر إلى أمراء الشام والعراق ومصر يطلب منهم المساعدة، وهنا يذكر ابن سعد وغيره أن عمرو بن العاص بَعَثَ إِلَيْ عمر فِي الْبَحْرِ بِعِشْرِينَ سَفِينَةً تَحْمِلُ الدَّقِيقَ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ فِي الْبَرِّ بِأَلْفِ بَعِيرٍ تَحْمِلُ الدَّقِيقَ، وأرسل إليه خمْسَة آلاف كِسَاء.
أعمال وأحداث الفتح:
هناك إشارة نبوية إلى أن المسلمين سيفتحون مصر: عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “إِذَا افْتَتَحْتمُ مِصْرَ فاستوْصوا بالقِبْط خيرًا” وَفِي رِوَايَةٍ: “فَاستَوصُوا بِأَهْلِها خَيْراً فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِماً” وفي رواية ” ذمة وصهراً” وفي رواية مسلم ” فإذا فَتَحْتُمُوها فأحْسِنُوا إلى أهْلِها،”.
أما الرحم فلكون هاجر أم إسماعيل منهم ، وأما الصهر فلكون مارية أم إبراهيم منهم.
وقد اجتمع عمرو بن العاص بعمر بن الخطاب في الجابية -وهي قرية من أعمال دمشق – حين جاء إلى بلاد الشام بعد طاعون عمواس، وعرض عليه فتح مصر وطلب السماح له بالمسير إليها، وتشير بعض المصادر إلى أن عمر هو من أمر عمرًا بالمسير إلى مصر.
وبالفعل سار عمرو في أربعة آلاف مخترقًا صحراء سيناء، وقد سلك الطريق الساحلي، حتى وصل إلى العريش في عيد الأضحى: 10 ذو الحجة 18هـ، فوجدها خالية من القوات البيزنطية، وواصل سيره حتى وصل إلى الفَرَمَا – ناحية بور سعيد – وهنا وصلت الأخبار إلى المقوقس – وهو لقب معناه المفخم أو المبجل، كما نقول اليوم: صاحب السمو، أو فخامة الرئيس، وقد ذهب بعض المؤرخين أن هذ المقوقس ليس هو من راسله رسول الله، والله أعلم، وهنا تحصن المقوقس بحصن بابليون، واعتمد في الفرما على بعض القوات المتمركزة هناك، هذا وقد تم بناء حصن بابليون في عصر احتلال الرومان لمصر، فالبعض يرى أن الحصن تم بناؤه في نهاية القرن الأول أو بداية القرن الثاني الميلادي، وبعض المؤرخين يرى أن الحصن كان موجودًا قبل الميلاد بمئات السنين، وهو الآن يقع بجوار محطة مارجرجس لمترو الأنفاق.
ولم يرد المقوقس أن يصطدم بالمسلمين بالعريش أو الفرما لقربهما من فلسطين، فيسهل إمدادهم بالجنود، ولذلك فضل أن يتوغل المسلمون في مصر.
لكن وقع قتال في الفرما بين المسلمين والروم وانتصر المسلمون في شهر محرم عام 19هـ، وقام عمرو بهدم حصون وأسوار المدينة، وتشير بعض المصادر التاريخية أن القتال استمر ما يقرب من شهر، وأن القبط الذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو أعوانًا.
ثم توغل عمرو في مصر حتى وصل إلى بلبيس، وهذه هي المحطة الرئيسية الثالثة، وتشير بعض المصادر التاريخية أن أعدادًا من البدو انضموا لعمرو أثناء سيره، وضرب عمرو الحصار على المدينة، ووقع القتال بينه وبين بعض القوات المرابطة في المدينة وكذلك القوات التي أرسلها المقوقس، فقتل ألف تقريبًا وأُسر ثلاثة آلاف، ودخل المسلمون مدينة بلبيس بعد شهر تقريبًا من الحصار والقتال.
