نفض الغبار عن تاريخ الأخيار (11)
تحقيق موقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه من الفتنة (1)
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،
فقد تحدثنا -في المقال السابق- عن موقف أمهات المؤمنين من أحداث الفتنة في المدينة المنورة، ثم سلَّطنا الضوءَ على عملية الهجوم على دار أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وقتله، وفي هذا المقال نتناول الحديث عن موقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه من أحداث الفتنة.
ما هو موقف علي بن أبي طالب من حصار أمير المؤمنين عثمان؟
لقد جاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه أثناء عملية الحصار إلى أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه فقال له: “إن معي خمسمائة دارع، فأذن لي فأمنعك من القوم، فإنك لم تُحدث شيئًا يُستحل به دمك”، فقال: “جُزيت خيرًا، ما أحب أن يهراق دم بسببي”([1]).
وهكذا يتضح أن عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه لم يرضَ عن حصار عثمان رضي الله عنه؛ فضلًا عن قتله، بل قد حاول أن يدافع عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه كغيره من الصحابة رضي الله عنهم، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه:
كيف يُقتل أمير المؤمنين عثمان وفي المدينة جماعة من كبار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين؟
والجواب باختصار مِن عدة وجوه:
أولًا: أن كثيرًا من الصحابة لم يكن يظن أو يتوقع أن الأمر سيصل إلى حدِّ القتل، فإن أهل الضلال والفسق من الثوار لم يكونوا يحاولون قتله عينًا، بل طلبوا منه أحد أمور ثلاثة؛ إما أن يعزل نفسه، أو يسلم إليهم مروان بن الحكم، أو يقتلوه، فكان أمر القتل هو أبعد التوقعات بالنسبة لكثيرٍ مِن الصحابة، ولم يتوقعوا أن هؤلاء يجترئون على قتله.
ثانيًا: أن الصحابة مانعوا دونه أشد الممانعة، ولكن لما وقع التضييق الشديد على أمير المؤمنين عثمان مِن قِبَل الثوار الضُّلال، عَزَم عثمان على الناس أن يكفوا أيديهم ويغمدوا أسلحتهم ففعلوا، فتمكن أولئك مما أرادوا، كما بيَّنَّا ذلك في المقال السابق.
ثالثًا: أن هؤلاء الخوارج اغتنموا غيبةَ كثيرٍ من أهل المدينة في موسم الحج، بل لما اقترب مجيئهم، انتهزوا الفرصة، وصنعوا ما صنعوا بأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه.
رابعًا: أن هؤلاء الخوارج كانوا قريبًا من ألفي مقاتل، وربما لم يكن في أهل المدينة هذه العدة من المقاتلة؛ لأن الناس كانوا في الثغور، وفي الأقاليم في كل جهة.
خامسًا: لقد اعتزل عددٌ من الصحابة هذه الفتنة ولزموا بيوتهم، ومَن كان يحضر منهم المسجد لا يجيء إلا ومعه السيف، يضعه على حبوته إذا احتبى.
سادسًا: لقد حاول كثيرٌ من الصحابة أن يدافعوا عن الخليفة -كما ذكرنا سابقًا-، وهناك عدد من الصحابة قد بعثوا أولادهم إلى الدار يدافعون عن عثمان رضي الله عنه ويحمونه من المجرمين، وكانوا ينتظرون قدوم الجيوش من الأمصار لنصرته، واستمروا على ذلك حتى استطاع المجرمون السيطرة على الدار، وأحرقوا بابها، وتسوروا عليه حتى قتلوه([2]).
موقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه مِن قَتَلة عثمان بعد استخلافه:
يُروى أن المدينة بقيت بعد مقتل عثمان رضي الله عنه خمسة أيام وأميرها الغافقي ابن حرب، أحد قتلة عثمان رضي الله عنه، أو أن الغافقي هو الذي كان يسيطر على الأمور فيها وإن لم يكن أميرًا، والناس يلتمسون مَن يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه؛ وهنا فكَّر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في علي بن أبي طالب، فقالوا: إن هذا الرجل قد قُتل ولا بد للناس مِن إمام، ولا نجد أحدًا أحق بها منك؛ أقدم مشاهد، ولا أقرب مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال علي: لا تفعلوا، فإني لكم وزير خير مني أمير، فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك. قال: ففي المسجد فإنه ينبغي لبيعتي ألا تكون خفيًّا، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين. فقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: لقد كرهتُ أن يأتي المسجد كراهية أن يشغب عليه، وأبى هو إلا المسجد، فلما دخل المسجد جاء المهاجرون والأنصار فبايعوا وبايع الناس، وكان فيهم طلحة والزبير رضي الله عنهما، فأتوا عليًّا فقالوا: يا أبا حسن، هلم نبايعك، وتمت البيعة منهما، وهكذا تمتْ بيعة علي رضي الله عنه بالخلافة بطريقة الاختيار بعد خروج البغاة على أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه.
ثم بعد أن تمت البيعة لعلي رضي الله عنه، ذهب طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام رضي الله عنهما إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وطلبا منه أن يقيم القصاص على قتلة عثمان رضي الله عنه؛ فاعتذر أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ومِن هنا بدأ الخلاف.
اختلاف الصحابة رضي الله عنهم حول مسألة القِصاص مِن قتلة عثمان رضي الله عنه:
لقد رأى علي رضي الله عنه بفهمه وفقهه واجتهاده، ومراعاته للمصالح والمفاسد، أن يٌؤجِّل إقامة القصاص على قتلة عثمان؛ لا سيما وأن مثل هذه الأمور يصعب فيها أولًا تحديد الجناة، وهذا يحتاج إلى تحقيقٍ واسعٍ للتعرف على الجناة؛ لا سيما مع صعوبة التثبُّت في أوقات الفتن والفوضى، ثم إن ذلك يحتاج إلى قوة واستقرار في الدولة للقدرة على إقامة القصاص لو ثبتت شروطه، وهنا رفض طلحة والزبير رضي الله عنهما هذا الاجتهاد، وقررا الخروج إلى مكة حيث مقام أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بعد أن أدت فريضة الحج، ثم استأذن طلحة والزبير عليًّا في العمرة؛ فأذن لهما، فلحقا بمكة.
وهكذا اعتذر علي رضي الله عنه عن أخذ الثأر، وقال: “إن قتلة عثمان لهم مدد وأعوان”، وقد تعصب لهم كثيرٌ مِن الناس وبلغ عددهم ما يقرب مِن عشرة آلاف، وهم متفرقون في المدينة والكوفة ومصر، ولما وصلت أخبار مقتل سيدنا عثمان إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، حزنت حزنًا شديدًا وقالت: إن عثمان قُتل مظلومًا، وأن الأمر لا يستقيم ولهذه الغوغاء أمر، ثم خاطبت الناس وقالت: “اطلبوا بدم عثمان تعزوا الإسلام، والله لأطالبن بدمه”، ثم قدِم طلحة والزبير رضي الله عنهما إلى مكة ولقيا عائشة رضي الله عنها، ودارت بينهم نقاشات ومشاورات حول تداعيات الأمر.
وفي النهاية: اتفقوا على التوجه إلى مدينة البصرة، وكانت خطتهم ومهمتهم واضحة سواء قبْل خروجهم أو أثناء طريقهم أو عند وصولهم إلى البصرة، وهي: المطالبة بدم عثمان، والإصلاح، وإعلام الناس بما فعل الغوغاء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن هذا المطلب هو لإقامة حدٍّ مِن حدود الله، وأنه إذا لم يؤخذ على أيدي قتلة عثمان رضي الله عنه؛ فسيكون كل إمام معرضًا للقتل مِن أمثال هؤلاء، وسمِّي يوم خروجهم مِن مكة نحو البصرة بـ”يوم النحيب”، فلم يُرَ يوم كان أكثر باكيًا على الإسلام، أو باكيًا له مِن ذلك اليوم([3]).
ونستكمل في المقال القادم بمشيئة الله تعالى.
([1]) تاريخ دمشق لابن عساكر (39/395)
([2]) البداية والنهاية لابن كثير (7/221).
([3]) تاريخ الرسل والملوك للطبري، فتنة مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه لمحمد غبان، تاريخ الخلفاء الراشدين: الفتوحات والإنجازات السياسية لمحمد سهيل طقوش.