أيام العشر… ونفحات الخير
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فمن سعادة المؤمن أن يعرف شرف زمانه ووظائف المواسم الفاضلة، وللمؤمن في كل وقت عبودية علمًا وعملاً.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: “وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم، ومادة معيشته الضنك في العذاب الأليم، وهو يمر مرَّ السحاب، فمن كان وقته لله وبالله فهو حياته وعمره، وغير ذلك ليس محسوبًا من حياته. فإذا قطع وقته في الغفلة والسهو والأماني الباطلة، وكان خير ما قطعه به النوم والبطالة؛ فموت هذا خير من حياته”.
وقال ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: “ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته، فلا يضيع منه لحظة في غير قربة، ويقدم فيه الأفضل فالأفضل من القول والعمل، ولتكن نيته في الخير قائمة من غير فتور بما لا يعجز عنه البدن من العمل”.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (خِيَارُكُمْ أَطْوَلُكُمْ أَعْمَارًا، وَأَحْسَنُكُمْ أَعْمَالاً) (رواه أحمد والبزار، وصححه الألباني).
واعلم أن كل نَفس من أنفاس العمر جوهرة ثمينة، تستطيع أن تشتري بها كنزًا لا يفنى أبد الآباد، فكل يوم تعيشه هو غنيمة، بل كل لحظة من لحظات عمرك هي غنيمة؛ لأنك لو تاجرت بها مع الله -عز وجل- لربحت أعظم الأرباح.
ولقد عني القرآن والسنة بالوقت من نواحٍ شتى وبصور عديدة، فقد أقسم الله به في مطالع سور عديدة بأجزاء منه، مثل: الليل، والنهار، والفجر، والضحى، والعصر، كما في قوله -تعالى-: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى . وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى) (الليل:1-2)، (وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ) (الفجر:1-2)، (وَالضُّحَى . وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) (الضحى:1-2)، (وَالْعَصْرِ . إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) (العصر:1-2). ومعروف أن الله إذا أقسم بشيء من خلقه دلَّ ذلك على أهميته وعظمته؛ وليلفت الأنظار إليه وينبه على جليل منفعته.
وجاءت السنة الصحيحة لتؤكد على أهمية الوقت وقيمة الزمن، وتقرر أن الإنسان مسؤول عنه يوم القيامة، فعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلاهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ؟) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني). ومن هذه الأوقات الفاضلة:
العشر الأول من ذي الحجة:
أولاً: أقسم الله بها القرآن العظيم، قال الله -تعالى-: (وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ . وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) (الفجر:1-3).
ثانيًا: قال -تعالى-: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (الحج:28). وجمهور العلماءِ على أن هذه الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة على أحد القولين في التفسير، منهم: ابن عمر، وابن عباس، والحسن، وعطاء، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة، والنَخعي، وهو قول أبي حنيفةَ، والشافعي، وأحمد في المشهورِ عنه. والقول الثاني: يوم النحر وثلاثة أيام بعده. وقال البخاري: “وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيْامِ الْعَشْرِ، فَيُكَبِّرَانِ وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا”.
ثالثًا: عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشَرَةِ). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: (وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ) (رواه البخاري).
وفي رواية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلاَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الأَيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ) (رواه أحمد، وحسنه الحافظ ابن حجر، وصححه الشيخ أحمد شاكر).
وعن القاسم بن أبي أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَا مِنْ عَمَلٍ أَزْكَى عِنْدَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَلا أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ خَيْرٍ يَعْمَلُهُ فِي عَشْرِ الأَضْحَى). قِيلَ: وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ: (وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ). قال: “وَكَانَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ إِذَا دَخَلَ أَيَّامُ الْعَشْرِ اجْتَهَدَ اجْتِهَادًا شَدِيدًا حَتَّى مَا يَكَادُ يَقْدِرُ عَلَيْهِ” (رواه الدارمي والبيهقي في شعب الإيمان، وحسنه الألباني).
رابعًا: عن هُنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: “كَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَثَلاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ” (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
وقال النووي -رحمه الله-: “يستحب صيام هذه الأيام استحبابًا شديدًا، وأما ما ثبت في صحيح مسلم وغيره عن عائشة -رضي الله عنها-: “أن النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَصُمْ الْعَشْرَ قَطُّ”، فيجاب عليه بأن المثبِت يقدم على النافي، ويحمل حديث عائشة أيضًا على أن المقصود أنه لم يصم العشر كاملة أو عدم مواظبته على ذلك، ولا شك أن الصيام من جملة الأعمال الصالحة التي لا تحتاج إلى دليل خاص، فالقول بعدم المشروعية أو البدعية هو قول بعيد -والله أعلم-“.
