نفض الغبار عن تاريخ الأخيار (7)
تحقيق موقف عثمان بن عفان رضي الله عنه من الفتنة (3)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زلنا نلقي الضوء على تحقيق موقف عثمان رضي الله عنه من الفتنة، وقد سلَّطنا الضوء في المقالين السابقين على حجم الفتوحات والإنجازات التي تمت في عصر خلافته، ثم أشرنا إلى بعض العوامل التي ساعدت على تأجج نار الفتنة، ومنها:
– تعدد الثقافات في المجتمع.
– موت كثير مِن جيل كبار الصحابة الكرام.
– عدم التعامل الحسن مِن الناس تجاه رأفة عثمان رضي الله عنه وحلمه.
وفي هذا المقال نستكمل بقية العوامل التي ساعدت على إشعال الفتنة، ومنها:
– العودة إلى العصبية الجاهلية:
لقد حذر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من العصبية، وقال: “دَعُوهَا، فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ”، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟” قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: “دَعُوهَا، فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ”([1]).
وقد ظهرت هذه العصبية عند بعض الأفراد قُبيل الفتنة وساعتها، فهناك مَن تعصب لعثمان رضي الله عنه بعد مقتله، وأصرَّ على إقامة الحد وأخذ الثأر، ولم يراعِ الواقع الذي يعيشه، ولم ينظر إلى مآلات الأمور، ولم يحسن الترجيح بين المصالح والمفاسد، وهناك صنف آخر تعصب لبني أمية دون تريث، سواء من الأمويين أو من أهل الشام بصفةٍ عامةٍ، ومِن ثَمَّ ساعدت هذه العصبية على اشتعال الفتنة؛ لذا كان مِن أول أعمال النبي صلّى الله عليه وسلّم في المدينة النبوية: تأسيس المجتمع الجديد على المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وإرساء دعائم المحبة والأخوة والائتلاف بين جميع المسلمين، ونَبْذ كل ألوان العصبية الجاهلية التي تفرِّق الناس، وتثير نعرات العصبية والاختلاف.
وفي فتح مكة خطب النبي صلّى الله عليه وسلّم الناس، وأعلن للناس ركيزة تأسيس هذه الأمة، فقال: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ -الكبر والفخر- الجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ، قَالَ اللَّهُ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات:13]”([2]).
فهذا هو اللواء الذي رفعه الإسلام لينقذ البشرية من العصبية للجنس، والعصبية للأرض، والعصبية للقبيلة؛ وكلها مِن الجاهلية.
وقد حارب الإسلام هذه العصبية الجاهلية في كل صورها وأشكالها، ليقيم نظامه الإنساني العالمي في ظل راية واحدة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ، إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجِعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتِنَ”([3]).
– تآمر الحاقدين والمنافقين، ودور عبد الله بن سبأ في إشعال الفتنة:
لقد دخل في الإسلام منافقون يجمعون الحقد والدهاء والمكر في أشخاصهم، ووجدوا مَن يستمع إليهم بآذان صاغية؛ هذا بالإضافة إلى مكر اليهود والنصارى وحقدهم على الإسلام، فاستغل أولئك الحاقدون من يهود ونصارى، وفرس، وأصحاب الجرائم الذين أٌقيمت عليهم الحدود الشرعية، مجموعات من الناس كان معظمهم من الأعراب، ممن لا يفقهون هذا الدين على حقيقته، فتكونت لهؤلاء جميعًا طائفة وُصفت مِن جميع مَن قابلهم بأنهم أصحاب شر، فقد وُصفوا بالغوغاء مِن أهل الأمصار، ونُزَّاع القبائل، وأنهم حثالة الناس ومتفقون على الشر([4])، وسفهاء عديمو الفقه، وأراذل من أوباش القبائل([5]) فهم أهل جفاء وهمج، ورعاع من غوغاء القبائل، وسفلة الأطراف الأراذل، وأنهم آلة الشيطان!([6]).
