مقالات متنوعة

قصة وفاء بين زوجين

زينب وابن الربيع رضي الله عنهما

بقلم/ د. زين العابدين كامل

لا شك أن حسن الصحبة والمعاشرة بالمعروف وحسن العهد بين الزوجين من محاسن الأخلاق، ومن مقاصد الشريعة الإسلامية.

وتذكر لنا كتب السيرة قصة وفاء بين زوجين، وقعت خلال عصر النبوة، بل إن أحد أبطالها تربى وترعرع في بيت النبوة.

لقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم أربع بنات: زينب وهي أكبر بناته، وقد ولد قبلها أخوها الأكبر القاسم، وقد تزوجها أبو العاص بن الربيع وهو ابن خالتها هالة بنت خويلد، وفاطمة تزوجها علىّ بن أبى طالب رضي الله عنه، ورقية وأم كلثوم تزوجهما عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولهذا لُقب بذي النورين.

لقد تزوجت زينب رضي الله عنها قبل البعثة، من أبي العاص بن الربيع، وكان ذلك في حياة أمها خديجة رضي الله عنها، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلمت لله وآمنت برسوله صلى الله عليه وسلم، وهنا أرادت قريش من أبي العاص أن يطلقها، كما طلق أبناء أبي لهب أم كلثوم ورقية رضي الله عنهما، حيث قال له رجال من قريش: “فارق صاحبتك ونحن نزوجك أي امرأة من قريش شئت، قال: لا والله، إني لا أفارق صاحبتي، وما أحب أن لي بامرأتي امرأة من قريش”.

واستمرت زينب رضي الله عنها مع زوجها بمكة المكرمة، وحسنت بينهما العشرة، حيث كان كل واحد منهما يحب الآخر، ولم يكن قد نزل تحريم زواج المسلمة من الكافر بعد، قال ابن كثير في تفسيره لقول الله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}(الممتحنة:10): “هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين، وقد كان جائزاً في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة، ولهذا كان أبو العاص بن الربيع زوج ابنة النبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها، وقد كانت مسلمة وهو على دين قومه”.

وتمر السنون وتقع غزوة بدر في العام الثاني الهجري، وهنا أُسر أبو العاص مع أسرى قريش حيث كان في صفوفهم، ولما بعثت قريش بالفداء من اجل إطلاق سراح أسراها، بعثت زينب رضي الله عنها قلادتها في فداء زوجها، وقد كانت أمها خديجة رضي الله عنها، أدخلتها بها بتلك القلادة على أبي العاص، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة، حيث تذكَّر غربتها ووحدتها، وتذكر عهد خديجة وصحبتها وأيامها، فإن القلادة كانت لها،  وقال صلى الله عليه وسلم: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها! فقالوا: نعم، فأطلقوا سراحه دون مقابل. ( رواه الحاكم وأبو داود وحسنه الألباني).

وقد أخذ صلى الله عليه وسلم عهداً على ابن الربيع أن يسمح لزينب رضى الله عنها بالهجرة إلى المدينة المنورة، فوفَّى أبو العاص بذلك، قال ابن كثير في البداية والنهاية: “قال ابن إسحاق: وقد كان رسول صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه أن يُخْلِي سبيل زينب، يَعْنِي أَنْ تُهَاجِر إِلى المدينة، فَوَفَّى أبو العاص بذلك”. فكان صلى الله عليه وسلم يثني عليه فيقول: أَنْكَحْتُ أبا العاص بن الربيع فَحَدَّثَنِي وَصَدَقنِي، وفي رواية أخرى: وَوَعَدَنِي فَأوْفَى لي. (رواه البخاري)

لقد خرجت زينب رضي الله عنها مهاجرة من مكة إلى المدينة، وقد صحبها كنانة بن الربيع أخو زوجها، حيث خرج يحمل قوسه وكنانته، وهي في هودج لها، وقد تعرض لها في الطريق رجال من قريش، وروعوها وأخافوها، وكانت حاملًا، فطرحت ما في بطنها، وقصة هجرتها قصة قاسية، إلا أنها في النهاية وصلت إلى أبيها وأقامت بالمدينة المنورة وهي لا تزال في عصمة زوجها.( سيرة ابن هشام).

ثم أُسِر أبو العاص مرة أخرى وهو ذاهب إلى الشام للتجارة، فأخذ الصحابة ما معه من المال، ثم هرب أبو العاص وأتى في الليل حتى دخل على زينب، فاستجار بها فأجارته، ثم أسلم بعد ذلك، وجمع النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين زينب رضي الله عنها.

قال الإمام الذهبي في تاريخه: ” وَأَقْبَلَ أَبُو الْعَاصِ فِي اللَّيْلِ، حَتَّى دَخَل عَلَى زَيْنَبَ، فَاسْتَجَارَ بِهَا فَأَجَارَتْهُ، وَجَاءَ فِي طَلَبِ مَالِهِ، فَلَمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الصُّبْحِ فَكَبَّرَ وَكَبَّرَ النَّاسُ مَعَهُ، صَرَخَتْ زَيْنَبُ مِنْ صُفَّةِ النِّسَاءِ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ، وَبَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّرِيَّةِ الَّذِينَ أَصَابُوا مَالَهُ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ منا حيث قد علمتم، وقد أصبتم له مَالًا، فَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَرُدُّوا عَلَيْهِ الَّذِي لَهُ، فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَهُوَ فَيْءُ اللَّهِ الَّذِي أَفَاءَ عَلَيْكُمْ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِهِ، قَالُوا: بَلْ نَرُدُّهُ، فَرَدُّوهُ كُلَّهُ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ، فَأَدَّى إِلَى كُلِّ ذِي مَالٍ مَالَهُ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَلْ بَقِيَ لِأحَدٍ عِنْدِي مِنْكُمْ مَالٌ؟ قَالُوا:لَا، فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ وَجَدْنَاهُ وَفِيًّا كَرِيمًا، قَالَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَاللَّهِ مَا مَنَعَنِي مِنَ الْإِسْلَامِ عِنْدَهُ إِلَّا تَخَوُّفُ أَنْ تَظُنُّوا أَنِّي إِنَّمَا أَرَدْتُ أَكْلَ أَمْوَالَكُمْ.

 ثُمَّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: رَدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم زينب عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، لَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا”.

وكان ذلك في السنة السابعة للهجرة النبوية، وهكذا كان الوفاء في أسمى صوره بين الزوجين الكريمين، زينب وأبي العاص رضي الله عنهما.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى