صفحات مِن ذاكرة التاريخ (10) أسباب اشتعال الفتنة في عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زلنا نتأمل أحوال المعارضين الذين ثاروا على أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وقد عرضنا جميع المآخذ والمناكير التي أخذها المجرمون الذين ثاروا على أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-، وقد بيَّنا الرد عليها، وذكرنا أقوال العلماء في ذلك، وتبين بما لا يدع مجالاً للشك كذب مَن ادعى هذا الادعاءات على ذي النورين -رضي الله عنه-، وظهر كذلك جهلهم وعدم فهمهم للواقع فهمًا صحيحًا، وظهر كذلك حقدهم، وهذا الحقد تمثل في السبئية والمنافقين.
وإن المتأمل في تلك الثورة الفاسدة الظالمة يعلم أنها بداية الفتنة التي حدثت بيْن علي بن أبي طالب وبيْن وطلحة والزبير ومعاوية -رضي الله عنهم-، وتسببت في موقعتي الجمل وصفين، وتسببت في انتشار الفتنة كانتشار النار في الهشيم، وقُتل في تلك المعارك عشرات الآلاف مِن الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم أجمعين-، وقُتل الخليفة الراشد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-؛ فهذه كانت إحدى الثورات التي سجلها التاريخ، وخرج فيها مَن يسمون بالثوار وما جنى المسلمون منها إلا الضعف والفرقة والقتل والتشريد، ثم نريد أن نلقي الضوء على بعض الأسباب الأخرى التي أدت أو ساعدت في اشتعال الفتنة ومقتل عثمان -رضي الله عنه-.
تعدد الثقافات في المجتمع وموت كثير مِن جيل كبار الصحابة الكرام:
لما توسعت الدولة الإسلامية عبْر حركة الفتوحات حدث تغير في تركيبة المجتمع؛ لأن هذه الدولة بتوسعها المكاني والبشري ورثت ما على هذه الرقعة الواسعة مِن ألوان، ولغات، وثقافات، وعادات، وأفكار، وظهرت على سطح هذا النسيج ألوان مضطربة وخروقات كثيرة، ولا شك أن الصحابة كانوا يقلون رويدًا رويدًا، فمنهم مَن يموت على فراشه، ومنهم مَن يموت في أرض الجهاد، وهناك جمع غفير جدًّا منهم قد مات في طاعون عمواس، وتستقبل الأرض بدلاً عنهم أعدادًا وفيرة مِن أبناء المناطق المفتوحة “فرس، وترك، وروم، وقبط، وكرد، وبربر”، وكان أكثرهم مِن الفرس أو مِن النصارى العرب أو غيرهم؛ فنشأ أفراد مسلمون لم يتخرجوا مِن المدرسة التي تخرج منها الصحابة -رضي الله عنهم-، ولم يتلقَ هؤلاء التعليم مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مباشرة كالصحابة -رضي الله عنهم-.
ولم يغتنم هؤلاء وجود الصحابة -رضي الله عنهم- بينهم، ولم يحرص هؤلاء على تلقي العلوم المختلفة مِن الصحابة -رضي الله عنهم-، ومِن ثَمَّ ساعد ذلك على ظهور بعض الانحرافات الفكرية والسلوكية كنشر الشائعات مِن جهة، وتصديقها مِن جهة أخرى.
وهذا بلا شك ساعد على وقوع الفتن المتنوعة، وهذه هي خطورة العولمة التي نحياها الآن، فالصحابة كالنجوم في السماء، وهىم يقلون رويدًا رويدًا، ومِن ثَمَّ تزداد الظُلمة في المجتمع، وليس معنى هذا أن عدم وجود الجيل الأول هو السبب الرئيسي، لا، ولكن عدم التمسك بمنهج الجيل الأول هو السبب في وقوع الضعف والفرقة والاختلاف، وهذا المنهج هو محفوظ، ولم يفنَ بعد، بل هو بيْن أيدينا، وهو يتمثل في القرآن والسُّنة بفهم السلف -رضي الله عنهم-.
عدم التعامل الحسن مِن الناس تجاه رأفة عثمان -رضي الله عنه- وحلمه:
لا شك أن هناك تباينًا ملحوظـًا بيْن أسلوبي عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان -رضي الله عنهما-، في كيفية إدارة الدولة وسياسة التعامل مع الرعية؛ فبينما كان عمر قوي الشكيمة، شديد المحاسبة لنفسه, ولمن تحت يديه، كان عثمان ألين طبعًا، وأرق في المعاملة، ولم يكن يأخذ نفسه أو يأخذ الناس بما يأخذهم به عمر -رضي الله عنه- حتى قال عثمان -رضي الله عنه- نفسه: “يرحم الله عمر، ومَن يطيق ما كان عمر يطيق!”، لكن الناس وإن رغبوا في الشوط الأول مِن خلافته؛ لأنه لان معهم -وكان عمر شديدًا عليهم- حتى أصبحت محبته مضرب المثل، فكان عثمان -رضي الله عنه- يتحلى بالرأفة والرحمة واللين مع الرعية، وللأسف قابل كثير مِن الناس هذه المعاملة الطيبة بالإساءة، وهذا اللين وهذه الرأفة مِن مميزات عثمان -رضي الله عنه-، لكن بعض الناس لم يحسنوا أن يقابلوا ذلك بالإحسان والطاعة!
وقد أدرك عثمان ذلك حين قال لأقوام سجنهم: “أتدرون ما جرأكم عليَّ؟! ما جرأكم عليَّ إلا حلمي!”.
وروى يحيى عن أفلح بن حميد عن أبيه قال: لما أراد عثمان -رضي الله عنه- أن يكلِّم الناس على المنبر ويشاورهم في أمر توسعة المسجد، قال له مروان بن الحكم: فداك أبي وأمي، هذا أمر خير لو فعلته ولم تذكر لهم، فقال: ويحك! إني أكره أن يروا أني أستبد عليهم بالأمور، قال مروان: فهل رأيت عمر حيث بناه وزاد فيه ذكر ذلك لهم؟ قال: اسكت، إن عمر اشتد عليهم فخافوه، حتى لو أدخلهم في جحر ضب دخلوا، وإني لنت لهم حتى أصبحت أخشاهم، قال مروان بن الحكم: فداك أبي وأمي لا يسمع هذا منك فيجترأ عليك.
وحين بدت نوايا الخارجين وقد ألزمهم عثمان الحجة في رده على المآخذ التي أخذوها عليه أمام الملأ مِن الصحابة والناس؛ أبى المسلمون إلا قتلهم، وأبى عثمان إلا تركهم لحلمه ووداعته قائلاً: بل نعفو ونقبل، ولنبصرهم بجهدها، ولا نحادّ أحدًا حتى يرتكب حدًّا أو يبدي كفرًا.
يقول محب الدين الخطيب -رحمه الله- عن هؤلاء الذين قابلوا الإحسان بالإساءة: “وفيهم مَن أصابهم مِن عثمان شيء مِن التعزير لبوادر بدرت منهم تخالِف أدب الإسلام؛ فأغضبهم التعزير الشرعي مِن عثمان -رضي الله عنه-، ولو أنهم قد نالهم مِن عمر -رضي الله عنه- أشد منه لرضوا به طائعين”.
العودة إلى العصبية الجاهلية:
لقد حذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مِن العصبية، وقال: (دَعُوهَا، فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ) (متفق عليه)، فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي غَزَاةٍ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: (دَعُوهَا، فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ) (متفق عليه).
وقد ظهرت هذه العصبية عند بعض الأفراد أثناء الفتنة، وساعدت هذه العصبية على اشتعال الفتنة.
إن جوهر رسالة أمة الإسلام وحدتها واجتماعها على تعظيم الخالق وعبادته -سبحانه-، يقول الله -تعالى-: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون:52)، ويقول -سبحانه-: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء:92).
وقد كان مِن أول أعمال النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة النبوية: تأسيس المجتمع الجديد على المؤاخاة بيْن المهاجرين والأنصار، وإرساء دعائم المحبة والإخوة والائتلاف بيْن جميع المسلمين، ونَبْذ كل ألوان العصبية الجاهلية التي تفرِّق الناس، وتثير نعرات العصبية والاختلاف؛ فآصرة الاجتماع والولاء في المجتمع الإسلامي تقوم على الإيمان بالله -تعالى-: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) (التوبة:71).
وفي فتح مكة خطب النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس، وأعلن للناس ركيزة تأسيس هذه الأمة، فقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ)، قال الله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13) (رواه الترمذي، وصححه الألباني). العُبِّيَّةَ: الكبر والفخر.
فلا بد مِن إحياء عوامل الوحدة في الأمة، وجمع الصفوف على كلمة التوحيد الجامعة؛ امتثالاً لقول الحق -تبارك وتعالى-: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (الأنعام:153)، وهذا هو اللواء الذي رفعه الإسلام لينقذ البشرية مِن العصبية للجنس، والعصبية للأرض، والعصبية للقبيلة، وكلها مِن الجاهلية، وقد حارب الإسلام هذه العصبية الجاهلية في كل صورها وأشكالها، ليقيم نظامه الإنساني العالمي في ظل راية واحدة، راية الله وحده لا سواه.
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ، إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجِعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتِنَ) (رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم- عن العصبية الجاهلية: (دَعُوهَا، فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ) (متفق عليه).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
– البداية والنهاية لابن كثير.
– تاريخ الرسل والملوك للطبري.
– العواصم مِن القواصم لابن العربي، مع تعليقات محب الدين الخطيب.
– منهاج السُّنة لابن تيمية.
– التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان -رضي الله عنه-، لمحمد بن يحيى المالقي الأندلسي.
– موقع قصة الإسلام، راغب السرجاني، الدفاع عن عثمان -رضي الله عنه-.