مقالات تاريخية

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (45) استشهاد ابن الزبير -رضي الله عنهما-

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا في المقال السابق ما كان مِن أمر عبد الله بن الزبير -رضى الله عنهما- وحديثه مع أمه أسماء -رضي الله عنها-، وقد قرر ابن الزبير أن يستمر في المواجهة ولو أدى ذلك إلى مقتله.

كان ابن الزبير -رضي الله عنهما- يخرج مِن باب المسجد الحرام، وهناك خمسمائة فارس وراجل، فيحمل عليهم فيتفرقون عنه يمينًا وشمالًا، ولا يثبت له أحد، وكانت أبواب الحرم قد قل مَن يحرسها مِن أصحاب ابن الزبير، وكان لأهل حمص حصار الباب الذي يواجه باب الكعبة، ولأهل دمشق باب بني شيبة، ولأهل الأردن باب الصفا، ولأهل فلسطين باب بني جمح، ولأهل قنسرين باب بني سهم، وعلى كل باب قائد، ومعه أهل تلك البلاد، وكان الحجاج وطارق بن عمرو في ناحية الأبطح –المكان المتَّسعُ يَمُرّ به السيل، فيترك فيه الرملَ والحصى الصغار ومنه أَبطح مكَّة، هو مسيل واسع يقع بيْن مكة ومنى-، وكان ابن الزبير لا يخرج على أهل باب إلا فرقهم وبدد شملهم (البداية والنهاية لابن كثير).

وفي آخر يوم مِن حياته صلى ركعتي الفجر ثم تقدم وأقام المؤذن فصلى بأصحابه فقرأ: (ن وَالْقَلَمِ) (القلم:1)، حرفًا حرفًا، ثم سلم فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم خطب خطبة بليغة، ثم قال: “احملوا على بركة الله”. ثم حمل عليهم حتى بلغ بهم الحجون -جبل بأعلى مكة- فرُمي بحجر، فأصاب جبهته، فسقط، ودمي وجهه (الأخبار الطوال للدينوري، ص 315)، وقاتلهم قتالًا شديدًا، فتعاونوا عليه فقتلوه يوم الثلاثاء مِن جمادى الآخرة وله ثلاث وسبعون سنة (تاريخ الرسل والملوك للطبري)، وتولى قتله رجل مِن قبيلة مراد، وحمل رأسه إلى الحجاج، فخر ساجدًا -قبحه الله-، وسار الحجاج وطارق بن عمرو حتى وقفا عليه، فقال طارق: “ما ولدت النساء أذكر مِن هذا!”. فقال الحجاج: “أتمدح مخالف أمير المؤمنين؟ قال: نعم، هو أعذر لنا، ولولا هذا لما كان لنا عذر، إنا محاصروه منذ سبعة أشهر وهو في غير جند ولا حصن ولا منعة فينتصف منا، بل يفضل علينا، فبلغ كلامهما عبد الملك فصوب طارقًا” (الكامل في التاريخ 3/ 73).

وقد ذٌكر أن ابن الزبير في يوم استشهاده قال: “ما أُراني اليوم إلا مقتولاً، لقد رأيتُ في ليلتي كأن السماء فرجت لي فدخلتها، فقد -والله- مللت الحياة وما فيها” (سير أعلام النبلاء، 3/ 378)، ولما قٌتل عبد الله خرجتْ إليه أمه حتى وقفت عليه، وهي على دابة، فأقبل الحجاج في أصحابه فسأل عنها فأخبر بها، فأقبل حتى وقف عليها فقال: “كيف رأيت نصر الله الحق وأظهره؟ قالت: ربما أُديل الباطل على الحق، فقال: إن ابنك ألحد في هذا البيت، وقد قال الله -تعالى-: (وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الحج:25)، وقد أذاقه الله ذلك العذاب الأليم! قالت: كذبت، كان أول مولود ولد في الإسلام بالمدينة، وسُرّ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحنكه بيده وكبر المسلمون يومئذٍ حتى ارتجت المدينة فرحًا به، وقد فرِحتَ أنت وأصحابك بمقتله، فمَن كان فرح يومئذ خير منك ومِن أصحابك، وكان مع ذلك برًّا بالوالدين، صوامًا قوامًا بكتاب الله، معظمًا لحُرم الله، يُبْغِض أن يُعصى الله -عز وجل-” (البداية والنهاية لابن كثير).

وقد دافعت عن ابنها دفاعًا مجيدًا؛ فانكسر الحجاج وانصرف، فبلغ ذلك عبد الملك، فكتب إليه يلومه في مخاطبته أسماء -رضي الله عنها-، وقال: “مالك ولابنة الرجل الصالح” (البداية والنهاية لابن كثير).

وقيل: إن الحجاج دخل عليها بعد أن قتل ابنها فقال: “يا أماه، إن أمير المؤمنين أوصاني بك فهل لكِ مِن حاجة؟ فقالت: لستُ لك بأم، إنما أنا أم المصلوب على الثنية، وما لي من حاجة، ولكن أحدثك إني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إِنَّ فِي ثَقِيفٍ كَذَّابًا وَمُبِيرًا) فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ –الذي يسفك الدماء، ويعتدي على الناس، ويظلمهم– فَلَا إِخَالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ. (رواه مسلم).

