رسائل البريد العاجل إلى الشباب الحائر (10)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وبعد،
فلقد أوشكنا على الانتهاء من الرسائل العاجلة إلى شباب الأمة، واسمحوا لي إخواني الشباب أن أختم الرسائل الموجهة إليكم، برسالة بعنوان، إن لم يكن لكم في الرجال أسوة فتأسوا بالنسوة، لقد ذكرنا نماذج طيبة وفريدة من شباب الأمة الأطهار، الذين حملوا راية التوحيد وعاشوا حياتهم ما بين التضحية والبذل والعطاء بالمال والنفس في سبيل هذا الدين، فأحببت ونحن في نهاية المطاف أن أذكر شيئا يسيرا عن نساء الأمة، فربما يكون ذلك دافعا لنا على العمل والعطاء والجد.
وأبدأ بالصحابية الجليلة الفاضلة المجاهدة، نسيبة بنت كعب بن عمرو بن عوف، أم عمارة رضى الله عنها، الصحابية الأنصارية الخزرجية، شهدت أم عُمارة ليلة العقبة، وشهدت أُحُدًا، والحديبية، ويوم حُنين، ويوم اليمامة، وجاهدت، وفعلت الأفاعيل، وقُطِعت يدُها في الجهاد.
قال الواقدي: شهدت أحدا، مع زوجها غَزِيَّة بن عَمرو، ومع وَلَدَيها. وكانت قد خرجت في جيش المسلمين تسقي الظماء، وتأسو الجرحى، وقاتلت، وأبلت بلاءً حسنًا. وكانت غرة الحرب وطلعتها للمسلمين، ثم انقلبت موازين المعركة وظهرت شرارة الهزيمة في صفوف المسلمين، فتناولتهم سيوف المشركين، تنهل من نحورهم، وتطعن في ظهورهم، فانكشفوا وولوا مدبرين، إلا عشرة أو نحوهم، وقفوا يدافعون عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، ويحولون دون الوصول إليه. وهنا جاء دور نسيبة، فأخذت سيفها، واحتملت قوسها، وذهبت تصول وتجول بين يدي رسول الله – صلى الله عليه وسلم-؛ تنزع عن القوس، وتضرب بالسيف، وحولها من الصحابة علي وأبو بكر وعمر وسعد وطلحة والزبير، وولداها وزوجها، فكانت من أظهر القوم أثرا وأعظمهم موقفا. وكانت لا ترى الخطر يدنو من رسول الله – صلى الله عليه وسلم- حتى تكون سداده وملء لهوته حتى قال – صلى الله عليه وسلم-: “ما التفت يمينًا ولا شمالًا إلا وأنا أراها تقاتل دوني”.
قالت أم عُمارة: “رأيتُني، وانكشف الناس عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، فما بقي إلا في نُفَيْر ما يُتِمُّون عشرة؛ وأنا وابناي وزوجي بين يديه نَذب عنه، والناس يمرون به منهزمين، ورآني ولا ترسَ معي، (وهو عبارة عن قطعة من المعدن أو الجلد يحملها المحارب بإحدى يديه ويتقي بها الضربات) فرأى رجلًا موليًا ومعه ترس، فقال: ألقِ ترسك إلى من يقاتل، فألقاه، فأخذته، فجعلت أترس به عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، وإنما فعل بنا الأفاعيلَ أصحاب الخيل؛ لو كانوا رَجالةً مثلَنا أصبناهم، إن شاء الله.
