نفض الغبار عن تاريخ الأخيار (6)
تحقيق موقف عثمان بن عفان رضي الله عنه من الفتنة (2)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زلنا نلقي الضوء على تحقيق موقف عثمان رضي الله عنه، وقد أشرنا في المقال السابق إلى حجم الفتوحات والإنجازات التي تمت في عصر خلافته، وفي هذا المقال نستعرض مختصر أحداث الفتنة، وموقف أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه منها.
فتنة مقتل عثمان علم من أعلام النبوة:
إن ما وقع من أحداث جسام في فتنة مقتل عثمان رضي الله عنه وما ترتب عليها من أحداث وقلائل وتوترات، تحتاج لدراسة تاريخية بحثية عميقة ومتأنية، لكي نستخرج من تلك الحقبة التاريخية دروسًا وعِبَرًا نستضيء بها في حاضرنا، ونسترشد بها في سعينا الجاد؛ لإعادة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، حتى تسعد البشرية بدين الله وشرعه، وتخرج من شقاوتها وتعاستها وضنكها؛ بسبب بُعدها عن شرع الله تعالى.
ولقد أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كثيرٍ مِن أحاديثه بأن هذه الأمة ستختلف وستتقاتل، وتعددت الأحاديث التي تشير إلى ذلك بإجمالٍ أو بتفصيلٍ.
وتبدأ هذه المرحلة الحرجة مِن تاريخ الصحابة رضي الله عنهم بمقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان، وكانت هذه هي البداية الحقيقية لوقوع الفتنة بين الصحابة، ولقد أخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالفتنة التي تعرض لها عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهذا عَلَمٌ مِن أعلام نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلقد أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عثمان ببعض معالم هذه الفتنة فقال له: “يَا عُثْمَانُ إِنَّهُ لَعَلَّ اللَّهَ يُقَمِّصُكَ قَمِيصًا، فَإِنْ أَرَادُوكَ عَلَى خَلْعِهِ فَلَا تَخْلَعْهُ لَهُمْ”([1])، وقد بشَّره الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجنة على بلوى تصيبه([2]).
قال الإمام الزهري رحمه الله: “ولي عثمان اثنتي عشرة سنة أميرًا للمؤمنين، أول ست سنين منها لم ينقم الناس عليه شيئًا، وإنه لأحب إلى قريش من عمر بن الخطاب؛ لأن عمر كان شديدًا عليهم، أما عثمان فقد لان لهم ووصلهم([3])، ثم حدثت الفتنة بعد ذلك، وقد سمَّى المؤرخون الأحداث في النصف الثاني من ولاية عثمان 30 – 35هـ (الفتنة) التي أدَّت إلى استشهاد عثمان رضي الله عنه”([4]).
ولا شك أن هذه الفتنة هي أول الفتن التي ابُتلي بها الصحابة رضي الله عنهم، يوم أن خرج المنافقون على عثمان بن عفان رضي الله عنه، وطلبوا منه أن يتنازل عن منصب الخلافة، ونازعوه على ذلك حتى قتلوه رضي الله عنه([5]).
