مقالات تاريخية

نفض الغبار عن تاريخ الأخيار (5)

تحقيق موقف عثمان بن عفان رضي الله عنه من الفتنة (1)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد تحدثنا في المقالات السابقة عن فضل الصحابة رضي الله عنهم وعلو منزلتهم، ثم سلطنا الضوء على مناهج بعض المؤرخين، ثم نشرع بمشيئة الله تعالى في الحديث عن تحقيق مواقف الصحابة رضي الله عنهم خلال الفتنة التي جرت بينهم، ونزيل الغبار عن تاريخ الأخيار؛ فما أحوجنا إلى العودة إلى التاريخ، فإن الاطلاع على أحوال السابقين يوسع آفاق المسلم، ويعلِّمه كيف ترتقي الأمم، وكيف تنهار ثم تزول.
فالتاريخ ليس مجرد أقاصيص وحكايات تُروى؛ بل هو النبراس والذاكرة التي يطلع مِن خلالها الإنسان على الأحوال والحوادث والوقائع، وما صاحبها من تغيرات ومجريات، والتاريخ فيه استلهام للمستقبل على ضوء السنن الربانية الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل، ولا تحابي أحدًا مِن الخلق بحال.
ودراسة التاريخ ركن أساسي لبناء أمة قوية، فهي ليست دراسة تكميلية كما يظن البعض؛ لأن التاريخ بمثابة الثروة التي تحتاج إلى مَن يحسن استثمارها، فلا مستقبل لأمة تجهل تاريخها، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (يوسف: )
موقف عثمان بن عفان رضي الله عنه:
يحسن هنا أن نبدأ بتحقيق موقف أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، وهنا لابد مِن تمهيد أولًا قبل الحديث عن التوترات والفتن؛ فلقد تولى الخلافة أمير المؤمنين عثمان رضى الله عنه وحاول بكل سبيل أن يحافظ على كيان الأمة، وألا يفرِّق شملها، واجتهد في الحِفاظ على ما ورثه من الخليفتين: أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وعندما بويع عثمان رضي الله عنه بالخلافة قام في الناس خطيبًا فأعلن عن منهجه السياسي في الحكم والإدارة، مبينًا أنه سيتقيد بالكتاب والسُّنة وسيرة الشيخين.
هذا وقد أعلن عثمان رضي الله عنه عن المبادىء التي سيعتمدها أثناء قيادته للأمة، ومنها: مبدأ الشورى، والعدل، والمساواة، ثم قام عثمان في عهده بجمع المسلمين على مصحفٍ واحدٍ؛ وذلك حفاظًا على الأمة من الاختلاف.
قال القرطبي رحمه الله في التفسير: “وكان هذا من عثمان رضي الله عنه بعد أن جمع المهاجرين والأنصار وجلة أهل الإسلام وشاورهم في ذلك، فاتفقوا على جمعه بما صح وثبت من القراءة المشهورة عن النبي صلى الله عليه وسلم واطراح ما سواها، واستصوبوا رأيه، وكان رأيًا سديدًا موفقًا([1]).
وقد عمل عثمان على توطيد نفوذ المسلمين في كثيرٍ مِن البلاد التي تم فتحها من قبل([2])، وعمل المسلمون على توطيد نفوذهم من جديد في بعض المدن الفارسية التي ثارت ضد الحكم الإسلامي، حيث إن المسلمين لم يكونوا قد استقروا بها استقرارًا تامًّا؛ لا سيما المناطق الواقعة على الحدود، وقد قامت عدة ثورات في بعض المناطق، وقد وفَّق الله المسلمين لإخماد تلك الثورات والسيطرة على زمام الأمور في كثيرٍ مِن المناطق الثائرة، مثل: همذان([3])، وأذربيجان([4])، والري([5])، واصطخر([6])، وطبرستان([7])، وجرجان([8])، وخراسان([9])، وكرمان([10]).
وفي عام “25هـ/ 645م”: أعاد المسلمون فتح مدينة الإسكندرية في عهد ولاية عبد الله بن سعد بن أبي سرح، بعد أن هاجمها البيزنطيون انطلاقًا من جزيرة رودس([11]) بهدف استعادتها، كما نجح المسلمون في ضم مناطق جديدة إلى الدولة الإسلامية، ففي سنة24 هـ – 645م، جرى غزو “أذربيجان”، و”أرمينية”([12]) للمرة الثانية على يد الوليد بن عقبة بعد أن امتنع أهلها عن دفع ما كانوا قد صالحوا المسلمين عليه، وفي نفس العام وصل معاوية بن أبى سفيان إلى الشام لصد تحركات الرومان نحو بلاد الشام، فشنوا الغارات الكثيرة على الروم، وانتصروا عليهم([13]).
وتوالت الفتوحات الإسلامية حتى وصل معاوية رضي الله عنه إلى “عمورية”، وقد نجح في فتح قنسرين وغيرها.
وفي سنة 27هـ – 648م جهَّز الخليفة جيشًا لفتح إفريقية (تونس حاليّا)، وفي العام التالي أمد الخليفة جيش الفتح بقوات جديدة في مقدمتها عدد من أعلام الصحابة :كعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم، والذين قد عُرفوا بالعبادلة، وانتصر جيش المسلمين على الجيش البيزنطي.
وقد سُميت هذه الواقعة بـ”بغزوة العبادلة”، وفيها قُتل القائد البيزنطي: “جُرْجير” على يد عبد الله بن الزبير، وسيطر المسلمون على أرض تونس سنة 27هـ، وفي سنة 28هـ – 649م عمل معاوية على وضع النواة الأولى للأسطول البحري الإسلامي، فاستأذن الخليفة في ذلك فأذن له، فبدأ يعمل على إنشاء هذا الأسطول([14]).
ولما أتم معاوية تجهيز أول أسطول إسلامى اتجه به إلى غزو قبرص، حيث كانت قبرص في ذلك التوقيت تمثِّل المحطة الرئيسية للأسطول البيزنطي في البحر المتوسط، وهو الذي اعتاد مهاجمة الشواطئ الإسلامية، وتم لمعاوية رضي الله عنه فتحها سنة 28هـ – 649م ([15]).
ثم كانت معركة ذات الصواري، وخرج الأسطول الإسلامي وهاجم المسلمون مراكب الروم بالقرب من شواطئ “كيليكيا”، فانهزم الأسطول الرومي، وكان ذلك عام 31هـ -651م([16]).
وهكذا كانت حركة الفتوحات الإسلامية أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه كبيرة وواسعة؛ إذ أضافت بلادًا جديدة في إفريقية وقبرص وأرمينيا، وأجبرت مَن نقض العهد مع المسلمين إلى الصلح مِن جديدٍ في: فارس، وخراسان، وباب الأبواب([17]).
ونستكمل في المقال القادم بمشيئة الله تعالى.