ثم سار عمرو متوغلًا في مصر ومر على منطقة عين شمس ( بعض الروايات تفيد بوقوع قتال بعين شمس وبعض المؤرخين يذكر أن قتال عين شمس كان متأخرًا، أي كان بعد أُمُّ دُنَيْن والفيوم ) ثم وصل إلى قرية على النيل تعرف بأم دُنَيْن – وهي موقع حديقة الأزبكية – وكانت هذه القرية تشبه الميناء، حيث أنها على الضفة الشرقية لنهر النيل، فلها أهمية خاصة، ولذا عسكر عمرو قريبًا منها، وبسبب أهمية أم دنين، كان المقوقس يخشى من سيطرة المسلمين عليها، وهنا حشد المقوقس جيشًا عظيمًا للدفاع عنها، وكان آنذاك بمدينة الإسكندرية، فغادر الإسكندرية وعسكر المقوقس بنفسه عند حصن بابليون وكان يدير العمليات العسكرية بنفسه، واستمر القتال لعدة أسابيع تحت اسوار أم دُنين، وهنا أيقن عمرو صعوبة هذه المحطة وأنها تختلف عن الفرما وبلبيس، فأرسل رسالة إلى أمير المؤمنين عمر يستحثه في إرسال إمدادات عسكرية على وجه السرعة، ومع بداية وصول الإمدادات سقطت أم دنين، وكان عمرو يتتبع القواعد الشرعية قبل القتال كعرض الإسلام وغير ذلك.
ثم واصل عمرو سيره متوجهًا نحو الفيوم، وهنا تصدت له القوات البيزنطية بقيادة حاكم الفيوم- دومنتيانوس- ووقع القتال بين الفريقين، لكن عمرًا لم يستطع أن يفتح الفيوم.
معركة عين شمس:
بلغ عدد الجنود الذين أرسلهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب اثني عشر ألف مقاتل من بينهم عدد من كبار الصحابة، أمثال الزبير بن العوام، وعبادة بن الصامت، والمقداد بن الأسود، مسلمة بن مخلد وغيرهم، ولما طلب عمرُو بن العاص المددَ من أمير المؤمنين عمرَ بنِ الخطاب في فتح مِصر كتب إليه أما بعد : “فإني أمددتك بأربعةِ آلافِ رجل، على كلِ ألف رجلٌ منهم مقامُ الألف” يقصد هؤلاء الأربعة، وكان الهدف التالي لعمرو أن يفتح حصن بابليون، فعسكر في عين شمس، وهنا خرج عشرون ألفاً من القوات البيزنطية للقاء المسلمين، ولما علم عمرو بذلك وضع خطة لمواجهة الجيش البيزنطي، تتمثل في تمركز فرقة عسكرية بأم دنين، وفرقة بمكان يعرف بمغار بني وائل – شرق العباسية – وكانت بقيادة خارجة بن حذافة السهمي وهو مِنْ مُسلمة الفتح، وتحرك عمرو من عين شمس في اتجاه العباسية، ووقع القتال بمنطقة العباسية ولما احتدم القتال ظهرت فجأة فرقة خارجة وهجموا على مؤخرة جيش الروم، وأحدث ذلك الهجوم حالة من الفوضى في صفوف الجيش البيزنطي، فانسحبوا في اتجاه أم دنين، فقابلتهم الفرقة الأخرى، وهنا أيقن الروم أنهم وقعوا في فخ، فلاذوا بالفرار وانهزموا، وقع ذلك القتال في شهر شعبان عام 19هـ.
ولما وصلت أنباء الهزيمة من بحصن بابليون من الجنود خافوا على أنفسهم،
وقرر بعضهم الفرار، والبعض الآخر قرر أن يمكث للدفاع عن الحصن، وهنا إِغْتَنَمَ عمرو الفرصة وانتقل بقواته من عين شمس وقام بمحاصرة الحصن،
ثم سار إلى مدينة تسمى منف واستولى عليها بدون قتال، ( منف جنوب القاهرة وهي قرية قريبة من ميت رهينة الحديثة، و هي إحدى القرى التابعة لمركز البدرشين) ولم يستطع الجيش البيزنطي الموجود في الحصن أن يمد لها يد المساعدة.
فتح الفيوم: عندما بلغت أنباء انتصار المسلمين دومنتيانوس حاكم الفيوم، خشي أن يهاجمه هؤلاء، وهو لا قبل له بمقاومتهم، فقرر الفرار، وبالفعل فر بجنوده، ولما علم عمرو بذلك أرسل فرقة عسكرية فتحت إقليم الفيوم، وتوغلت في جنوبي الدلتا، ووصلت الفتوحات إلى مدينة مَنُوفُ في إقليم المنوفية.
فتح حصن بابليون: بعد المعارك والفتوحات التي ذكرناها لم يبق أمام عمرو سوى حصن بابليون، و لم يبق تحت سيطرة الروم بالمنطقة من المراكز الرئيسية سوى حصن بابليون، ولذا سار إليه عمرو في شوال عام 19هـ، وقام بمحاصرته.
تمت محاصرة الحصن ولكن لم يستطع المسلمون أن يحكموا سيطرتهم على الطرق المائية، ومن ثم كانت هناك بعض الإمدادات تصل إلى الروم داخل الحصن، وكان المقوقس أثناء الحصار داخل الحصن.