بعض العوامل التي ساعدت على تأجج نار الفتنة:
1- تعدد الثقافات في المجتمع وموت كثيرٍ مِن جيل كبار الصحابة الكرام:
لما توسعت الدولة الإسلامية عبْر حركة الفتوحات الإسلامية، حدث تغير في تركيبة المجتمع؛ لأن هذه الدولة بتوسعها الجغرافي والبشري، ورثت ما على هذه الرقعة الواسعة مِن ألوان، ولغات، وثقافات، وعادات، وأفكار مختلفة، ولا شك أن الصحابة كانوا يقلون رويدًا رويدًا؛ فمنهم مَن يموت على فراشه، ومنهم مَن يموت في أرض الجهاد، وهناك جمع غفير جدًّا منهم قد مات في طاعون عمواس، وتستقبل الأرض بدلًا عنهم أعدادًا وفيرة مِن أبناء المناطق المفتوحة “فرس، وترك، وروم، وقبط، وكرد، وبربر”، وكان أكثرهم مِن الفرس أو مِن النصارى العرب أو غيرهم؛ وقد ترتب على ذلك أن خرج جيل جديد لم يكن على نفس الدرجة التي كان عليها الصحابة، ولم يتخرج مِن المدرسة التي تخرج منها الصحابة -رضي الله عنهم-، ومِن ثَمَّ ساعد ذلك على ظهور بعض الانحرافات الفكرية والسلوكية وهذا بلا شك ساعد على وقوع الفتن المتنوعة، وليس معنى هذا أن عدم وجود الجيل الأول هو السبب الرئيسي، لا، ولكن عدم التمسك بمنهج الجيل الأول هو السبب في وقوع الضعف والفرقة والاختلاف.
2- عدم التعامل الحسن من الناس تجاه رأفة عثمان رضي الله عنه وحلمه:
لا شك أن هناك تباينًا ملحوظـًا بيْن أسلوبي عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما في كيفية إدارة الدولة وسياسة التعامل مع الرعية؛ فبينما كان عمر قوي الشكيمة، شديد المحاسبة لنفسه، ولمن تحت يديه، كان عثمان ألين طبعًا، وأرق في المعاملة، ولم يكن يأخذ نفسه أو يأخذ الناس بما يأخذهم به عمر رضي الله عنه، حتى قال عثمان رضي الله عنه نفسه: “يرحم الله عمر، ومَن يطيق ما كان عمر يطيق!”، لكن الناس وإن رغبوا في الشوط الأول مِن خلافته؛ لأنه لان معهم وكان عمر شديدًا عليهم حتى أصبحت محبته مضرب المثل، فكان عثمان رضي الله عنه يتحلى بالرأفة والرحمة واللين مع الرعية، وللأسف قابل كثير مِن الناس هذه المعاملة الطيبة بالإساءة، وهذا اللين وهذه الرأفة مِن مميزات عثمان رضي الله عنه، لكن بعض الناس لم يحسنوا أن يقابلوا ذلك بالإحسان والطاعة!
وقد أدرك عثمان ذلك حين قال لأقوام سجنهم: “أتدرون ما جرأكم عليَّ؟! ما جرأكم عليَّ إلا حلمي!”.
وروى يحيى عن أفلح بن حميد عن أبيه قال: لما أراد عثمان رضي الله عنه أن يكلِّم الناس على المنبر ويشاورهم في أمر توسعة المسجد، قال له مروان بن الحكم: “فداك أبي وأمي، هذا أمر خير لو فعلته ولم تذكر لهم، فقال: ويحك! إني أكره أن يروا أني أستبد عليهم بالأمور.قال مروان: فهل رأيت عمر حيث بناه وزاد فيه ذكر ذلك لهم؟ قال: اسكت، إن عمر اشتد عليهم فخافوه، حتى لو أدخلهم في جحر ضب دخلوا، وإني لنت لهم حتى أصبحت أخشاهم. قال مروان بن الحكم: فداك أبي وأمي لا يسمع هذا منك فيجترأ عليك”.
وقال محب الدين الخطيب رحمه الله عن هؤلاء الذين قابلوا الإحسان بالإساءة: “وفيهم مَن أصابهم مِن عثمان شيء مِن التعزير لبوادر بدرتْ منهم تخالِف أدب الإسلام؛ فأغضبهم التعزير الشرعي مِن عثمان رضي الله عنه، ولو أنهم قد نالهم مِن عمر رضي الله عنه أشد منه لرضوا به طائعين”([6]).
ونستكمل في المقال القادم بمشيئة الله تعالى.
([1]) رواه الترمذي (3705)، وصححه الألباني.
