صفحات مِن ذاكرة التاريخ (46) ثورة عبد الرحمن بن الأشعث عام 81هـ
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فهذه فتنة سياسية جديدة تقع في أرض العراق في عصر الدولة الأموية، وهي إحدى الثورات القوية التي قام بها أهل العراق، وقد قام أهل العراق بهذه الثورة على واليهم الحجاج بن يوسف، والتفوا جميعًا حول عبد الرحمن بن الأشعث الذي تولى قيادة هذه الثورة.
بداية الأحداث:
كان الحجاج قد أرسل جيشًا قويًّا بلغ عدده أربعين ألف مقاتل مِن أهل البصرة والكوفة، بقيادة عبد الرحمن بن الأشعث لقتال “رتبيل” ملك سجستان الذي امتنع عن دفع الجزية، وبالفعل تحرك الجيش بقيادة ابن الأشعث لتأديب رتبيل وكان ذلك عام 80 هـ، وقد استطاع الجيش أن يحقق نصرًا عظيمًا في بلاد الترك، وتمكن مِن السيطرة على بعض البلاد، وكان ابن الأشعث كلما فتح بلدًا عيَّن عليها نائبًا، وأوغل جدًّا في بلاد رتبيل وغنم كثيرًا مِن الأموال والبقر والغنم (البداية والنهاية 9/ 35).
ثم رأى ابن الأشعث أن يتوقف عن التوغل في تلك البلاد حتى يصلحوا ما بأيديهم مِن البلاد المفتوحة، وأن يقيموا في هذه البلاد حتى يتقووا إلى العام المقبل، فكتب إلى الحجاج بذلك، فكتب إليه الحجاج يستهجن رأيه في ذلك ويستضعف عقله ويصفه بالجبن والنكول عن الحرب، ويأمره حتمًا بدخول بلاد رتبيل، ثم أردف ذلك بكتاب ثانٍ ثم ثالث مع البريد، وكتب في جملة ذلك: “يا ابن الحائك الغادر المرتد، امضِ إلى ما أمرتك به مِن الإيغال في أرض العدو وإلا حل بك ما لا يطاق”، وهدده بالعزل أيضًا، وكان الحجاج يبغض ابن الأشعث ويقول: “هو أهوج أحمق حسود، وأبوه الذي سلب أمير المؤمنين عثمان ثيابه وقاتله، ودل عبيد الله بن زياد على مسلم بن عقيل حتى قتله”، وكان عبد الرحمن يشعر بأن الحجاج يبغضه، وكان يضمر للحجاج السوء ويتمنى زوال الملك عنه.
وهنا غضب ابن الأشعث مِن كتاب الحجاج وقال: “يكتب إليَّ بمثل هذا وهو لا يصلح أن يكون مِن بعض جندي، ولا مِن بعض خدمي لخوره وضعف قوته!”، ثم إن ابن الأشعث جمع رءوس أهل العراق وقال لهم: “إن الحجاج قد ألح عليكم في الإيغال في بلاد العدو، وهي البلاد التي قد هلك فيها إخوانكم بالأمس، وقد أقبل عليكم فصل الشتاء والبرد، فانظروا في أمركم؛ أما أنا فلستُ مطيعه، ولا أنقض رأيًا رأيته بالأمس”، ثم قام فيهم خطيبًا فأعلمهم بما كان رأى مِن الرأي له ولهم، وهو إصلاح البلاد التي فتحوها، وأن يقيموا بها حتى يتقووا بغلاتها وأموالها ويخرج عنهم فصل البرد ثم يسيرون في بلاد العدو فيفتحونها بلدًا بلدًا إلى أن يحصروا رتبيل ملك الترك في مدينة العظماء، ثم طلب منهم الرأي، فثار إليه الناس فقالوا: “بل نأبى على عدو الله ولا نسمع له ولا نطيع” (البداية والنهاية، 9/37).
ثم قاموا إلى عبد الرحمن بن الأشعث فبايعوه بدلًا مِن الحجاج، ولم يذكروا خلع عبد الملك بن مروان، ثم سار ابن الأشعث بالجنود الذين معه مقبلًا مِن سجستان إلى الحجاج ليقاتله ويأخذ منه العراق، فلما توسطوا الطريق قالوا: “إن خَلْعنا للحجاج خلع لابن مروان” فخلعوهما وجددوا البيعة لابن الأشعث، فبايعهم على كتاب الله وسنة رسوله، وخلع أئمة الضلالة وجهاد الملحدين.
ومِن هنا بدأت ثورة ابن الأشعث، وتُعد هذه الثورة هي أخطر الثورات التي قامتْ على الدولة الأٌموية، ثم سار الجيش في طريقه إلى العراق قاصدًا الحجّاج، فلما جاء الخبر الحجّاج كتب إلى عبد الملك يخبره بالأمر ويطلب منه المدد ويستعجله في بعثه الجنود إليه، وجاء الحجاج حتى نزل البصرة.