([1]) الجامع لأحكام القرآن (1/ 52).
([2]) تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية .
([3]) هَمِدان أو همذان: هي مدينة إيرانية وعاصمة محافظة همدان، وتعرف أيضًا باسم: (أكبتانا)، وذكر السيوطي في كتابه: “تاريخ الخلفاء :”أن المسلمين سيطروا عليها في زمن عمر بن الخطاب عام 22هـ. انظر البلدان لليعقوبي (1/ 77)، ومعجم البلدان للحموي (5/ 410)
([4]) أذربيجان: هي واحدة من ست دول تركية مستقلة في منطقة القوقاز في أوراسيا. تقع في مفترق الطرق بين أوروبا الشرقية وآسيا الغربية، ويحدها بحر قزوين إلى الشرق، وروسيا من الشمال، وجورجيا إلى الشمال الغربي، وأرمينيا إلى الغرب، وإيران في الجنوب. انظر: معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع (1/129).
([5]) الري: هي مدينة تاريخية تقع بالقرب من طهران في إيران، كما يُنسب إليها عدد من علماء المسلمين، منهم: فخر الدين الرازي صاحب تفسير مفاتيح الغيب، والكيميائي محمد بن زكريا الرازي .انظر: معجم البلدان (3/116)
([6]) اصطخر: هي مدينة قديمة تقع في جنوب إيران في محافظة فارس. انظر حدود العالم من المشرق إلى المغرب، المؤلف: مجهول (توفي: بعد 372هـ). تحقيق وترجمة: السيد يوسف الهادي، الناشر: الدار الثقافية للنشر، القاهرة، الطبعة: 1423 هـ، ص144.
([7]) طبرِستان (بفتح الطاء والباء وكسر الراء) هو إقليم عرفه العرب والفرس باسمه منذ القرون القديمة، وهو يَقع في شمال دولة إيران اليوم ويَمتد في مُعظمه على الساحل الجنوبي لبحر قزوين، انظر: معجم البلدان (4/1)
([8]) جرجان أو بالفارسية: گرگان، وكانت قديمًا تسمّى: أستراباذ أو أستراباد، وهي إحدى المدن الشهيرة في إيران، وتقع في شمالي إيران. انظر: معجم البلدان (2/119)
([9]) خراسان الكبرى: تعرف باللغة الفارسية: خراسان بزرگ، وهي منطقة جغرافية واسعة. من الناحية التاريخية يشمل إقليم “خراسان الإسلامي”: شمال غرب أفغانستان، مثل مدينة حيرات وأجزاء من جنوب تركمانستان، إضافة لمقاطعة خراسان الحالية في إيران. انظر: معجم البلدان (2/350)
([10]) كرمان: مدينة إيرانية تقع وسط البلاد في محافظة كرمان، وهذه المدينة من أهم المدن في إيران، وتعتبر ثامن مدينة من حيث المساحة فی إيران. وکرمان من المدن التاريخية والثقافية في إيران. انظر: معجم البلدان (4/454)
([11]) جزيرة رودس: هي جزيرة يونانية في البحر الأبيض المتوسط، تقع بالقرب من الساحل الجنوبي لتركيا في منتصف المسافة بين جزر اليونان الرئيسية وقبرص. وتعد رودس أبعد الجزر الشرقية بالنسبة لليونان، وورودس: جزيرة مقابل الإسكندرية على ليلة منها في البحر. انظر: معجم البلدان (2/ 228)
([12]) أرمينيا: هي بلد جبلي غير ساحلي يقع في القوقاز من أوراسيا تحدها تركيا من الغرب، وجورجيا من الشمال، وأذربيجان في الشرق. أما من الجنوب فتحدها إيران ومكتنف ناخيتشيفان الأذربيجاني. انظر: خريطة العالم الجغرافية.
([13]) تاريخ الرسل والملوك للطبري (4/525)
([14]) تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية، لمحمد سهيل طقوش (1/37 (
([15]) البداية والنهاية لابن كثير (7/345(
([16]) تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية لمحمد سهيل طقوش (ص360(
([17]) باب الأبواب: مدينة على بحر طبرستان، انظر: معجم البلدان (1/(

زر الذهاب إلى الأعلى