نفض الغبار عن تاريخ الأخيار (12)
تحقيق موقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه من الفتنة (2)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد تحدَّثنا في المقال السابق عن موقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه من حصار أمير المؤمنين عثمان، وكيف يُقتل أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وفي المدينة جماعة من كبار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين؟ وما موقف علي بن أبي طالب من قَتَلة عثمان رضي الله عنه بعد استخلافه؟ ثم سلَّطنا الضوء على مسألة اختلاف الصحابة رضي الله عنهم حول مسألة القِصاص مِن قتلة عثمان رضي الله عنه.
ثم ذكرنا أن طلحة والزبير رضي الله عنهما قدما إلى مكة ولقيا عائشة رضي الله عنها، ودارت بينهم نقاشات ومشاورات حول تداعيات الأمر، وفي النهاية اتفقوا على التوجُّه إلى مدينة البصرة، وكانت خطتهم ومهمتهم واضحة سواء قبْل خروجهم أو أثناء طريقهم أو عند وصولهم إلى البصرة، وهي: المطالبة بدم عثمان، والإصلاح، وإعلام الناس بما فعل الغوغاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن هذا المطلب هو لإقامة حدٍّ مِن حدود الله، وأنه إذا لم يُؤخَذ على أيدي قتلة عثمان رضي الله عنه؛ فسيكون كل إمام معرَّضًا للقتل مِن أمثال هؤلاء، وسمي يوم خروجهم مِن مكة نحو البصرة بـ “يوم النحيب”، فلم يُرَ يوم كان أكثر باكيًا على الإسلام، أو باكيًا له مِن ذلك اليوم، وعندما وصل طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم ومَن معهم إلى البصرة، أرسلوا إلى أعيان وأشراف القبائل يستعينون بهم على قتلة عثمان، وكان كثيرٌ مِن المسلمين في البصرة وغيرها يرغبون في القود من قتلة عثمان رضي الله عنه؛ إلا أن بعض هؤلاء يرون أن هذا من اختصاص الخليفة وحده، وأن الخروج في هذا الأمر بدون أمره وطاعته معصية، ولكن خروج هؤلاء الصحابة المشهود لهم بالجنة، وأعضاء الشورى ومعهم أم المؤمنين عائشة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفقه النساء، جعل الكثير من البصريين على اختلاف قبائلهم ينضمون إليهم.
عَلِيٌّ رضي الله عنه يغادر المدينة متوجهًا إلى الكوفة :
همَّ عليٌّ بالنهوض إلى الشام، ليزور أهلها وينظر ما هو رأي معاوية وما هو صانع([1])، فقد كان يرى أن المدينة لم تعد تمتلك المقومات التي تملكها بعض الأمصار في تلك المرحلة، فلما عَلِم أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه بهذا، قال: “يا أمير المؤمنين، أقم بهذه البلاد؛ لأنها الدرع الحصينة، ومهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبها قبره ومنبره ومادة الإسلام، فإن استقامت لك العرب كنت كمَن كان، وإن تشغب عليك قوم رميتهم بأعدائهم، وإن ألجئت حينئذٍ إلى السير سرت وقد أعذرت”، فأخذ الخليفة بما أشار به أبو أيوب وعزم المقامة بالمدينة وبعث العمال على الأمصار([2])، وقد بعث معاوية كتابًا مع رجل، فدخل به على علي فقال له علي: “ما وراءك؟ قال: جئتك من عند قوم لا يريدون إلا القود([3])، كلهم موتور([4])، تركت ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان، وهو على منبر دمشق، فقال علي: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان”.
و بعد وصول رد معاوية لأمير المؤمنين علي، عزم الخليفة على قتال أهل الشام، وخرج من المدينة، واستخلف عليها قُثم بن العباس، وهو عازم أن يقاتِل بمَن أطاعه مَن عصاه وخرج مِن أمره ولم يبايعه مع الناس([5])، ولكن نظرًا لبعض المستجدات السياسية على الساحة وما يحدث في البصرة قرر أمير المؤمنين مغادرة المدينة، وأن يتوجَّه إلى الكوفة، فاستنفر أهل المدينة ودعاهم إلى نصرته، وكان كثير من أهل المدينة يرون أن الفتنة ما زالت مستمرة، فلا بد من التروي حتى تنجلي الأمور أكثر، وهم يقولون: “لا والله ما ندري كيف نصنع، فإن هذا الأمر لمشتبه علينا ونحن مقيمون حتى يضيء لنا ويسْفِر” ([6]).