كان الروم يطلقون المنجانيق على المسلمين من داخل الحصن، وكان المسلمون يرمونهم بالسهام ونحو ذلك، واستمر الحصار لمدة شهر، والمسلمون صامدون، وهنا أيقن المقوقس أن عزيمة المسلمين لن تخور، وأن بأسهم شديد، وأن صبرهم لا حدود له، وهنا قرر أن يدخل في جولة مفاوضات مع عمرو بن العاص.
المفاوضات: اجتمع المقوقس مع مستشاريه ثم قرر أن يذهب لملاقاة عمرو والتفاوض معه، فخرج مع جماعة من الحصن ليلًا في سرية تامة، وركب سفينة ووصل إلى إحدى جزر النيل وهي جزيرة الروضة، ومنها أرسل رسالة إلى عمرو مع بعض الرسل يدعوه إلى عقد مفاوضات بين الطرفين، فلما أتت عمرو بن العاص رسل المقوقس حبسهم عنده يومين وليلتين حتى خاف عليهم المقوقس فقال لأصحابه “أترون أنهم يقتلون الرسل ويحبسونهم ويستحلون ذلك في دينهم ؟” وإنما أراد عمرو بذلك أن يطلع الرسل على حال المسلمين وقوتهم وبأسهم، ثم عاد الوفد بعد يومين يحملون رد عمرو، وهو تخيير المقوقس بين إحدى ثلاث خصال: إما الدخول في الإسلام أو الجزية أو القتال.
فلما جاءت رسل المقوقس إليه قال كيف رأيتموهم قالوا ” رأينا قوما الموت أحب إلى أحدهم من الحياة والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة، وإنما جلوسهم على التراب وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يعرف رفيعهم من وضيعهم ،ولا السيد فيهم من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها أحد منهم، يغسلون أطرافهم بالماء ويتخشعون في صلاتهم” فقال عند ذلك المقوقس” والذي يحلف به لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها ولا يقوى على قتال هؤلاء أحد ولئن لم نغتنم صلحهم اليوم وهم محصورون بهذا النيل، لم يجيبونا بعد اليوم”.
ثم أرسل المقوقس رسالة إلى عمرو يطالبه فيها بإرسال وفد من المسلمين للتشاور والتفاوض، فأرسل عمرو إليه وفدًا برئاسة عبادة بن الصامت، وقد طمأنهم بأنهم سيكونون آمنين على أنفسهم، وأموالهم وكنائسهم، وذراريهم إن هم قبلوا دفع الجزية مما شجعه على المضي في طريق الإذعان والصلح. وكان المقوقس يميل إلى دفع الجزية بدلًا من القتال، ولكن بعض مستشاريه رفضوا فقال لهم” أطيعونى وأجيبوا القوم إلى خصلة من هذه الثلاث، فو الله ما لكم بهم طاقة، ولئن لم تجيبوا إليها طائعين، لتجيبنّهم إلى ما هو أعظم كارهين، فأنا أعلم أنكم لن تقووا عليهم، ولن تصبروا صبرهم، ولا بدّ من الثالثة؛ قالوا: أفنكون لهم عبيدًا أبدًا؟ قال: نعم تكونوا عبيدًا مسلّطين فى بلادكم، آمنين على أنفسكم وأموالكم وذراريكم، خير لكم من أن تموتوا عن آخركم، وتكونوا عبيدًا تباعوا وتمزّقوا فى البلاد مستعبدين أبدًا أنتم وأهلوكم وذراريكم، قالوا: فالموت أهون علينا”
ثم غادر المقوقس حصن بابليون وتوجه إلى الإسكندرية حيث أرسل عهد الصلح وبنوده إلى القسطنطينية، وطلب موافقة هرقل عليه، ولكن هرقل رفض التصالح وعنف المقوقس وقيل أنه قام بنفيه، وجاءت الأخبار إلى المسلمين برفض هرقل للصلح في ذي الحجة عام 19هـ، وهنا وقع القتال بين الطرفين،- وكان الغالب على القتال هو التراشق بالمنجانيق والسهام، وصمد المدافعون عن الحصن عدة أشهر، حتى جاء الخبر بوفاة الإمبراطور هرقل في شهر ربيع الأول 20هـ، وقد أثر الخبر على معنويات الجند فخارت معنوياتهم، وفت ذلك في عضدهم، وتراجعت قدرتهم القتالية، وهنا شدد المسلمون الحصار ثم اقتحموه في 21 ربيع الآخر عام 20هـ.