وكتب المهلب بن أبي صفرة إلى ابن الأشعث يقول له: “إنك يا ابن الأشعث قد وضعت رجلك في ركاب طويل، أبقِ على أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، انظر إلى نفسك فلا تهلكها، ودماء المسلمين فلا تسفكها، والجماعة فلا تفرقها، والبيعة فلا تنكثها، فإن قلتَ أخاف الناس على نفسي، فالله أحق أن تخافه مِن الناس، فلا تعرضها لله في سفك الدماء، أو استحلال محرم والسلام عليك”، ولكن لم يعر ابن الأشعث نصح المهلب أدنى اهتمام.
وكتب المهلب إلى الحجاج: “أما بعد، فإن أهل العراق قد أقبلوا إليك مثل السيل المنحدر مِن علوٍّ ليس شيء يرده حتى ينتهي إلى قراره، وإن لأهل العراق شدة في أول مخرجهم، وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم، فليس شيء يردهم حتى يصلوا إلى أهليهم وينبسطوا إلى نسائهم ويشموا أولادهم ثم واقعهم عندها، فإن الله ناصرك عليهم -إن شاء الله-” (تاريخ الرسل والملوك 6/ 339).
معركة الزاوية:
ثم أخذ عبد الملك في تجهيز الجنود مِن الشام إلى العراق في نصرة الحجاج وتجهيزه في الخروج إلى ابن الأشعث، وعصى رأي المهلب فيما أشار به عليه، وكان في مشورته النصح والصدق، وجعلت كتب الحجاج لا تنقطع عن عبد الملك بخبر ابن الأشعث صباحًا ومساءً، أين نزل؟ ومِن أين ارتحل؟ وأي الناس إليه أسرع؟ وجعل الناس يلتفون على ابن الأشعث مِن كل جانب، حتى قيل: إنه سار معه ثلاثة وثلاثون ألف فارس، ومائة وعشرون ألف راجل، وخرج الحجاج في جنود الشام مِن البصرة نحو ابن الأشعث، وقد قرر الحجاج مواجهة ابن الأشعث ومَن معه قبْل دخولهم العراق، فأرسل الكتائب تلو الكتائب، ولكن لم تستطع إيقاف زحف ابن الأشعث فهزمها، وتقدم حتى دخل البصرة بعد أن خرج منها الحجّاج فارًّا بنفسه ومَن معه مِن أهل الشام، ونزل بالزاوية -لفظ يطلق على عدة أماكن، والمراد به هنا موضع قرب البصرة-؛ عند ذلك أيقن الحجّاج بصدق المهلب في نصحه له، فقال: “لله أبوه، أي صاحب حرب هو! أشار علينا بالرأي فلم نقبل” (تاريخ الرسل والملوك، 6/346).
وفي شهر المحرم عام 82هـ كانت وقعة الزاوية بيْن ابن الأشعث والحجاج، وكان أول يوم لأهل العراق على أهل الشام، ثم توافقوا يومًا آخر، فحمل سفيان بن الأبرد أحد أمراء أهل الشام على ميمنة ابن الأشعث فهزمها وقَتل خلقا كثيرًا مِن القراء مِن أصحاب ابن الأشعث في هذا اليوم، وخرَّ الحجاج لله ساجدًا بعد ما كان جثى على ركبتيه وسل شيئًا مِن سيفه وجعل يترحم على مصعب بن الزبير، ويقول: “ما كان أكرمه حتى صبر نفسه للقتل” (البداية والنهاية 9/ 40).
قال الواقدي: “ولما التقى جيش الحجاج وجيش ابن الأشعث بالزاوية جعل جيش الحجاج يحمل عليهم مرة بعد مرة، فقال القراء: أيها الناس ليس الفرار مِن أحد بأقبح منكم، فقاتلوا عن دينكم ودنياكم”. وقال سعيد بن جبير نحو ذلك.
وقال الشعبي: “قاتلوهم على جورهم واستذلالهم الضعفاء، وإماتتهم الصلاة”.
ثم قاتلوا فانهزموا، ولم يقاتلوا كثيرًا علمًا بأن هناك طائفة كبيرة مِن أهل العلم والصلاح قد اشتركوا في ثورة ابن الأشعث؛ بسبب ظلم الحجاج وانتهاكه للحرمات، وهذا ما سنوضحه في الصفحات التالية بعد معركة دير الجماجم، وكان ابن الأشعث يحرِّض الناس على القتال، فلما رأى ما الناس فيه أخذ مَن اتبعه وانسحب.
ثم رجع ابن الأشعث بمَن بقي معه ومَن تبعه مِن أهل البصرة؛ فسار حتى دخل الكوفة فبايعه أهل الكوفة ولحق به كثيرٌ مِن أهل البصرة، وانضم إليه أهل المسالِح -جمع مَسلَحة والمَسْلَحُ: القومُ المسلَّحون في ثغرٍ أَو مخفرٍ- والثغور” (تاريخ الإسلام للذهبي، 6/5).
وقد قيل: “إن الحجاج قتل يوم الزاوية أحد عشر ألفًا” (تاريخ الرسل والملوك للطبري 6/ 380)، ثم كانت وقعة دير الجماجم في شعبان مِن نفس السَّنة.