صفحات مِن ذاكرة التاريخ (28) فتنة حُجر بن عدي -رضي الله عنه-
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فهذه حركة معارضة جديدة قادها حُجر بن عدي الكندي -رضي الله عنه-، وحجر بن عدي مختلف في صحبته، وذكر ابن سعد ومصعب الزبيري فيما رواه الحاكم عنه أنه وفد على النبي -صلى الله عليه وسلم- هو وأخوه هانئ بن عدي، وأما البخاري, وابن أبي حاتم عن أبيه, وخليفة بن خياط, وابن حبان، فذكروه في التابعين.
وكان حجر بن عدي مِن شيعة علي -رضي الله عنه- في الجمل وصفين. وكان رضي الله عنه مِن المعارضين للصلح الذي قام بيْن الحسن ومعاوية -رضي الله عنهما-، غير أن هذه المعارضة لم يترتب عليها في هذه المرحلة أي فعل، بل اقتصرت على الأقوال فقط (مرويات خلافة معاوية في تاريخ الطبري ص422).
ولم يزل حجر بن عدي منكِرًا على الحسن بن علي بن أبي طالب صلحه لمعاوية -رضي الله عنهم-، فكان يلومه على ذلك، ويقول: “تركتَ القتال ومعك أربعون ألفًا ذوو نيات وبصائر في قتال عدوك”، ثم كان بعد ذلك يذكر معاوية فيعيبه (البلاذري: أنساب الأشراف 4/ 255).
وكان زياد بن أبيه في خلافة علي واليًا مِن ولاته، وكان حجر بن عدي مِن أولياء زياد بن أبيه وأنصاره يومئذٍ، ولم يكن ينكر عليه شيئًا، فلما صار مِن ولاة معاوية صار ينكر عليه، ولما قدِم زياد الكوفة أميرًا مِن قِبَل معاوية -رضي الله عنه- أكرم حجر بن عدي، وأدناه، وشفَّعَه، و قَال له: “قد بلغني ما كنت تصنع بالمغيرة بن شعبة، وما كان يحتمل منك”، ثم لما أراد زياد الانحدار إلى البصرة دعاه، فقال له: “يا حجر إنك قد رأيت ما صنعت بك، وإني أريد البصرة، فأحب أن تشخص معي، فإني أكره أن تتخلف بعدي، فعسى أن أبلَّغ عنك شيئًا فيقع في نفسي، وإذا كنت معي لم يقع في نفسي منك شيء، فقد علمتُ رأيك في علي بن أبي طالب، وقد كان رأيي فيه قبلك على مثل ذلك، فلما رأيتُ الله صرف الأمر إلى معاوية، لم أتهم قضاء الله ورضيت به، وقد رأيتُ إلى ما صار أمر علي وأصحابه، وإني أحذرك أن تركب أعجاز أمور هلك مَن ركب صدورها”.
وهذا تحذير مِن زياد لحجر يدل على رغبته على حسم مادة الفتنة؛ ولذلك حرص على اصطحابه معه إلى البصرة، فقال حجر: “إني مريض، ولا أستطيع الشخوص”، فخرج زياد فلحق بالبصرة، واجتمع إلى حجر قُرّاء أهل الكوفة، فجعل لا ينفذ لعامل زياد معهم أمر، ولا يريد شيئًا إلا منعوه إياه. (البلاذري، المصدر السابق 4/ 270).
والمقصود مِن كلام زياد أنه كان مِن خواص علي -رضي الله عنه-، ولما رأى تنازل الحسن لمعاوية -رضي الله عنهما- وإجماع الأمة عليه دخل في الجماعة، وحرص على وحدة الصف، وحذر مِن الفتن، ثم في عام 51هـ حدث تدهور أخر في علاقة حجر بن عدي مع زياد بن أبيه والي العراق، وقد ذكر المؤرخون أن زيادًا -وهو أمير الكوفة- خطب خطبة أطال فيها، فنادى حجر بن عدي: “الصلاة!”، فمضى زياد في خطبته؛ فحصبه حجر وحصبه آخرون معه -أي ألقوه بالحجارة-، فكتب زياد إلى معاوية يشكو بغي حجر على أميره في بيت الله، وعدَّ ذلك مِن الفساد في الأرض، فكتب معاوية إلى زياد أن سرح به إليَّ (تاريخ الرسل والملوك للطبري 5/ 169).
