الحقيقة التاريخية للأمير قراقوش
حكم قراقوش!
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله وبعد؛
فمن أخطر أنواع التزوير؛ تزوير التاريخ وتحريفه، ولذا كان من أرجى الأعمال وأنفعها كشف الغطاء ونفض الغبار عن الحقائق التاريخية؛ و من ثم نسلط الضوء في هذا المقال على مثال من أمثلة التحريف والتزوير الذي وقع في التاريخ الإسلامي، وهو المثل المصري العربي الدارج على الألسنة- حكم قراقوش- حيث يستخدمه كثير من العرب كناية وتعبيرًا عن الظلم والبطش والاستبداد والحكم الجبري، وذلك يتعارض مع الحقيقة التاريخية.
أولاً: من هو قراقوش؟
هو أبو سعيد قراقوش بن عبد الله الأسدي، الملقب ببهاء الدين، وُلد بآسيا الصغرى، وقيل هو رومي النسب، وهو في الأصل غلام مملوكي ألحق بمماليك أسد الدين شيركوه، وقد خدم قراقوش أسد الدين شيركوه القائد العسكري في جيش عماد الدين آل زنكي؛ ثم في جيش خليفته نور الدين محمود؛ ودخل قراقوش مصر في جيش أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين الأيوبي، في تلك الفترة التي شهدت انهيار الدولة الفاطمية الشيعية و قيام الدولة الأيوبية، وقيل أنه لقب بالأسدي نسبة إلى أسد الدين شيركوه ، ومعنى (قراقوش) بالتركية النسر الأسود.
وقد ذكر كثير من المؤرخين أن قراقوش كان مثالاً للعدل والتضحية والفداء والعطاء، بل وكان واحدًا من الذين بَنَى عليهم صلاح الدين الأيوبي أركان دولته وسلطانه.
وقال عنه ابن إياس في (بدائع الزهور): “كان قراقوش القائم بأمور الملك، يسوس الرعية في أيامه أحسن سياسة، وأحبته الرعية ودعوا له بطول البقاء”.
وقال عنه ابن خلكان في (وفيات الأعيان): “كان حسن المقاصد، جميل النية، وكان له حقوق كثيرة على السلطان وعلى الإسلام والمسلمين”.
وأثنى عليه ابن تغري بردي في (النجوم الزاهرة) عند ذكره صلاح الدين الأيوبي، حيث ذكر أنه كان رجلاً صالحًا غلب عليه الانقياد إلى الخير، وكان السلطان يعلم منه الفطنة والنباهة، وكان إذا سافر السلطان من مصر إلى الشام يفوض إليه أمر البلاد، ومما قاله عنه ” ولما استقل صلاح الدين بالديار المصرية جعله زمام القصر، ثم ناب عنه مدة بالديار المصرية، وفوض أمورها إليه واعتمد في تدبير أحوالها عليه، وكان رجلاً مسعودًا وصاحب همة عالية”.
ثانيًا: أهم الإنجازات العسكرية والحضارية للأمير قراقوش رحمه الله:
لقد أشرف قراقوش على بناء قلعة صلاح الدين، وقد بدأ صلاح الدين الأيوبي في تشييد هذه القلعة فوق جبل المقطم (572-579هـ /1171- 1193م) في موضع كان يعرف بقبة الهواء، ولكنه لم يتمها في حياته، وأتمها السلطان الكامل بن العادل ابن أخي صلاح الدين (604هـ/ 1207م)، فكان أول من سكنها واتخذها دارًا للملك، وظلت مقرًا لحكم مصر حتى عهد الخديوي إسماعيل الذي نقل مقر الحكم إلى قصر عابدين بمنطقة القاهرة الخديوية فى منتصف القرن التاسع عشر.
ثم أتبعها ببناء قلعة المقسي، وهي عبارة عن برج كبير بناه قراقوش على النيل، وبنى بالقرب منه أبراجًا أخرى، ثم قام ببناء قلعة المقياس بجزيرة الروضة، ثم قام ببناء سور مجرى العيون الذي ينقل المياه إلى القلعة، ثم شرع في بناء سور عظيم يحيط بالقاهرة ، لكنه مات قبل أن يتمه، وهذا السور هو السور الثالث الذي أحاط بالقاهرة بعد سور جوهر الصقلي مؤسس القاهرة، وسور بدر الدين الجمالي الأمير الفاطمي.
وقد تحدث كثير من المؤرخين كابن الأثير في كتابه -الكامل في التاريخ – وابن تغري بردي في كتابه – النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة – و ابن إياس في كتابه – بدائع الزهور فى وقائع الدهور – عن تفاصيل ذلك السور وكيفية بنائه.
