حين يغفل الناس!
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن العبادة تستحب حين يغفل الناس، حيث إن العبادة عند انتشار الغفلة بين الناس لها أثر كبير على النفس، وأجر عظيم يناله العبد من الله -تعالى-؛ ولذا كان جماعة من السلف يحيون ما بين العشاءين ويقولون: هو وقت يغفل الناس عنه.
وقد اهتم رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- بهذا الأمر، وصدر توجيه نبوي بهذا الشأن في عدة مواطن وأوقات، منها: ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: “كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يصوم حتى نقول: لا يُفطرُ، ويفطرُ حتى نقولَ: لا يصومُ، وما رأيتُ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- استكمل صيامَ شهرٍ قطُّ إلا رمضانَ، وما رأيتُه في شهرٍ أكثرَ منه صيامًا في شعبانَ”.
وقد بيَّن -عليه الصلاة والسلام- سبب كثرة صيامه في شهر شعبان حين سأله أسامة بن زيد -رضي الله عنه- عن ذلك، فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَمْ أَرَكَ تَصُومُ شَهْرًا مِنَ الشُّهُورِ مَا تَصُومُ مِنْ شَعْبَانَ! قَالَ: (ذَلِكَ شَهْرٌ يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْهُ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ!) (رواه النسائي، وصححه الألباني).
فبيَّن أن سبب ذلك أمران:
الأول: أنه شهْرٌ تُرْفَع فيه الأعْمال إلى ربِّ العالمين.
والثاني: غفلة الناس عنه، وسبب هذه الغفلة: أنه يأتي بعد شهر رجب الحرام وقبل رمضان، فيهتم الناس بهما ويغفلان عنه.
ومن ذلك أيضًا ما جاء في حديث السوق، عن عمر بن الخطاب: أن رسول اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- قال: (مَنْ دَخَلَ السُّوقَ، فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).
ولا شك أن الناس غالبًا في الأسواق يغفلون عن ذكر الله -تعالى-، وينشغلون بالبيع والشراء؛ ولذا ترتب على الذكر في ذلك الموطن أجر عظيم من الله -تعالى-.
ومن ذلك أيضًا: حديث الثلاثة، فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أن رسول اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- قال: (ثلاثَةٌ يحبُّهُمُ اللهُ -عزَّ وجلَّ-، ويَضْحَكُ إليهِمْ، ويَسْتَبْشِرُ بِهمْ: الذي إذا انْكَشَفَتْ فِئَةٌ؛ قاتَلَ ورَاءَها بِنفسِهِ للهِ -عزَّ وجلَّ-، فَإِمَّا أنْ يُقتلَ، وإِمَّا أنْ يَنْصُرَهُ اللهُ ويَكْفيهِ، فيقولُ اللهُ: انظُروا إلى عَبدي كَيْفَ صَبَّرَ لي نفسَهُ؟! والذي لهُ امرأةٌ حَسْناءُ، وفِرَاشٌ لَيِّنٌ حَسَنٌ، فَيَقُومُ مِنَ الليلِ، فيقولُ: يَذَرُ شَهْوَتَهُ، فَيَذْكُرُنِي ويُناجِينِي، ولَوْ شاءَ رَقَدَ! والذي يكونُ في سفرٍ، وكان مَعَهُ رَكْبٌ؛ فَسَهَرُوا ونَصَبُوا، ثُمَّ هَجَعُوا، فقامَ مِنَ السحر في سَرَّاءٍ أوْ ضَرَّاءٍ) (رواه الحاكم والبيهقي، وحسنه الألباني).
وهكذا ينبغي على العبد أن يصوم حين يفطر الناس، وأن يقوم حين ينام الناس، وأن يذكر الله -تعالى- حين يغفل الناس، وأن يتصدق حين يبخل الناس؛ فإن الانفراد بعبادة الله -تعالى- له لذة وحلاوة؛ ولذا فإن أقرب ما يكون الربُّ من العبدِ في جوفِ الليلِ الآخرِ حين ينام الناس، ولا شك أن العبادة في وقت غفلة الناس تكون أشق على النفس؛ لأنه ليس هناك مَن تتأسى به، فالتأسي يسهِّل العمل ويعين عليه.
وفي صحيح مسلم قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ) (رواه مسلم).
قال بعض السلف: “لولا مَن يذكر الله في غفلة الناس لهلك الناس”.
فاللهم أعنا على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك، ولا تجعلنا من عبادك الغافلين.