ولم تتم عملية الاقتحام بسهولة، وذلك نظرًا لمناعة الأسوار، لكن الزبير بن العوام قد اعتلى السور ومعه نفر من المسلمين فكبروا، وهنا ظن أهل الحصن أن المسلمين اقتحموا ففروا هاربين، وفي رواية أنهم فتحوا باب الحصن لعمرو بن العاص وطالبوه بالصلح.
الطريق نحو مدينة الإسكندرية:
بعد وفاة هرقل سادت حالة من الفوضى وسط الدولة البيزنطية، ووقع نزاع بين الأسرة الحاكمة على العرش، ولا شك أن سقوط حصن بابليون كان له تأثير سلبي على الروم، حيث انهار خط الدفاع الأقوى، وهنا طلب عمرو من أمير المؤمنين عمر أن يزحف نحو الإسكندرية، لما تشكله من أهمية إقليمية، بل كانت ثانية حواضر الإمبراطورية بعد القسطنطينية، وهي من أعظم المدن التجارية في العالم آنذاك.
وقد أدرك البيزنطيون أن سقوط الإسكندرية سيؤدي إلى زوال سلطانهم من مصر، وقد عبر الإمبراطور البيزنطي عن ذلك بقوله: “لئن ظفر العرب بالإسكندرية لقد هلك الروم وانقطع ملكهم”، فأسرعوا بإرسال المقوقس على رأس قوة عسكرية إلى الإسكندرية، ووصل المقوقس إلى الإسكندرية في شهر شوال 20هـ، وغادر عمرو بن العاص حصن بابليون في شهر جمادى الأولى 20هـ، وقد ساعده بعض الأقباط في إصلاح الطرق وإقامة الجسور، وقد تعرضت بعض فرق الروم العسكرية في الطريق لجيش المسلمين، ووقع بينهم قتال، وعلى سبيل المثال: وقع قتال في قرية تَرْنُوطُ، وهي المعروفة الآن بقرية الطرّانة بمدينة السادات، وكذلك وقع قتال بقرية نَقْيُوس بالقرب من مركز منوف، ثم وقع قتال كذلك بقرية تسمى سُلْطَيْسُ، وكانت تقع بمدينة ومركز دمنهور، وأخيرًا اصطدم عمرو بقوة عسكرية بيزنطية أخرى عند حصن كِرْيَوْنُ بالقرب من الإسكندرية، وهو آخر سلسلة الحصون قبل الإسكندرية، وقد اعتصم به تيودور قائد الجيش البيزنطي مع حامية قوية، كما تدفقت عليه الإمدادات من المناطق المجاورة، واشتبك الطرفان في عدة معارك على مدى بضعة عشر يومًا، و كان القتال شديدًا في تلك المرة، حتى إن عمرًا صلى يومًا صلاة الخوف، وتمكن المسلمون أخيرًا من اقتحام الحصن، وانتصروا على الحامية العسكرية، وقُتل عدد من الروم وفر الباقون نحو الإسكندرية، فطاردهم المسلمون حتى بلغوا الإسكندرية في منتصف شهر رجب 20هـ، وهكذا انتصر عمرو على كل من تعرض له في الطريق.
فتح الإسكندرية:
وصل عمرو إلى مدينة الإسكندرية فوجدها مدينة محصنة لأقصى درجة ممكنة، حولها أسوار ويُحيط بها خنادق مملوءة من ماء البحر، ولها أبراج عليها منجانيق، ويقوم بحمايتها أكثر من خمسين ألف جندي، ويسيطر على سواحلها الأسطول البيزنطي، ومع ذلك وضع عمرو خطة عسكرية تمكنه من اقتحام المدينة، فبدأ عمرو في حصارها، وشدد الحصار حتى يضطر الروم للخروج لمواجهة المسلمين من أجل تخفيف الحصار، واستمر الحصار لمدة شهرين ولم يخرج البيزنطيون من تحصيناتهم للقتال، سوى مرة واحدة، فلقد خرجت قوة عسكرية بيزنطية من ناحية البحيرة، واشتبكت مع قوة إسلامية، ثم عادت إلى الحصن، وفي الغالب كانت هذه مجرد فرقة استطلاعية.
وأثناء الحصار اشتد الصراع على الحكم في القسطنطينية، و انقطعت الإمدادات البيزنطية عن الإسكندرية، مما أثر سلبًا على القوات البيزنطية، ثم أن عمرو بن العاص كان يقوم أثناء الحصار ببعض الغارات على قرى الصعيد والدلتا والساحل، وذلك حفاظًا على معنويات الجيش، ثم أرسل عمر رسالة إلى عمرو يستعلم فيها عن سبب تأخر الفتح.
وأخيرًا بعد أربعة أشهر ونصف تقريبًا، وقع الاقتحام ففتحت المدينة في 28 من ذي القعدة عام 20هـ، وفر معظم الجنود، وكان قائد الجيش عو عبادة من الصامت، ولذا يقول البعض أن عبادة بن الصامت هو فاتح مدينة الإسكندرية وليس عمرو بن العاص، ولا شك أن عمرو هو القائد العام للجيوش.
ثم استكمل عمرو حركة الفتوحات، ففتح بعض الأماكن الأخرى كرشيد والبرلس ودمياط وتنيس وغيرها، فأمنوا بذلك الساحل من العريش إلى الإسكندرية.
وكتب عمرو بن العاص بعد ذلك إلى عمر بن الخطاب، أما بعد، “فإني فتحت مدينة لا أصف ما فيها، غير أني أصبت فيها أربعة آلاف بنية بأربعة آلاف حمّام؛ وأربعين ألف يهودي عليهم الجزية، وأربعمائة ملهى للملوك” وقد قال المقريزي عنها: “هذه المدينة من أعظم مدائن الدنيا وأقدمها وضعًا”
هل ثبت أن الأقباط كانوا يعاونون المسلمين في الفتح؟:
نعم ثبت ذلك في كثير من المرويات التاريخية، وقد فعل الأقباط ذلك لعدة أسباب ودوافع، منها؛ أنهم فعلوا ذلك نكاية في أعدائهم البيزنطيين، ثم للتخلص من حكمهم الظالم، ثم أنهم يتطلعون إلى تحقيق الحرية الدينية، لاسيما وأنهم قد سمعوا عن تسامح المسلمين و معاملتهم الحسنة التي عمت بلاد الشام والعراق بعد سيطرة المسلمين عليها.
وتمثلت تلك المساعدة كما يذكر ذلك ابن عبد الحكم وغيره في إقامة الجسور وإصلاح الطرق وتقديم الأطعمة و العلف، وعندما تحدث ابن عبد الحكم عن فتح الفرما قال ” إن القبط الذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو أعوانًا”، وعندما تحدث عن فتح حصن بابليون قال” وصارت لهم القبط أعوانًا”، وعندما تحدث عن خروج عمرو نحو الإسكندرية قال” وخرج معه جماعة من رؤساء القبط وقد أصلحوا لهم الطرق، وأقاموا لهم الجسور والأسواق، وصارت لهم القبط أعوانًا على ما أرادوا من قتال الروم”.
وقد ذكر ذلك أيضًا المقريزي وابن تغر بردي وبعض مؤرخي الأقباط.
وفي المقابل عاش الأقباط أزهى عصورهم بعد أن قام عمرو بتنفيذ وصية رسول الله واستوصى بأهل مصر خيرًا، حتى أن البطريرك القبطي بنيامين عاد إلى الإسكندرية بعد أن قضى ثلاثة عشر عامًا هاربًا.
وقد عامل عمرو المصريين معاملة من فُتِحَتْ بلادُهم صلحًا، وليس عُنوة، ولذا عقد عمرو هدنة أو اتفاقًا مع المقوقس على بنود معينة.
ثم جعل عمرو نصف الجنود معه بالفُسطاط، وأمر النصف الآخر بالمرابطة بسواحل مصر، خاصة الإسكندرية لحماية الحدود المصرية.
اتهام عمرو بن العاص بحرق مكتبة الإسكندرية:
لا شك أن محو الأمية مطلب شرعي، وأول ما نزل من القرآن الكريم قوله تعالى{ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، وقد فادى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعض أسرى بدر بتعليم عدد من أبناء المسلمين بالمدينة الكتابة كما جاء في مسند الإمام أحمد عن ابن عباس قال:” كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة” والشواهد والآثار حول هذا المعنى كثيرة في القرآن والسنة وتاريخ المسلمين.
والغرض المقصود أن الإسلام يدعو إلى العلم والتعلم النافع في مختلف المجالات.
وأما ما أثير حول اتهام أمير مصر عمرو بن العاص بحرق مكتبة الإسكندرية، فنقول: ترجع نشأة مكتبة الإسكندرية إلى ما قبل ميلاد المسيح بمئات السنين، وتعتبر مكتبة الإسكندرية هى أحد الصروح الثقافية العملاقة على مستوى العالم، حيث أنها كانت تحتوي على مئات الآلاف من المجلدات في الفنون المختلفة.
