د. زين العابدين كامل يكتب: لا تفقدوا الأمل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فنحن في أمس الحاجة إلى أن نعيش الحياة، وكلنا أملٌ في الله -عز وجل-؛ لا سيما مع كثرة المحن والأزمات والفتن التي تتعرض لها الأمة، ومع ارتفاع نسبة الفقر، وارتفاع الأسعار، وانتشار الأمراض، وزيادة الهموم، ونحو ذلك.
لا بد أن نعلم أن الحياة لا تستقيمُ لأَحدٍ علَى حالٍ، ولا تَصْفُو لمخلوقٍ مِنَ الكَدَرِ، فَفِيها خيرٌ وشرٌّ، وصلاحٌ وفسادٌ؛ ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.
لقد حرَّم الله -تعالى- اليأس، واعتبره قرين الكفر، فقال -تعالى-: (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف:87).
وندَّد بالقنوط واعتبره قرين الضلال، فقال -تعالى-: (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) (الحجر:56).
واليأْس فيه سوء أدب مع الله -عز وجل-: قال الله -تعالى-: (وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا) (الإسراء:83).
واليأس سبب لفساد القلب؛ قال ابن القيم -رحمه الله- وهو يعدِّد الكبائر: “الكبائر: القنوط مِن رحمة الله، واليأْس مِن رَوح الله، وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريمًا مِن الزنا وشرب الخمر، وغيرهما مِن الكبائر الظاهرة، ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها، والتوبة منها؛ وإلا فهو قلب فاسد، وإذا فسد القلب فسد البدن”.
ولقد عاب النبي -صلى الله عليه وسلم- على الذين ينفـِّرون الناس، ويضعون الناس في موقع الدونية دائمًا، ويصيبون الناس بهزيمةٍ نفسيةٍ، فقال -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: (إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ) (رواه مسلم).
وفي الهجرة مِن مكة والنبي -صلى الله عليه وسلم- خارج مِن بلده خروج المطارَد المضطهد الذي يغيِّر الطريق، ويأوى إلى الغار، ويسير بالليل، ويختفي بالنهار، وانظر إليه حينما يلجأ إلى غار ثور في هجرته مع صاحبه الصِّديق، ويقتفي المشركون آثار قدميه، ويشتد خوف الصديق على صاحب الدعوة وخاتم النبيين، ويقول: “لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا”، فَقَالَ: (مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا) (متفق عليه).
وفي الطريق يلحقه الفارس سراقة بن مالك، وهو يتمنى أن يفوز بجائزة قريش، ولكن قوائم جواده تسوخ في الأرض ويدركه الوهن، وينظر إليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيقول له: “يا سراقة، كيف بك إذا ألبسك الله سواري كسرى؟”، فيعجب الرجل ويبهت، ويقول: كسرى بن هرمز؟ فيقول: “نعم!”.
وهذا إبراهيم -عليه السلام-، قد صار شيخًا كبيرًا ولم يُرزق بعدُ بولدٍ، فيدفعه حسن ظنه بربه أن يدعوه: (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) (الصافات:100)، فاستجابَ له ربُّهُ ووَهَبَ لهُ إسماعيلَ وإسحاقَ -عليهما السلام-. رزقه الله إسماعيل وقد بلغ ستًا وثمانين سنة، ثم رزقه الله بإسحاق وقد بلغ تسعًا وتسعين سنة.
وموسى -عليه السلام– حين يسري بقومه لينجو بهم مِن فرعون وجنوده، فيعلمون بسراه، ويحشدون الحشود ليدركوه: (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ . فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) (الشعراء:60-61).
وأي إدراك أكثر مِن هذا؟!
البحر مِن أمامهم، والعدو مِن ورائهم!
بيد أن موسى -عليه السلام- لم يفزع ولم ييأس، بل قال: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء:62)، ولم يضع أمله سُدى (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ . وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ . وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ . ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ . إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) (الشعراء:63-67).
هل تأملنا قصة يعقوب -عليه السلام-، فقد فَقَدَ ابنَهُ يوسفَ -عليه السلام- ثُمَّ فقد بنيامين، ثم رُوبيل، وَقِيلَ: يَهُوذَا، ولكنَّه لم يتسرَّبْ إلى قلبِهِ اليأسُ ولا سَرَى في عُروقِهِ القُنوطُ، بل قالَ: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (يوسف:83).
وما أجَملَهُ مِنْ أَمَلٍ تُعَزِّزُهُ الثِّقَةُ باللهِ -سبحانه وتعالى- حينَ قالَ: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف:87). قال قتادة كان منذ فارق يوسف يعقوب إلى أن التقيا خمس وثلاثون سنة.
وهذا سيدنا زكريا -عليه السلام-: قال الله -تعالى-: (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا . إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا . قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا . وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا . يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (مريم:2-6)، فاستجاب له ربه: (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) (مريم:7).
وأيوبُ -عليهِ السلامُ- ابتلاهُ ربُّه بِذَهابِ المالِ والوَلَدِ والعافِيَةِ، ثُمَّ ماذا؟ قال الله -تعالى-: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء:83-84).
ويونس -عليه السلام- قد ابتلعه الحوت: (فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ . فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (الأنبياء:87-88).
والإنسان بطبعه يحب البشرى وتطمئن إليها نفسه؛ ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا، وَلاَ تُنَفِّرُوا) (متفق عليه).
ولنتأمل بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة الأحزاب.… فعندما اعترضت صخرة للصحابة وهو يحفرون ، ضربها الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث ضربات فتفتت. قال إثر الضربة الأولى : {الله أكبر ، أعطيت مفاتيح الشام ،والله إني لأبصر قصورها الحمراء الساعة ، ثم ضربها الثانية فقال : الله أكبر ، أعطيت مفاتيح فارس والله إني لأبصر قصر المدائن أبيض ، ثم ضرب الثالثة ، وقال : الله أكبر أعطيت مفاتيح اليمن ، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذه الساعة} .
وفي هذا الحديث بشارة بأن هذه المناطق سيفتحها المسلمون مستقبلاً ، وكان موقف المؤمنين من هذه البشارة ما حكاه القرآن الكريم {هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً } ، وموقف المنافقين الذين سخروا من البشارة : { وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً}.
وقَدْ بشَّرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بانتصارِ الإسلامِ وظُهورِهِ مَهْما تكالبَتْ عليهِ الأعداءُ، قال الله -تعالى-: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران:140).
فدوام الحال مِن المحال: “دولة الإسلام مع الظلم تزول، ودولة الكفر مع العدل تطول”؛ فكيف إذا اجتمع الكفر والظلم؟!
إننا بحاجة أن نتدبر آيات واضحات: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) (القصص:58)، (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا) (الكهف:59).
أمرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- بالعمل حتى في آخر لحظة، فعن أنس -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنْ قامَتِ السّاعَةُ وَفِي يَدِ أحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِن اسْتَطَاعَ أنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَها فلَيَغْرِسْها) (رواه أحمد، وصححه الألباني).
سيعود الإسلام بعد غربته التي طالتْ.
نعم سيعود -بإذن الله تعالى-.
فعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا،ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةٍ. ثُمَّ سَكَتَ) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).
نعم سيعود، فلا تقتلوا الأمل، ولكن علينا بالعمل والأخذ بالأسباب.
اذا غربت شمس الاسلام فى مكان فإنها تشرق فى مكان أخر.
(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) (يوسف:18).