انتبه .. أنتَ في شهر شعبان!
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن الله جعل مرور الأوقات تذكرة لعباده المؤمنين، وللمؤمن في كل وقت من الأوقات عبودية لله، ومن سعادة العبد أن يعرف شرف الزمن وقيمة الوقت، وأن يعرف وظائف الأوقات حتى يعمرها بطاعة الله -تعالى-، والمسلم دائمًا يهتم بواجب الوقت الذي هو فيه، ويغتنم الفرص في كل زمان ليحقق عبوديته لله -سبحانه- التي خُلق من أجلها.
وإن لشهر شعبان عند الله -تعالى- فضيلة، وقد كان سلف الأمة -رضي الله عنهم- يستعدون لشعبان كما يستعدون لرمضان، فعن لؤلؤة مولاة عمار قالت: “كان عمار -رضي الله عنه- يتهيأ لصوم شعبان كما يتهيأ لصوم رمضان”، وعن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ، قَالَ: (ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ) (رواه النسائي، وحسنه الألباني).
تقول عائشة -رضي الله عنها-: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ: لاَ يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ: لاَ يَصُومُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ” (رواه البخاري). ولمسلم عنها: “كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ كُلَّهُ كَانَ يَصُومُ شَعْبَانَ إِلاَّ قَلِيلاً”.
وقالت أيضًا: “كَانَ أَحَبَّ الشُّهُورِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنْ يَصُومَهُ شَعْبَانُ، بَلْ كَانَ يَصِلُهُ بِرَمَضَانَ” (رواه النسائي، وصححه الألباني).
فهذه الأحاديث المباركة تدل كلها على سنة الإكثار من الصيام في شعبان، ولكن لا يصومه كله؛ لقول عائشة -رضي الله عنها- في الحديث السابق: “فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- اسْتَكْمَلَ صِيَامَ شَهْرٍ إِلاَّ رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُهُ أَكْثَرَ صِيَامًا مِنْهُ فِي شَعْبَانَ”.
إذن فيحمل ما سواه على أن المراد صيام أكثر شعبان؛ فاجعل لنفسك نصيبًا، واعلم أن صيام اليوم الواحد يبعدك عن النار سبعين خريفًا، ويجعل لك في ساحة القيامة ريًّا، وبالإضافة إلى ذلك فإن فيه للشباب ضد الشهوات عونًا.
فكم ستصوم من شعبان أيها المحب… ؟!
قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: “وقد ظهر في الحديث وجه صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- لشعبان دون غيره من الشهور، وهو أنه شهر (يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ) يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان: الشهر الحرام وشهر الصيام؛ اشتغل الناس بهما عنه فصار مغفولاً عنه! وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيامه؛ لأنه شهر حرام، وليس كذلك، وروى ابن وهب قال: حدثنا معاوية بن صالح عن أزهر بن سعد عن أبيه عن عائشة قالت: ذكر لرسول الله ناس يصومون رجبًا؟ فقال: “فأين هم عن شعبان”.
وفي قوله: (يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ) إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه إما مطلقًا أو لخصوصية فيه لا يتفطن لها أكثر الناس فيشتغلون بالمشهور عنه، ويفوتون تحصيل فضيلة ما ليس بمشهور عندهم.
وفيه دليل على استحباب عمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، وأن ذلك محبوب لله -عز وجل- كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشاءين بالصلاة، ويقولون: هي ساعة غفلة… ولما كان شعبان كالمقدمة لرمضان شرع فيه ما يشرع في رمضان من الصيام وقراءة القرآن ليحصل التأهب لتلقي رمضان، وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن، ويروى عن أنس قال: كان المسلمون إذا دخل شعبان انكبوا على المصاحف فقرؤها وأخرجوا زكاة أموالهم تقوية للضعيف والمسكين على صيام رمضان.
وقال سلمة بن كهيل: كان يقال شهر شعبان شهر القراء، وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القراء” (انتهى بتصرف يسير من لطائف المعارف).