وتؤكِّد الروايات التاريخية أن مكتبة الإسكندرية قد شهدت حريقًا هائلاً تسبب في تدمير كنوزها العلمية المختلفة من الكتب والمخطوطات والمجلَّدات ونحوه، عام 48 ق.م، وذلك بسبب الصراع الذي قام على العرش بمصر خلال عصر الملكة كليوباترا.
وتشير بعض الروايات الأخرى أن ما تبقى من الكتب والمحتويات بالمكتبة بعد الحريق الأول، قد تم تدميره وحرقه خلال القرن الرابع الميلادي وبالتحديد عام عام 391م.
ثم ظهرت روايات نسبَت جريمة إحراق المكتبة إلى الجيش المسلم الذي قام بفتح مصر عام ( 20هـ/ 641 م) تحت قيادة عمرو بن العاص، وذلك بأمرٍ من الخليفة عمر بن الخطاب، وأوَّل مَن أورد هذه الرواية هو المؤرخ عبداللطيف البغدادي المولود عام557 هـ، والمتوفي عام 629 هـ، في كتابه “الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهَدة والحوادِث المُعايَنة بأرض مصر”، ثم تناقلها عنه بعض المؤرخين.
ومفاد الرواية أن عمرو بن العاص بعد الفتح استأذن عمر في أمر المكتبة، فأذن له أن يتخلص من الكتب التي تحتوي عليها المكتبة، وقام عمرو بتوزيع الكتب على حمامات الإسكندرية، ثم أحرقها بعد ذلك خلال ستة أشهر.
وهذه الرواية المزعومة هي محض كذب وافتراء وقد كذبها بعض المؤرخين والمفكرين العرب و في الغرب أيضًا، واعتبروها أسطورة خرافية.
ومن هؤلاء: المؤرخ الفرنسي؛ غوستاف لوبون في كتابه؛ “حضارة العرب”، حيث يقول” أما إحراقُ مكتبَة الإسكندرية المزعوم فمِن الأعمال الهمجيَّة التي تأباها عادات العرب، والتي تجعَل المرء يسأل: كيفَ جازت هذه القصة على بعض العلماء الأعلام زمنًا طويلاً؟! وهذه القصة دُحضت في زماننا، فلا نرى أن نعود إلى البحث فيها، ولا شيء أسهلَ مِن أن نُثبت بما لدينا من الأدلة الواضحة أن النصارى هم الذين أحرَقوا كتبَ المُشركين في الإسكندرية قبل الفتح العربي بعنايةٍ كالتي هدموا بها التماثيل، ولم يبقَ منها ما يُحرق” وقد تابعه عدد من مؤرخي الغرب على هذا الرأي، كالمؤرخ البريطاني؛ ألفريد بتلر في كتابه “فتح العرب لمصر”؛ حيث اعتبر أن تهمة إحراق المسلمين للمكتبة سخافة ومحض خرافة مُستبعَدة علميًّا وعقليًّا.
وكذلك دحض هذه الفرية كثير من المؤرخين والباحثين العرب كالمؤرخ السكندري د. مصطفى العبادى، في كتابه”مكتبة الإسكندرية” وغيره من المؤرخين.
ومما يدل على عدم ثبوت الرواية المذكورة ما يلي:
- أن المؤرخين الأوائل الثقات الذين كتبوا عن تلك الحقبة الزمنية، كالبلاذُري، وابن عبدالحكم، والكِندي، وغيرهم من مؤرخي القرون الأولى، لم يذكروا تلك الرواية، فمن أين جاء بها المتأخرون؟!
- تزعم الرواية أن عمروَ بنَ العاص قام بتوزيع الكتب على الحمامات بالإسكندرية، وهي أربعة آلاف حمَّام، و أن الحرق استغرق ستة أشهر؛ وهذه الطريقة لا تتناسب مع سياسة عمرو ودهائه وفطنته؛ حيث إن تلك الطريقة ستسمح بتسرُّب وانتشار الكتب عن طريق بيعها أو إخفائها على يد أصحاب الحمامات، فلو أراد عمرو ذلك لأحرقها كلها في الحال.
- استشهد البعض على صحة الرواية بأن إحراق الكتب كان أمرًا معروفًا وشائعًا آنذاك، حيث يقوم كل منتصر بالقضاء على ثقافة غيره وفكره، كما عمل هولاكو التتري عام 656هـ بإلقاء خزائن الكتب في دجلة، والقضاء على مكتبة بغداد، أو بيت الحكمة.
ولا شك أن هذا قياس فاسد، حيث إنه من الجهل بل ومن الظلم أن نضع هولاكوا وعمر بن الخطاب وعمرو بن العاص في كفة واحدة، فلا يقاس من جاء ليحصد الحضارات، بمن قام بنشر الحضارة في العالم.