وروى الطبري أن عليًّا رضي الله عنه خرج في تعبئته التي كان تعبَّى بها إلى الشام وخرج معه مَن نشط مِن الكوفيين والبصريين متخففين في سبعمائة رجل([7]).
والأدلة على تثاقل كثير من أهل المدينة عن إجابة أمير المؤمنين للخروج كثيرة، كما أن رجالًا من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد مقتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم([8])، وحاول عبد الله بن سلام صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يثنى عزم أمير المؤمنين علي عن الخروج([9])، فأتاه وقد استعد للمسير، وأظهر له خوفه عليه ونهاه أن يقدم على العراق قائلًا: “أخشى أن يصيبك ذباب السيف”، كما أخبره بأنه لو ترك منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن يراه أبدًا.
وفي الربذة([11]) قام إليه ابنه الحسن رضي الله عنهما وهو يبكي لا يخفي حزنه وتأثره على ما أصاب المسلمين من تفرُّق واختلاف، وقال الحسن لوالده: “قد أمرتك فعصيتني، فتُقتل غدًا بمضيعة لا ناصر لك، فقال علي: إنك لا تزال تخن([12]) خنين الجارية، وما الذي أمرتني فعصيتك؟ قال: أمرتك يوم أحيط بعثمان رضي الله عنه أن تخرج من المدينة فيُقتل ولست بها، ثم أمرتك يوم قُتل ألا تبايع حتى يأتيك وفود أهل الأمصار والعرب وبيعة كل مصر، ثم أمرتك حين فعل هذان الرجلان ما فعلا أن تجلس في بيتك حتى يصطلحا، فإن كان الفساد كان على يدي غيرك، فعصيتني في ذلك كله. قال: أي بني، أما قولك: لو خرجت من المدينة حين أحيط بعثمان، فوالله لقد أحيط بنا كما أحيط به، وأما قولك: لا تبايع حتى تأتي بيعة الأمصار، فإن الأمر أمر أهل المدينة، وكرهنا أن يضيع هذا الأمر، وأما قولك حين خرج طلحة والزبير، فإن ذلك كان وهنًا على أهل الإسلام، والله ما زلت مقهورًا مذ وُليت، منقوصًا لا أصل إلى شيء مما ينبغي، وأما قولك: اجلس في بيتك، فكيف لي بما قد لزمني، أو مَن تريدني؟ أتريدني أن أكون مثل الضبع التي يُحاط بها، ويقال: دباب دباب([13])، ليست ههنا حتى يحل عرقوباها ثم نُخرج، وإذا لم أنظر فيما لزمني من هذا الأمر ويعنيني، فمَن ينظر فيه؟ فكف عنك، أي بني”([14]).
ولما أراد علي الخروج من الربذة إلى البَصْرة قام إليه ابن لرفاعة بن رافع، فقال: “يا أمير المؤمنين، أي شيء تريد؟ وإلى أين تذهب بنا؟ فقال: أما الذي نريد وننوي فالإصلاح، إن قبلوا منا وأجابونا إليه، قال: فإن لم يجيبوا إليه؟ قال: ندعهم بعذرهم ونعطيهم الحق ونصبر، قال: فإن لم يرضوا؟ قال: ندعهم ما تركونا، قال: فإن لم يتركونا؟ قال: امتنعنا منهم، قال: فنعم إذًا”([15]).