فيُقبل رجل على فرس، فيضربني، وترستُ له، فلم يصنع شيئًا، وولَّى؛ فأضرب عُرقوب فرسه، فوقع على ظهره، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصيح: “يا ابن أم عمارة، أمَكَ! أمك! قالت: فعاونني عليه، حتى أوردتُه شَعوب”(أي: عَلَمٌ على الموت)، ومما حدث ابنها عمارة قال: (جُرحْتُ يومئذ جرحًا في عضدي اليسرى، ضربني رجل كأنه الرَّقل، ومضى عني، ولم يُعَرّج علىَّ، وجعل الدم لا يرقأ، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “اعصب جرحك”، فأقبلت أمي إليّ، ومعها عصائب في حَقْوَيْها، قد أعدَّتها للجراح، فربطت جرحي، والنبي واقف ينظر إليَّ، قالت: “انهض بُنَيَّ فضارِب القوم”، فجعل النبي – صلى الله عليه وسلم- يقول: “ومن يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟” قالت: وأقبل الرجل الذي ضرب ابني، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “ضارب ابنك”، قالت: “فاعترضتُ له فضربتُ ساقه، فبرك”، قالت: “فرأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم- يتبسمُ حتى رأيت نواجذه”، وقال: “استقدتِ يا أم عمارة”، ثم أقبلنا نَعُلَّه بالسلاح حتى أتينا على نفسه، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم-: “الحمد لله الذي ظفَّرك، وأقرَّ عينك من عدوك، وأراك ثأرك بعينك”. وأصيبت نسيبة في هذا اليوم بثلاثة عشر جرحًا، واحد منها غار في عاتقها فنزف الدم منه، وهي رغم ذلك كالصاعقة الساحقة، تضرب في نحور العدو، وترتمي بين صفوفهم، غير آبهة ولا دارية بالدم الناعر من جسمها، فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: “أمّك أمك، اعصب جرحها، بارك الله عليكم من أهل بيت، مقام أمك خير من مقام فلان وفلان”، فلما سَمِعَتْ أمُه قالت: “ادع الله أن نرافقك في الجنة”، فقال: “اللهم اجعلهم رفقائي في الجنة”، فقالت: “ما أبالي ما أصابني في الدنيا”.
فهذه هي أم عمارة رضى الله عنها ،وأما ولدها حبيب بن زيد بن عاصم هو الذي أخذه مسيلمة الكذاب، فقطًّع أعضاءه عضوًا عضوًا ليرتد عن دينه، حتى مات تحت العذاب، وهو ثابت على دينه وبلغها مقتله، فاحتسبته عند الله، وأقسمت أن تقاتل مسيلمة حتى يقتل أو تقتل، فذهبت إلى اليمامة، واشتركت في الموقعة التي قتل فيها مسيلمة، وأبلت بلاء حسنًا -وكانت قد أصبحت مسنة- حتى قطعت يدها وهي تحاول قتل مسيلمة، وجُرِحت سوى يدها أحدَ عَشر جرحًا، ثم عادت من المعركة بيد واحدة، والدم ينزف، وكان أبو بكر رضي الله عنه وهو خليفة يأتيها يسأل عنها، واستمر جرحها ينزف دمًا حتى فارقت الحياة، وأدركتها الوفاة رضي الله عنها.
ومن النماذج الفريدة في جيل الصحابيات، الخنساء رضى الله عنها:
هي تماضر بنت عمرو بن الحارث السلمية، ولقبها الخنساء، لقد خرج أولادها الأربعة إلى القادسية يجاهدون في سبيل الله تعالى وقبيل المعركة وعظتهم موعظة بليغة فقالت: “يا بني إنكم أسلمتم وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله غيره إنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم. وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين. واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول الله عزَّ وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]. فإذا أصبحتم غدًا إن شاء الله سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين. وإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها واضطرمت لظى على سياقها، وجللت نارًا على أوراقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها؛ تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة”. فلما وصل إليها نبأ استشهادهم جميعًا لم تجذع ولكنها قالت: “الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته”.
ومن النماذج أيضا، امرأة حبيب بن مسلمة الفهري، ولَّى أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه حبيب بن مسلمة الفهري قيادة جيش من المسلمين لتأديب الروم، وكانوا قد تحرشوا بالمسلمين، وكان حبيب عند وفاة النبي – صلى الله عليه وسلم- صبيا، ثم التحق بالشام للجهاد فاشتهرت بطولته، ويعد فاتح أرمينية، وكانت زوجة حبيب جندية ضمن هذا الجيش، وقبل أن تبدأ المعركة أخذ حبيب يتفقد جيشه، وإذا بزوجته تسأله هذا السؤال: أين ألقاك إذا حمي الوطيس وماجت الصفوف؟ فأجابها قائلا: تجديني في خيمة قائد الروم أو في الجنة!، وحمي وطيس المعركة وقاتل حبيب ومن معه ببسالة منقطعة النظير، ونصرهم الله على الروم وأسرع حبيب إلى خيمة قائد الروم ينتظر زوجته، وعندما وصل إلى باب الخيمة وجد عجبا، لقد وجد زوجته قد سبقته ودخلت خيمة قائد الروم قبله! نعم .. فقد كانت ضمن الجيش تقاتل الروم، حتى وصلت إلى خيمة قائدهم قبل وصول زوجها إليها.