خامسًا: ومن الأيام الفاضلة في العشر: “يوم عرفة” وما أدراك ما يوم عرفة؟! روى مسلم وغيره أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: (صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ).
ولما كان عيد النحر أكبر العيدين وأفضلهما ويجتمع فيه شرف المكان والزمان لأهل الموسم كانت لهم فيه معه أعياد قبله وبعده، فقبله يوم عرفة وبعده أيام التشريق، وكل هذه الأعياد أعياد لأهل الموسم خاصة ولغيرهم أيضًا كما في حديث عقبة بن عامر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (يَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ، وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، عِيدُنَا أَهْلَ الإِسْلامِ، وَهِيَ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني)، ولهذا لا يشرع لأهل الموسم صوم يوم عرفة؛ لأنه أول أعيادهم وأكبر مجامعهم، وقد أفطره النبي -صلى الله عليه وسلم- بعرفة والناس ينظرون إليه.
ويوم عرفة هو يوم كمال الدين وإتمام النعمة: عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: أَنَّ رَجُلا، مِنَ اليَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ اليَهُودِ نَزَلَتْ، لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ عِيدًا. قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) (المائدة:3)، قَالَ عُمَرُ: “قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ، وَالمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ” (متفق عليه).
ويوم عرفة هو يوم العتق من النيران: عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَإِنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمِ الْمَلائِكَةَ، فَيَقُولُ: مَا أَرَادَ هَؤُلاءِ؟) (رواه مسلم).
يوم عرفة هو اليوم المشهود الذي أقسم الله به: قال الله -تعالى-: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ . وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ . وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) (البروج:1-3).
وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (اليَوْمُ المَوْعُودُ يَوْمُ القِيَامَةِ، وَاليَوْمُ المَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالشَّاهِدُ يَوْمُ الجُمُعَةِ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).
وتأمل أحوال الصالحين في يوم عرفة ما بين خوفهم من الله، ورجائهم في الله: رؤي الفضيل -رحمه الله- يوم عرفة والناس يدعون وهو يبكي بكاء الثكلى المحترقة حتى إذا كادت الشمس تغرب قبض على لحيته ثم رفع رأسه إلى السماء، وقال: “واسوأتاه منك وإن غفرت”، ثم انقلب مع الناس.
وعن عبد الله بن المبارك -رحمه الله- قال: “جِئْتُ إلَى سُفْيَانَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَهُوَ جَاثٍ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَعَيْنَاهُ تَهْمِلانِ فَبَكَيْتُ فَالْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ فَقُلْتُ: مَنْ أَسْوَأُ هَذَا الْجَمْعِ حَالاً؟ قَالَ: الَّذِي يَظُنُّ أَنَّ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لا يُغْفَرَ لَهُمْ”.
وعن الفضيل -رحمه الله-: أَنَّهُ نَظَرَ إلَى بُكَاءِ النَّاسِ بِعَرَفَةَ، فَقَالَ: “أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ هَؤُلاءِ صَارُوا إلَى رَجُلٍ فَسَأَلُوهُ دَانِقًا أَكَانَ يَرُدُّهُمْ؟ قَالُوا: لا قَالَ وَاَللَّهِ لَلْمَغْفِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ أَهْوَنُ مِنْ إجَابَةِ رَجُلٍ بِدَانِقٍ”.
أيها المسلمون…
من فاته التجرد من الملابس بالإحرام؛ فليزهد في الدنيا وليترك الحرام.
ومن فاته أن يلبي بلسانه؛ فليلزم وليلب بجنانه.
ومن فاته أن يطوف ببيت الرحمن؛ فليطف بقلبه في رياض القرآن.
ومن فاته السعي والمبيت بمنى؛ فليسع في الخير وليبت طائعًا ها هنا.
ومن فاته الوقوف بعرفة؛ فليقم لله بحقه الذي عرفه.
ومن فاته الذبح بمنى؛ فليذبح هواه ها هنا وقد نال المنى.
ومن فاته رمي الجمار؛ فليعص شيطانه وليُزل عن كاهله الأوزار.
ومن فاته الذكر والدعاء بالمشعر الحرام؛ فعليه بهما بالسحر والناس نيام.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.