وأرسل علي رضي الله عنه من الربذة يستنفر أهل الكوفة ويدعوهم إلى نصرته، وكان الرسولان محمد بن أبي بكر الصديق، ومحمد بن جعفر، ولكنهما لم ينجحا في مهمتهما؛ إذ إن أبا موسى الأشعري والي الكوفة مِن قِبَل علي، ثبَّط الناس ونهاهم عن الخروج والقتال في الفتنة، وأسمعهم ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم من التحذير من الاشتراك في الفتنة([16])، فأرسل علي بعد ذلك هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، ففشل في مهمته لتأثير أبي موسى عليهم، ثم تحرك علي بجيشه إلى ذي قار فعسر به بعد ثماني ليال من خروجه من المدينة، وهو في تسعمائة رجل تقريبًا([17])، فبعث للكوفة في هذه المرة عبد الله بن عباس فأبطأوا عليه، فأتبعه بعمار بن ياسر والحسن بن علي، وعزل أبا موسى الأشعري واستعمل قرظة بن كعب([18]) بدلاً منه، وكان للقعقاع([19]) بن عمرو رضي الله عنه دور عظيم في إقناع أهل الكوفة، فقد قام فيهم وقال: “إني لكم ناصح وعليكم شفيق، وأحب أن ترشدوا، ولأقولن لكم قولًا هو الحق، والقول الذي هو القول، إنه لابد من إمارة تنظِّم الناس وتنزع الظالم، وتعز المظلوم، وهذا علي يلي ما ولى، وقد أنصف في الدعاء، وإنما يدعو إلى الإصلاح، فانفروا وكونوا في هذا الأمر بمرأى ومسمع، وكان للحسن بن علي أثر واضح، فقد قام خطيبًا في الناس وقال: “أيها الناس، أجيبوا دعوة أميركم، وسيروا إلى إخوانكم، فإنه سيوجد لهذا الأمر مَن ينفر إليه، والله لأن يليه أولو النهى([20]) أمثل في العاجلة وخير من العاقبة، فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم”([21]).
ولبَّى كثيرٌ من أهل الكوفة وخرجوا مع عمار والحسن إلى علي ما بين سبعة إلى ستة آلاف رجل، ثم انضم إليهم من أهل البصرة ألفان من عبد القيس، ثم توافدت عليه القبائل إلى أن بلغ جيشه عند حدوث المعركة اثني عشر ألف رجل تقريبًا([22]).
وعندما التقى أهل الكوفة بأمير المؤمنين علي بذي قار قال لهم: “يا أهل الكوفة، أنتم وليتم شوكة العجم وملوكهم وفضضتم جموعهم، حتى صارت إليكم مواريثهم، فأعنتم حوزتكم، واغتنم الناس على عدوهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فإن يرجعوا فذاك ما نريد، وإن يلجوا داويناهم بالرفق، وبايناهم حتى يبدأونا بظلم، ولن ندع أمرًا فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله، ولا قوة إلا بالله”، وقبل أن يتحرك علي رضي الله عنه بجيشه نحو البصرة أقام في ذي قار([23]) أيامًا، وكان غرضه رضي الله عنه، هو القضاء على هذه الفُرقة والفتنة بالوسائل السلمية، وتجنيب المسلمين شر القتال والصدام المسلح بكل ما أُوتي مِن قوةٍ وجهدٍ، وكذلك الحال بالنسبة لطلحة والزبير رضي الله عنهما.
وصول طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم إلى البَصْرة:
عندما وصل طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم ومَن معهم إلى البصرة، أرسلوا إلى أعيان وأشراف القبائل يستعينون بهم على قَتَلة عثمان، وكان كثير من المسلمين في البَصْرة وغيرها، يرغبون في القود من قتلة عثمان رضي الله عنه؛ إلا أن بعض هؤلاء يرون أن هذا مِن اختصاص الخليفة وحده، وأن الخروج في هذا الأمر بدون أمره وطاعته معصية، ولكن خروج هؤلاء الصحابة المشهود لهم بالجنة، ومعهم أم المؤمنين عائشة وهي أفقه النساء، جعل الكثيرين من البصريين على اختلاف قبائلهم ينضمون إليهم. وإن كان هناك مِن أهل البصرة مَن اعتزل ورفض المشاركة؛ إلا أن الزهري يذكر أن عامة أهل البصرة تبعوهم([24]).
هذا وقد وقع قتال في مدينة البصرة وقُتل ستمائة من قتلة عثمان رضي الله عنه، ويذكر ابن كثير أن ذلك القتال وقع بالبصرة في ربيع الآخر عام 36هـ.