ولو كان النساء كمثل هذي * لفضلت النساء على الرجال
ومثل هذه المرأة جديرة بصنع الرجال الأبطال، إنها نموذج عظيم يُحتذى به.
أيها الشباب الحياة ليس فيها صعب أو مستحيل طالما أن هناك القدرة على العمل والحركة، هل تأملنا موقف امرأة بني دينار، لما عاد رسول الله – صلى الله عليه وسلم- من غزوة أحد، خرج الناس من المدينة للاستفسار عن نبيهم – صلى الله عليه وسلم- وذويهم المشتركين في المعركة، ويُروى أنه كانت من بينهم امرأة من بني دينار قتل يوم أحُد أبوها وزوجها وأخوها وابنها، فلما نُعوا لها لم تكترث كثيرا، فقد أنساها قلقها على حياة رسول الله – صلى الله عليه وسلم- كل أحد، ولهذا فإنها قالت بعد أن نُعِي لها أبوها وابنها وأخوها وزوجها: “ما فعل رسول الله – صلى الله عليه وسلم-؟ ” قالوا: “خيرًا يا أم فلان هو بحمد الله كما تحبين”، قالت: “أرونيه حتى أنظر إليه”، ثم جاءته وأخذت بناحية ثوبه ثم جعلت تقول: “بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لا أبالي إذا سلمت من عطب” فلما رأته سالمًا قالت- مشيرة إلى مصيبتها بفقد أبيها وزوجها وابنها وأخيها-: ” كل مصيبة بعدك جلل”. يعني: صغيرة.
ثم هل تأملنا موقف زنيرة جارية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان هو وجماعة من قريش يتولون تعذيبها، ولما ذهب بصرها قال المشركون: “ما أصاب بصرها إلا اللات والعزى”، فقالت لهم: “والله ما هو كذلك، وما تدري اللات والعزى من يعبدهما، ولكن هذا أمر من السماء، والله قادر على أن يرد عليَّ بصري”، قيل: “فرد عليها بصرها”، فقالت قريش: “هذا من سحر محمد – صلى الله عليه وسلم-“، وقد اشتراها أبو بكر وأعتقها رضي الله عنه”. ومنهن من كانوا يسقونها العسل، ويوثقونها بالأغلال، ثم يلقونها بين الرمال، ولها حرٌّ يذيب اللحم، ويصهر العظم، حتى يقتلها الظمأ”، وممن فعلوا بهن ذلك أم شريك غزيَّة بنت جابر بن حكيم- قال ابن عباس رضي الله عنهما: (وقع في قلب أم شريك الإسلام وهي بمكة، فأسلمت، ثم جعلت تدخل على نساء قريش سرًّا، فتدعوهن، وترغبهن في الإسلام، حتى ظهر أمرها لأهل مكة، فأخذوها، وقالوا لها: “لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا، ولكنا سنردك إليهم”، قالت: فحملوني على بعير ليس تحتي شيء موطأ ولا غيره، ثم تركوني ثلاثًا لا يطعموني، ولا يسقوني، فنزلوا منزلا، وكانوا إذا نزلوا وقفوني في الشمس واستظلوا، وحبسوا عني الطعام والشراب حتى يرتحلوا، فبينما أنا كذلك إذا بأثر شيء بارد وقع عليّ منه ثم عاد، فتناولته، فإذا هو دلو ماء، فشربت منه قليلا ثم نزع مني، ثم عاد فتناولته، فشربت منه قليلا، ثم رفع، ثم عاد أيضا، فصنع ذلك مرارا حتى رويت، ثم أفضت سائره على جسدي وثيابي، فلما استيقظوا “إذا هم بأثر الماء، ورأوني حسنة الهيئة، فقالوا لي: “انحللت فأخذتِ سقاءنا فشربت منه؟ ” فقلت: “لا والله ما فعلت ذلك، كان من الأمر كذا وكذا”، فقالوا: “لئن كنت صادقة، فدينك خير من ديننا”، فنظروا إِلى الأسقية فوجدوها كما تركوها، فأسلموا لساعتهم).
وأخيرا أخي الشاب، أكررها عليك وأقول: إن لم يكن لك في الرجال أسوة فتأسى بالنسوة، والأمثلة على ذلك كثيرة ولعل فيما ذكرنا كفاية، فهذا هو الطريق، فهيا لتنال شرف السير على الطريق، والله المستعان.