([2]) عن أبى موسى الأشعري رضي الله عنه، أَنَّهُ تَوَضَّأَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ:” لأَلْزَمَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلأَكُونَنَّ مَعَهُ يَوْمِي هَذَا، قَالَ : فَجَاءَ الْمَسْجِدَ، فَسَأَلَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: خَرَجَ وَجَّهَ هَاهُنَا، قَالَ: فَخَرَجْتُ عَلَى أَثَرِهِ أَسْأَلُ عَنْهُ حَتَّى دَخَلَ بِئْرَ أَرِيسٍ، قَالَ: فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ، وَبَابُهَا مِنْ جَرِيدٍ حَتَّى قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجَتَهُ وَتَوَضَّأَ، فَقُمْتُ إِلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ جَلَسَ عَلَى بِئْرِ أَرِيسٍ، وَتَوَسَّطَ قُفَّهَا، وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ وَدَلاَّهُمَا فِي الْبِئْرِ، قَالَ : فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ انْصَرَفْتُ، فَجَلَسْتُ عِنْدَ الْبَابِ، فَقُلْتُ لأَكُونَنَّ بَوَّابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَوْمَ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَدَفَعَ الْبَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ، فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ، قَالَ: ثُمَّ ذَهَبْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا أَبُو بَكْرٍ يَسْتَأْذِنُ، فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ، قَالَ: فَأَقْبَلْتُ حَتَّى قُلْتُ لأَبِي بَكْرٍ: ادْخُلْ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَشِّرُكَ بِالْجَنَّةِ، قَالَ : فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَجَلَسَ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُ فِي الْقُفِّ، وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ كَمَا صَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَشَفَ عَنْ سَاقَيْهِ، ثُمَّ رَجَعْتُ، فَجَلَسْتُ وَقَدْ تَرَكْتُ أَخِي يَتَوَضَّأُ وَيَلْحَقُنِي، فَقُلْتُ: إِنْ يُرِدِ اللَّهُ بِفُلاَنٍ يُرِيدُ أَخَاهُ خَيْرًا يَأْتِ بِهِ، فَإِذَا إِنْسَانٌ يُحَرِّكُ الْبَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ، ثُمَّ جِئْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: هَذَا عُمَرُ يَسْتَأْذِنُ، فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ، فَجِئْتُ عُمَرَ، فَقُلْتُ: أَذِنَ وَيُبَشِّرُكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ، قَالَ: فَدَخَلَ فَجَلَسَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقُفِّ عَنْ يَسَارِهِ، وَدَلَّى رِجْلَيْهِ فِي الْبِئْرِ، ثُمَّ رَجَعْتُ، فَجَلَسْتُ، فَقُلْتُ: إِنْ يُرِدِ اللَّهُ بِفُلاَنٍ خَيْرًا يَعْنِي أَخَاهُ يَأْتِ بِهِ، فَجَاءَ إِنْسَانٌ فَحَرَّكَ الْبَابَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، فَقُلْتُ: عَلَى رِسْلِكَ، قَالَ وَجِئْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ مَعَ بَلْوَى تُصِيبُهُ، قَالَ: فَجِئْتُ، فَقُلْتُ: ادْخُلْ وَيُبَشِّرُكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ مَعَ بَلْوَى تُصِيبُكَ، قَالَ: فَدَخَلَ فَوَجَدَ الْقُفَّ قَدْ مُلِئَ فَجَلَسَ وِجَاهَهُمْ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ، قَالَ شَرِيكٌ: فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: فَأَوَّلْتُهَا قُبُورَهُمْ” [(رواه البخاري (3674)، ومسلم (2403)].
([3]) الطبقات لابن سعد (1/39-47)، البداية والنهاية لابن كثير (7/144-149).
([4]) مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/20).
([5]) تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان رضي الله عنه للصلابي (ص 310).
([6]) العواصم من القواصم لابن العربي، بتعليق محب الدين الخطيب (ص58).