وهكذا انضم إلى طلحة والزبير وعائشة ومَن معهم أنصار جدد لقضيتهم التي خرجوا من أجلها. وقد حاول الأحنف بن قيس السعدي التميمي وهو مِن رؤساء تميم وكلمته مسموعة تهدئه الأمور والإصلاح قدر المستطاع؛ إلا أن الأمور خرجت من يده، لكنه اعتزل وتبعه عدة آلاف.
ونستكمل موقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه في المقال القادم بمشيئة الله تعالى.
([1]) الثقات لابن حبان (2/272).
([2]) المصدر السابق (2/276).
([3]) القود: القاتل بالقتيل.
([4]) رَجُلٌ مَوْتُورٌ: مَنْ قُتِلَ لَهُ قَرِيبٌ، وَلاَ قُدْرَةَ لَهُ عَلَى أَخْذِ ثَأْرِهِ. ورَجُلٌ مَوْتُورٌ: عصبي مشدود. انظر المعجم الوسيط.
([5]) البداية والنهاية (7/ 240).
([6]) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/509).
([7]) المصدر السابق (5/516).
([8]) تفسير ابن كثير (7/250).
([9]) تضارب روايات الفتنة الكبرى، خالد كبير علال (ص 14).
([11]) تقع الربذة على طريق الحجاز إذا رحلت من فيد تريد مكة، والرَّبذة مدينة تاريخية أثرية، تقع في شرق المدينة المنورة وتبعد عنها فرابة 170 كم تقريبًا، وهي إحدى محطات القوافل على درب زبيدة الممتد من العراق إلى مكة المكرمة. (انظر: معجم البلدان للحموي) (2/23).
([12]) خن: أخرج الصوت من خياشميه. قَالَ شَمِرٌ: خَنَّ خَنِيناً فِي الْبُكَاءِ إِذا رَدَّد الْبُكَاءَ فِي الخَياشيم. (لسان العرب لابن منظور) (13/144).
([13]) دعاء الضبع للضبع. (لسان العرب لابن منظور) (14/104).
([14]) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/582).
([15]) المصدر السابق (5/589).
([16]) المصدر السابق (5/590).
([17]) المصدر السابق (5/ 519 521).
([18]) قرظة بن كعب الأنصاري أحد بني الحارث بن الخزرج، حليف لبني عبد الأشهل من الأوس، ويكنى أبا عمرو وهو أحد العشرة من الأنصار الذين وَجَّههم عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الكوفة، فنزلها وابتنى بها دارًا في الأنصار، ومات بها في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو صلى عليه بالكوفة. (انظر: الطبقات الكبرى لا بن سعد) (7/17).
([19]) القعقاع بن عمرو التميمي: فارس وقائد مسلم، وبطل عربي مشهور، اخْتُلف في كونه صحابيًّا فلم تثبت صحبته من طرق صحيحة، لكنه شهد معركة القادسية واليرموك وغيرهما من معارك المسلمين في عصر الفتوحات الإسلامية. ظهرت ملامح شخصيته بوضوحٍ شديدٍ في الفتوحات، فقد كان شجاعًا مقدامًا ثابتًا في أرض المعارك وبجوار شجاعته وشدة بأسه على الأعداء كان شديد الذكاء وذا حنكة عسكرية في إدارة المعارك، ويظهر ذلك في معركة القادسية. وهناك بضعة مؤرخين يؤكدون فروسيته وبطولاته. ويقال: إنه مِن الصحابة؛ لذلك ذكره في الصحابة ابن قانع في “معجم الصحابة” (2 367)، وابن عبد البر في “الاستيعاب” ( 3 1283)، وابن الأثير في “أسد الغابة” ( 4 109) وابن حجر في “الإصابة” (5 342).
([20]) أولو النهى: أصحاب العقول. والنُّهْيَةُ: الْعَقْلُ. سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لأنها تَنْهَى عن القبيح. (لسان العرب لابن منظور) (15/345).
([21]) تاريخ الرسل والملوك للطبري (5/5859).
([22]) مصنف عبد الرزاق (5/ 456- 457).
([23]) ذو قار: ماء لبكر بن وائل قريب من الكوفة. (معجم البلدان للحموي) (4/ 393).
([24]) مصنف عبد الرزاق الصنعاني (5/456) بسندٍ صحيحٍ إلى الزهري مرسلًا.