وكان ابن سبأ أول مَن أحدث القول برجعة علي رضي الله عنه إلى الدنيا بعد موته، وبرجعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول مكان أظهر فيه ابن سبأ مقالته هذه في مصر، فكان يقول: “العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع ويكذب برجوع محمد، وقال الله عز وجل: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) [القصص:85]، فمحمد أحق بالرجوع من عيسى فقُبل ذلك منه، ووضع لهم الرجعة فتكلموا فيها”([7])، وهو أول مَن قال بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه، وأنه خليفته على أمته من بعده بالنص، وأول مِن أظهر البراءة من أعداء علي رضي الله عنه.
وادعى ابن سبأ أيضًا: أن عليًّا رضي الله عنه هو دابة الأرض، وأنه هو الذي خلق الخلق وبسط الرزق!([8])، وقد برز دور عبد الله بن سبأ في السنوات الأخيرة من خلافة عثمان رضي الله عنه حيث بدت في الأفق سمات الاضطراب في المجتمع الإسلامي([9])، وغاية ما جاء به ابن سبأ آراء ومعتقدات ادعاها واخترعها مِن قِبَل نفسه، وافتعلها مِن يهوديته الحاقدة، وجعل يروجها وينشرها في المجتمع بغية النيل من وحدته وإذكاء نار الفتنة، وغرس بذور الشقاق بين أفراده.
فكانت هذه الأفكار مِن أهم العوامل التي أدَّت إلى قتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه، وتفرُّق الأمة شيعًا وأحزابًا، وبعد أن استقر الأمر في نفوس أتباعه انتقل إلى هدفه، وهو خروج الناس على الخليفة عثمان رضي الله عنه، فصادف ذلك هوى في نفوس بعض القوم حيث قال لهم: “من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووثب على وصيِّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتناول أمر الأمة؟!”.
ثم قال لهم بعد ذلك: “إن عثمان أخذها بغير حق، وهذا وصي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فانهضوا في هذا الأمر فحركوه، وابدأوا بالطعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس، وادعوهم إلى هذا الأمر”([10]).
هذا وقد اتفق المؤرخون والعلماء مِن سلف الأمة وخَلَفِهَا على أن ابن سبأ ظهر بين المسلمين بعقائد وأفكار وخطط سبئية منحرفة؛ ليرد المسلمين عن دينهم وطاعة إمامهم، ويوقع بينهم الفُرْقة والخلاف، فاجتمع إليه من غوغاء الناس ما تكونت به بعد ذلك الطائفة السبئية المعروفة، التي كانت عاملًا من عوامل الفتنة في المجتمع المسلم.
وهنا تظهر خطورة النفاق وخطورة المنافقين على المجتمع؛ لذا كان النفاق أخطر مِن الكفر وعقوبته أشد؛ لأنه كفر بلباس الإسلام وضرره أعظم؛ ولذلك جعل الله المنافقين في أسفل النار كما قال -سبحانه-: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا) [النساء: 145].
ونستكمل في المقال القادم بمشيئة الله تعالى.
([1]) رواه البخاري (4907)، ومسلم (2584).
([2]) رواه الترمذي (3270)، وصححه الألباني.
([3]) رواه أحمد (8736)، وأبو داود (5116)، وحسنه الألباني.
([4]) الطبقات لابن (3/71).
([5]) شذرات الذهب لابن العماد الحنبلي (1/ 201).
([6]) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/327). قلتُ: وقد تردد في المصادر: اسم عبد الله بن سبأ الصنعاني اليهودي ضمن هؤلاء الموتورين الحاقدين، وأنه كان مِن اليهود ثم أسلم، ولم ينقب أحد عن نواياه فتنقل بين البلدان الإسلامية باعتباره أحد أفراد المسلمين.
قال ابن تيمية رحمه الله: “إن مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق عبد الله بن سبأ” [مجموع الفتاوى (28/ 483)]، وقال الذهبي: “عبد الله بن سبأ من غلاة الزنادقة، ضال مضل” [ميزان الاعتدال (2/ 426)]، وهو ادعى الإلهية في علي بن أبي طالب، وقد أحرقهم علي بالنار في خلافته.
([7]) ابن سبأ حقيقة لا خيال، سعدي بن مهدي الهاشمي، ص 151.
([8]) سعدي بن مهدي الهاشمي، المرجع السابق، ص156.
([9]) تاريخ دمشق لابن عساكر (29/ 3).
([10]) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/347).