- ولو فرضنا جدلًا أن مكتبة الإسكندرية بقيت إلى عصر الفتح الإسلامي، لم يكن هناك ما يمنع من نقلها إلى القسطنطينية على أيدي الروم في أثناء الهدنة التي عقدت مع المسلمين.
وأخيرًا: نقول؛ إن الأدلة على بطلان الرواية المزعومة كثيرة، ولكننا نكتفي بما ذكرنا خشية الإطالة، مع الأخذ في الاعتبار أن يجوز حرق الكتب التي تحتوي على مناهج وأفكار كفرية أومنحرفة.
إعادة فتح الإسكندرية وحقيقة الخلاف بين عثمان بن عفان وعمرو بن العاص:
كان والي مصر في خلافة عمر بن الخطاب هو عمرو بن العاص الذي حكمها ما يقرب من أربع سنوات تقريبًا، وتوفي عمر وهو وال عليها، وقد أقره عثمان بن عفان في بداية خلافته، وقد كان عمر قد عين عبد الله بن سعد بن أبي السرح على صعيد مصر بعد فتحها، و كان عبد الله مصاحبًا لعمرو بن العاص منذ أيام فتوحه في فلسطين؛ ثم أوكل عثمان في خلافته مهمة الخراج لعبد الله بن أبي السرح، بدلًا من عمرو بن العاص، ( والخراج هو ضريبة مالية تُفرَض على بعض الأراضي) علمًا بأن عمر كان يستبطئ عمرًا في جمع الخراج، ويستقل ما يجمعه من مصر، إلا أنه لم يقم بعزله عن الخراج، فلما فعل عثمان ذلك غضب عمرو، وقيل أن خلافًا وقع بين عمرو وابن أبي السرح، في وجهات النظر، وهنا رأى عثمان أن من الأصلح عزل عمرو عن مصر وتولية عبد الله بن أبي السرح مكانه، وهذا ما حدث بالفعل.
وفي عهد ولاية عبد الله بن سعد بن أبي سرح، هاجم البيزنطيون الإسكندرية، انطلاقًا من جزيرة رودس بهدف استعادتها، وبالفعل استولوا عليها، بل وتوغلوا في أرض مصر، وكان ذلك عام 25هـ، وقيل 27هـ، ولم ينقذ الموقف سوى عمرو بن العاص الذي عينه الخليفة عثمان واليًا على الجيش، وبالفعل استطاع عمرو أن يسترد الإسكندرية، ثم قام بتدمير أسوارها، حتى لا يتحصن البيزنطيون فيها مرة أخرى، وتمر الأيام ويقوم معاوية بتولية عمرو لمصر أيضًا.
قصة نيل مصر:
لما فتح عمرو بن العاص مصر قال له أهلها ” أَيُّهَا الْأَمِيرُ إِنَّ لِنِيلِنَا هَذَا سُنَّةً لَا يَجْرِي إِلَّا بِهَا فَقَالَ لَهُمْ وَمَا ذَاكَ قَالُوا إِذَا كَانَ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ هَذَا الشَّهْرِ عَمَدْنَا إِلَى جَارِيَةٍ بِكْرٍ بَيْنَ أَبَوَيْهَا فَأَرْضَيْنَا أَبَوَيْهَا وَجَعَلْنَا عَلَيْهَا مِنَ الحلي وَالثِّيَابِ أَفْضَلَ مَا يَكُونُ ثُمَّ أَلْقَيْنَاهَا فِي هَذَا النِّيلِ، فَقَالَ لَهُمْ عَمْرٌو إِنَّ هَذَا لَا يَكُونُ فِي الْإِسْلَامِ وَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ ما قبله فأقاموا بؤنة وَالنِّيلُ لَا يَجْرِي لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا ؛ وفي رواية فأقاموا ثلاثة أشهر وَهُوَ لَا يَجْرِي حَتَّى هَمُّوا بِالْجَلَاءِ، فَكَتَبَ عَمْرٌو إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِذَلِكَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ إِنَّكَ قَدْ أَصَبْتَ بِالَّذِي فَعَلْتَ وَإِنِّي قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ بِطَاقَةً دَاخِلَ كِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهَا فِي النِّيلِ فَلَمَّا قدِمَ كِتَابُهُ أَخَذَ عَمْرٌو البطاقة ففتحها فإذا فيها ” من عند اللَّهِ عُمَرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى نِيلِ مِصْرَ – أما بعد – فإن كنت تَجْرِي مِنْ قِبَلِكَ فَلَا تجرِ وَإِنْ كَانَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ هُوَ الَّذِي يُجْرِيكَ فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُجْرِيَكَ؛ فَأَلْقَى عَمْرٌو الْبِطَاقَةَ فِي النِّيلِ فَأَصْبَحَ يَوْمُ السَّبْتِ وَقَدْ أَجْرَى اللَّهُ النِّيلَ سِتَّةَ عَشَرَ ذِرَاعًا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَطَعَ اللَّهُ تِلْكَ السُّنَّة عَنْ أَهْلِ مِصْرَ إِلَى الْيَوْمِ” ( البداية والنهاية – ابن عبد الحكم في فتوح مصر – وابن عساكر في تاريخ دمشق ) والخبر ضعيف عند المحققين، حيث أنه جاء من طريق بْن لَهِيعَةَ وهو ضعيف.