وبعد أن استردَّ صلاح الدين مدينة عكا من أيدي الفرنجة بعد بيت المقدس ، قام بتكليف الأمير قراقوش بإعادة بناء سور حول المدينة حيث تهدَّم سور ها من الحصار، وأثناء عملية البناء والتشييد قام الفرنجة بإعادة حصار مدينة عكا مرة أخرى، وقاد قراقوش حركة المقاومة للدفاع عن المدينة، واستمر الحصار لمدة عامين تقريبًا، وفي النهاية استطاع الفرنجة أن يدخلوا المدينة بل وتم القبض على الأمير قراقوش وأسره، ثم تم الإفراج عنه بموجب اتفاقية بين الطرفين في شهر شوال عام 588ه / 1192م.
وبعد وفاة صلاح الدين، عمل قراقوش في خدمة الملك العزيز ابن الناصر صلاح الدين، وكان قراقوش موضع ثقة للعزيز، ولذا كان ينيبه على البلاد حال خروجه منها للقتال وغير ذلك، وقد نجح الأمير قراقوش في إحباط محاولة انقلاب على العزيز بمصر بقيادة عمه الملك العادل، وذلك بعد الصراعات والخلافات التي وقعت بين أبناء البيت الأيوبي.
ثم بعد وفاة الملك العزيز ظل قراقوش وفيًا لابنه المنصور الذي تولى بعد وفاة العزيز، وقد جاء في كتاب – مفرج الكروب في أخبار بني أيوب لابن واصل – أن الملك العزيز أوصى بالملك لولده المنصور، وأن يكون مدبرّه بهاء الدين قراقوش الأسدى، حيث تولَّى المنصور وعمره تسع سنوات، ولذلك أصبح قراقوش وصيًّا على العرش، إلا أن أطماع العادل والأفضل وغيرهما حالت بين قراقوش وبين استمرار وصايته على المنصور، ثم اعتزل قراقوش الحياة السياسية وتوفي عام 597هـ/1200م، وذلك بعد حياة حافلة بالعطاء والإخلاص والإنجازات.
والسؤال الذي يطرح نفسه؛ من الذي قام بتحريف تاريخ الأمير قراقوش؟ ومن أين جاء المثل “حكم قراقوش” ؟
إنه لمن من العجيب والمدهش أن يتم طمس التاريخ المشرق للأمير قراقوش، رغم ما حققه من كثير من الإنجازات العسكرية والحضارية، بل ويتم تحريف التاريخ وتزويره لتشويه صورة الرجل الصالح.
والذي تولى كبره وتحريفه، هو ابن مماتي، واسمه بالكامل: الأسعد أبو المكارم أسعد بن الخطير أبي سعيد مهذب بن مينا بن زكريا بن أبي قدامة بن أبي مليح مماتي، ولد بمصر وتوفي بحلب، وكان نصرانيًا ثم أسلم.
وكان ابن مماتي موظفًا في ديوان صلاح الدين، وقيل كان ناظر الدواوين في الديار المصرية، وكان الرؤساء وأصحاب الوجاهة يخشونه لسلاطة لسانه؛ ولقد حمله الحقد والغل والحسد على تشويه سيرة الأمير قراقوش، وقيل وقعت بينهما بعض الخلافات، فأصبح يقوم بتجريح الأمير قراقوش، حتى أنه كتب رسالة سمَّاها “الفافوش في أحكام قراقوش”، ووضع بها بعض الحكايات والقصص ونسبها إلي قراقوش، وهي حكايات في مجملها تصف قراقوش بأنه شخصية تجمع بين الحماقة والسذاجة والبله، حيث ذكر ابن مماتي بعض القصص الغير منطقية والمتناقضة والتي لا يُتخيل أن تصدر من رجل دولة كقراقوش، والقصص والحكايات التي نسبها ابن مماتي لقراقوش تصلح فقط أن تكون مجاًلًا للسخرية والهجاء ونحو ذلك.
هذا وقد علق المؤرخ الإسلامي الكبير ابن خلكان على الكتاب المذكور فقال في كتابه – وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان – “والناس ينسبون إليه أحكامًا عجيبة في ولايته، حتى إن الأسعد بن مماتي له جزء لطيف سماه – الفاشوش في أحكام قراقوش – وفيه أشياء يبعد وقوع مثلها منه، والظاهر أنها موضوعة، فإن صلاح الدين كان معتمدًا في أحوال المملكة عليه، ولولا وثوقه بمعرفته وكفايته ما فوضها إليه”.
وأخيرًا: هكذا جاءت عبارة “حكم قراقوش” هكذا يتم تشويه التاريخ، ويتم القضاء على تاريخ بعض العظماء من أبناء أمتنا، وللأسف ربما ينجح البعض في ذلك؛ كما نجح ابن مماتي، حيث غطى غبار الزمن على الحقيقة التاريخية للأمير قراقوش رحمه الله، ولكننا لا زلنا نحاول بفضل الله تعالى وتوفيقه، أن ننفض الغبار ونكشف المستور والغطاء، وأن ونُظهر الحقيقة التاريخية المجردة.
والحمد لله رب العالمين.