ولما قتل ابن الزبير ارتجت مكة بكاءً على عبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما-، فخطب الحجاج الناس، فقال: “أيها الناس، إن عبد الله بن الزبير كان مِن خيار هذه الأمة حتى رغب في الخلافة، ونازعها أهلها، وألحد في الحرم، فأذاقه الله مِن عذاب أليم، وإن آدم كان أكرم على الله مِن ابن الزبير، وكان في الجنة، وهي أشرف مِن مكة، فلما خالف أمر الله وأكل مِن الشجرة التي نهي عنها؛ أخرجه الله مِن الجنة، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله”. وقيل: “إنه قال: يا أهل مكة، بلغني إكباركم واستعظامكم قتل ابن الزبير، فإن ابن الزبير كان مِن خيار هذه الأمة، حتى رغب في الدنيا، ونازع الخلافة أهلها، فخلع طاعة الله، وألحد في حرم الله، ولو كانت مكة شيئًا يمنع القضاء لمنعت آدم حرمة الجنة، وقد خلقه الله بيده، ونفخ فيه مِن روحه، وأسجد له ملائكته، وعلَّمه أسماء كل شيء، فلما عصاه أخرجه مِن الجنة، وأهبطه إلى الأرض، وآدم أكرم على الله مِن ابن الزبير، وإن ابن الزبير غيَّر كتاب الله”، فقال له عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: “لو شئتُ أن أقول لك: كذبت لقلتُ، والله إن ابن الزبير لم يغيِّر كتاب الله، بل كان قوامًا به، صوامًا، عاملًا بالحق” (تاريخ دمشق لابن عساكر).

ثم أمر الحجاج بجثة ابن الزبير فصلبت على ثنية كداء عند الحجون، فما زالت مصلوبة حتى مرَّ به عبد الله بن عمر فقال: “رحمة الله عليك يا أبا خبيب، أما والله لقد كنتَ صوامًا قوامًا وصولًا للرحم، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، والله لأمة أنت شرها لأمة خير”، ثم قال: “أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟”، فبعث الحجاج، فأنزل عن الجذع. (البداية والنهاية لابن كثير)، ودفن هناك. ولما صلب ابن الزبير ظهرت منه رائحة المسك (الكامل في التاريخ لابن الأثير، 3/ 74).

ودخل الحجاج إلى مكة، فأخذ البيعة مِن أهلها لأمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، ولم يزل الحجاج مقيمًا بمكة حتى أقام للناس الحج عامه هذا أيضًا، وهو على مكة واليمامة واليمن، وقد كتب عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف ألا يخالف عبد الله بن عمر في الحج لما يعرفه مِن فضله وفقهه.

ولما أجمع الناس على البيعة لعبد الملك بن مروان كتب إليه ابن عمر: “أما بعد، فإني قد بايعت لعبد الملك أمير المؤمنين بالسمع والطاعة على سنة الله وسنة رسوله فيما استطعت، وإن بنيّ قد أقروا بذلك، وقد بلغني أن المسلمين اجتمعوا على البيعة لك، وقد دخلت فيما دخل فيه المسلمون، والسلام” (الطبقات لابن سعد، 4/ 152).

ولا شك أن مذهب أهل الحق أن ابن الزبير كان مظلومًا، وأن الحجاج ورفقته خارجون عليه، وقد ذكرنا سابقًا آراء العلماء في ذلك، وأن مروان بن الحكم وابنه عبد الملك باغين على ابن الزبير خارجين على خلافته؛ فهو أمير المؤمنين، وقد انعقدت له البيعة، وكانت مدة خلافته تسع سنين، وتوفي وله اثنان وسبعون سنة، وبهذا انتهت التوترات السياسية، واستقر الأمر لعبد الملك وسيطر على الدولة في كافة أنحائها، واستمرت الدولة الأموية دون خلافاتٍ مع أهل الحجاز، لكن الخلافات لم تنتهِ في أرض العراق.

فإن قال قائل: لماذا لم يستسلم ابن الزبير -رضي الله عنهما- بعد مقتل أخيه مصعب، وسيطرة عبد الملك بن مروان على بلاد الشام والعراق ومصر والحجاز، ويكون تنازله دفعًا للمفسدة الكبرى، وهي سفك الدماء، واستحلال الحرم، ولقد فعل ذلك الحسن -رضي الله عنه- عندما تنازل لمعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما-، وقد نال الحسن على فعله هذا الثناء مِن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟!

فالجواب: نعم، كان هذا بإمكانه -رضي الله عنه-، وقد كان كثير مِن أصحابه يرون ذلك، ويتضح ذلك ويظهر في قول ابن عمر: “لقد كنت أنهاك عن هذا”، ولكن ابن الزبير اجتهد فأخطأ، ولعله أراد أن يتأسى في ذلك بأمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- الذي رفض التنازل عن الخلافة، ولكن عثمان -رضي الله عنه- كان يملك النص الصريح في عدم تنازله؛ فلقد قال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يَا عُثْمَانُ إِنَّهُ لَعَلَّ اللَّهَ يُقَمِّصُكَ قَمِيصًا، فَإِنْ أَرَادُوكَ عَلَى خَلْعِهِ فَلَا تَخْلَعْهُ لَهُمْ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني)، ولعله أيضًا غلب على ظنه أنه مقتول في جميع الأحوال حتى لو استسلم للحجاج.

وفي النهاية نقول: أن الترجيح بيْن المصالح والمفاسد يختلف مِن شخصٍ لآخر، ومِن زمنٍ إلى زمنٍ، ومِن مكانٍ إلى مكانٍ، ولكل واقع معطياته، والواقع يفرض نفسه أحيانًا.

والله المستعان.

زر الذهاب إلى الأعلى