بناء مدينة الفسطاط:
يعتبر تخطيط وإنشاء المدن الإسلامية من الأعمال العمرانية المهمة التي قام بها عمرو، فإن العرب المسلمين حينما خرجوا فاتحين كانوا مهيئين لهذه النقلة التاريخية من طور البداوة إلى طور الحضارة، وهذا ما جسده بناء البصرة والكوفة، ثم الفسطاط في عهد الخليفة عمر بن الخطاب.
ولما أتم عمرو فتح مدينة الإسكندرية، ورأى بيوتها وبناءها قد شيدت غير محتاجة إلى إصلاح، هم أن يسكنها وقال: منازل قد كفيناها، فكتب إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في ذلك فسأل عمر الرسول: هل يحول بيني وبين المسلمين ماء؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين إذا جرى النيل، فكتب إلى عمرو: إني لا أحب أن تنزل بالمسلمين منزلًا يحول الماء بيني وبينهم في شتاء ولا صيف، فلا تجعلوا بيني وبينكم ماءً، فتحوّل عمرو بن العاص من الإسكندرية إلى موضع فسطاطه القديم، ونشير إلى أن عمرو بن العاص حينما عزم على التوجه إلى الإسكندرية، أمر بنزع فسطاطه الذي ضربه قرب حصن بابليون، وذلك حينما استشار أصحابه أين ينزلون، فأشاروا عليه بالنزول في هذا الموضع، ثم انضمت إليه القبائل، وتم البناء، وإقامة المسجد الجامع، وسَرْعان ما اتخذت الفسطاط مظهر المدينة بجامعها الكبير، وبأسواقها التجارية، وقم تم البناء والتشييد عام 21هـ.
والفسطاط من حيث المناخ، تتبع المناخ شبه الصحراوي، فهي حارة نهارًا وباردة ليلاً، لا ينزلها المطر إلا نادرًا، كما هو الحال في باقي إقليم مصر، عدا المدن الساحلية، وقد اكتشف هذا الموقع الإستراتيجي الفراعنة والبابليون والرومان، فالموقع الذي ضرب عليه عمرو فسطاطه كان موضعًا لمدينة قديمة اندثرت ثم ازدهرت ثانية مع دخول الإسلام لمصر.
وننوه على أن الصلة بين مصر وبين الدول المسيطرة عليها على مر التاريخ، كانت تستلزم أن تكون العاصمة في الإسكندرية، فلما انتقل مركز السيادة على مصر إلى العرب، كان يجب أن تكون العاصمة إما على البحر الأحمر، وإما على نقطة تسهل منها المواصلات البرية، ولكن العرب لم يكونوا أمة بحرية، فلم يكن بد من أن تكون عاصمة مصر في نقطة برية سهلة التواصل مع بلاد العرب.
جامع عمرو بن العاص:
جامع عمرو بن العاص أول جامع أقيم في مصر، ويعرف بالجامع العتيق، وقد وقف على تحرير قبلته جمع كبير من جِلَّة الصحابة رضوان الله عليهم، قال المقريزي: إنهم ثمانون رجلاً من أصحاب رسول الله ، منهم: الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، وأبو الدرداء، وأبو ذر الغفاري، وغيرهم رضي الله عنهم، وكان طوله خمسين ذراعًا في عرض ثلاثين، وتم افتتاح المسجد بأول صلاة جمعة في 6 محرم 21ه.
وهذا هو المشهور عند المؤرخين، ولكن بعض الباحثين في الآثار يقولون أن مسجد سادات قريش الواقع في شارع بورسعيد بمدينة بلبيس بمحافظة الشرقية، يعد أول مسجد أقيم بمصر، وقد أطلق عليه هذا الاسم تكريماً لشهداء المسلمين، والراجح عندي قول المؤرخين، وليس علماء الآثار.