مقاصد المكلفين (15)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زلنا نطوف حول مقاصد المكلفين وأمر النية والإخلاص، وقد سلَّطنا الضوء في مقالنا السابق على مسألة مهمة، وهي: الفرق بين الرياء والعجب والسمعة.
وفي هذا المقال نسلِّط الضوء على أمرٍ في غاية الأهمية ألا، وهو: أسباب الرياء، فما الأسباب الداعية إلى الرياء؟ وقد أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنّه يخاف علينا الشرك الخفي أكثر مما يخاف علينا المسيح الدجال، وما ذلك إلاّ لأن الداعي إلى الرياء قويٌّ؛ إذ النفوس مجبولة على حبِّ الرئاسة، والمنزلة في قلوب الخلق إلاّ من سلَّمه الله وعافاه، وقد أحسن الشاعر حيث يقول:
يَهْوَى الثَّنَاءَ مُبَرِّزٌ وَمُقَصِّرٌ حُــبُّ الـثَّنَاءِ طَبِيعَةُ الْإِنْسَانِ
فالأمور التي تدعو إلى الرّياء مغروسة في أعماق النفس الِإنسانية، فعن شداد بن أوس -رضي الله عنه- قال: قال رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: “إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، أَمَا إِنِّي لَسْتُ أَقُولُ يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا وَلَا وَثَنًا، وَلَكِنْ أَعْمَالًا لِغَيْرِ اللَّهِ، وَشَهْوَةً خَفِيَّةً” (رواه ابن ماجه في سننه، وفي إسناده ضعف، لكن معناه صحيح)، وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رضي الله عنه- قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ، فَقَالَ: (أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنْ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ) قَالَ: قُلْنَا: بَلَى. فَقَالَ: (الشِّرْكُ الْخَفِيُّ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ) (رواه ابن ماجه، وحسنه الألباني)؛ ولذلك فإن الداعي إلى الرياء هو حب الدنيا والتعلق بها، وقد قال الله فيها: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحياةَ الدنْيَا) (الأعلى:16)، وقال -تعالى-: (بلْ تُحِبُّونَ الْعَاجلَةَ . وتَذَرُونَ اْلآخِرَةِ) (القيامة:20-21)، وقد حصر الحارث المحاسبي حب الظهور والعمل من أجل الناس بسبب ثلاثة أمور: “حبّ المحمدة، وخوف المذمة في الدنيا، والطمع فيما أيدي الناس”.
وقد شرح لنا الحارث المحاسبي حديث أبي موسى الأشعري، وبيَّن دلالته على أن الرياء إنما يبعث عليه الأمور الثلاثة التي ذكرها، فالأعرابي السائل للرّسول -صلى الله عليه وسلم- قال: يا رسول الله، الرجل يقاتل حمية وَيُقَاتِلُ رِيَاءً؛ أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ) (متفق عليه)، وفي لفظٍ للحديث: “وَيُقَاتِلُ لِيُرَى مَكَانُهُ، مَنْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟”، قال: (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ).
وهكذا يظهر مِن خلال الحديث: أن الرجل يقاتل أحيانًا خوفًا من الذم، أو حمية وعصبية لقومه، أو ليظهر شجاعته ويحصل على الثناء، وقد وضَّح النبي -صلى الله عليه وسلم- أن القتال في سبيل الله إنما هو ما كان لله وحده لا شريك له.
هذا وقد استثنى الإمام مالك -رحمه الله- وتابعه ابن العربي من هذه الأفعال التي هي رياء؛ تلك العبادات التي يظهرها العبد كي تثبت عدالته، وتصحّ إمامته، وليُقْتدَى به، قال القرطبي -رحمه الله-: “قال ابن العربي: إنَّ مَن صلى صلاة لِيُرِها الناس، ويرونه، فيشهدون له بالإيمان، أو أراد طلب المنزلة والظهور، لقبول الشهادة وجواز الإمامة، فليس ذلك بالرياء المنهي عنه، ولم يكن عليه حرج، وإنما الرياء في المعصية أن يظهرها صيدًا للناس وطريقًا إلى الأكل، فهذه نيّة لا تجزئ وعليه الإعادة”.
وقال الدكتور عمر الأشقر -رحمه الله- معلقًا على كلام الإمام مالك وابن العربي -رحمهما الله-: “وينبغي أن يُحمل كلام مالك وابن العربي في مثل هذه الحال على ما إذا كان القصد إلى هذه الأمور تابعًا للِإخلاص، أما إذا كان قصد هذه الأمور متبوعًا فهو رياء، لا يخالف فيه مالك ولا غيره” (مقاصد المكلفين للشيخ الأشقر).
ومع ذلك فقد ذهب كثيرٌ مِن العلماء إلى أنَّ هذا القصد ينافي الإخلاص ويذهبه، وأنّه من الرِّياء، منهم: الحارث المحاسبي، والقرطبي، وغيرهما.
نسأل الله -تعالى- أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعلنا ممَن يقولون فيعملون، ويعملون فيخلصون.
ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.