وقد خص الله شهر شعبان بليلة النصف المباركة: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ) (رواه ابن ماجه وابن حبان وابن أبي عاصم، وحسنه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِذا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبانَ اطَّلَعَ الله إِلَى خَلْقِهِ فَيَغْفِرُ لِلْمُؤمِنِينَ ويُمْلِي لِلْكافِرِينَ ويَدَعُ أهْلَ الحِقْدِ بِحِقْدِهِمْ حَتَّى يَدَعُوهُ) (رواه البيهقي، وحسنه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (ينزل ربنا -تبار وَتَعَالَى- إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لأَهْلِ الأَرْضِ إِلا مُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ) (رواه أحمد وابن أبي عاصم في السنة، وصححه الألباني).
وأما عن العبادة في تلك الليلة: قال الحافظ ابن رجب -رحمه الله-: “… والثاني: أنه يكره الاجتماع فيها في المساجد للصلاة والقصص والدعاء، ولا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه، وهذا قول الأوزاعي إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم، وهذا هو الأقرب -إن شاء الله تعالى-…
ومن الذنوب المانعة من المغفرة أيضًا: الشحناء، وهي حقد المسلم على أخيه بغضًا له لهوى نفسه، وذلك يمنع أيضًا من المغفرة في أكثر أوقات المغفرة والرحمة كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- مرفوعًا: (تُفْتَحُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلا رجلا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءٌ، فَيُقَالُ: انْظُرُوا هذَيْن حَتَّى يصطلحا)، وقد فسر الأوزاعي هذه الشحناء المانعة بالذي في قلبه شحناء لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ولا ريب أن هذه الشحناء أعظم جرمًا من مشاحنة الأقران بعضهم بعضًا.
وعن الأوزاعي أنه قال: المشاحن كل صاحب بدعة فارق عليها الأمة، وكذا قال ابن ثوبان: المشاحن هو التارك لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- الطاعن على أمته، السافك دماءهم.
وهذه الشحناء -أعني شحناء البدعة- توجب الطعن على جماعة المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم وأعراضهم، كبدع الخوارج، والروافض، ونحوهم.
فأفضل الأعمال سلامة الصدر من أنواع الشحناء كلها، وأفضلها السلامة من شحناء أهل الأهواء والبدع التي تقتضي الطعن على سلف الأمة وبغضهم والحقد عليهم، واعتقاد تكفيرهم أو تبديعهم وتضليلهم، ثم يلي ذلك سلامة القلب من الشحناء لعموم المسلمين وإرادة الخير لهم ونصيحتهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، وقد وصف الله -تعالى- المؤمنين عمومًا بأنهم يقولون: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر:10)” (انتهى بتصرف يسير من لطائف المعارف).
وأخيرًا: هذا تحذير، نعم… تحذير للمتهاونين بشعبان…
الذين تكاسلوا عن العمل الصالح فيه فعاد ذلك بالتهاون في رمضان، فكانت الشكوى من الخسران!
لماذا… ؟!
لأنهم لم يتهيئوا بالعمل الصالح للإحسان في رمضان، ولو أن هؤلاء كانت لهم قبل رمضان جولات في ميادين الاجتهاد في الطاعة؛ لأنِسوا من نفوسهم خيرًا، لكنهم طمعوا في نوال القرب ولما يستكملوا زاد المسيرة.
مضى رجـب وما أحسنـت فــيه وهـذا شهـر شـعـبـان الـمبارك
فـيـا مـن ضيـع الأوقـات جهـلاً بـحرمتـهـا أفـق واحذر بـوارك
فـسوف تـفـارق الـلـذات قـسرًا ويخلي الموت كرهًا منك دارك
تدارك ما استطعت من الخطايا بـتـوبة مخـلص واجعل مدارك
عـلى طلب السلامة من جحـيم فخـير ذوي الجرائم مَن تدارك