قال أبو بكر بن العربي -رحمه الله-: “ولكن حجرًا فيما يُقال رأى مِن زياد أمورًا منكرة فحصبه، وخلعه، وأراد أن يقيم الخلق للفتنة، فجعله معاوية ممن سعى في الأرض فسادًا” (العواصم مِن القواصم).
ويقول محب الدين الخطيب في تعليقه على “العواصم مِن القواصم”: “كان حجر بن عدي مِن أولياء زياد وأنصاره، ولم يكن ينكر عليه شيئًا، فلما صار مِن ولاة معاوية صار ينكر عليه مدفوعًا بعاطفة التحزب والتشيع، وكان حجر يفعل مثل ذلك مع مَن تولى الكوفة لمعاوية قبْل زياد”.
ثم كان مِن أمر معاوية -رضي الله عنه- أنه أمر بقتل حجر بن عدي وبعض أصحابه، وهو لم يقتلهم على الفور، ولم يطلب منهم البراءة مِن علي -رضي الله عنه- كما تزعم بعض الروايات الشيعية المكذوبة، بل استشار أهل مشورته، ثم كان حكمه فيهم.
والحجة في ذلك ما يرويه صالح بن أحمد بن حنبل بإسنادٍ حسن عن ابن عياش، قال: “حدثني شرحبيل بن مسلم قال: لما بُعِث بحجر بن عدي وأصحابه مِن العراق إلى معاوية بن أبي سفيان، استشار الناس في قتلهم، فمنهم المشير، ومنهم الساكت. فدخل معاوية منزله، فلما صلى الظهر قام في الناس خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه، ثم جلس على منبره، فقام المنادي فنادى: أين عمرو بن الأسود العنسي؟ فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ألا إنا بحصن مِن الله حصين لم نؤمر بتركه، وقولك يا أمير المؤمنين في أهل العراق، ألا وأنت الراعي ونحن الرعية، ألا وأنت أعلمنا بدائهم، وأقدرنا على دوائهم، وإنما علينا أن نقول: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة:285)، فقال معاوية -رضي الله عنه-: “أما عمرو بن الأسود فقد تبرأ إلينا مِن دمائهم، ورمى بها ما بيْن عيني معاوية”. ثم قام المنادي فنادى: أين أبو مسلم الخولاني؟ فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: “أما بعد، فلا والله ما أبغضناك منذ أحببناك، ولا عصيناك منذ أطعناك، ولا فارقناك منذ جامعناك، ولا نكثنا بيعتنا منذ بايعناك، سيوفنا على عواتقنا، إن أمرتنا أطعناك، وإن دعوتنا أجبناك، وإن سبقناك نظرناك”، ثم جلس. ثم قام المنادي فقال: أين عبد الله بن مِخْمَر الشرعبي؟ فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: “وقولك يا أمير المؤمنين في هذه العصابة مِن أهل العراق، إن تعاقبهم فقد أصبت، وإن تعفُ فقد أحسنت”.
فقام المنادي فنادى: أين عبد الله بن أسد القسري؟ فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: “يا أمير المؤمنين، رعيتك وولايتك وأهل طاعتك، إن تعاقبهم فقد جنوا على أنفسهم العقوبة، وإن تعفو؛ فإن العفو أقرب للتقوى، يا أمير المؤمنين لا تطع فينا مَن كان غشومًا ظلومًا، بالليل نؤومًا، عن عمل الآخرة سؤومًا، يا أمير المؤمنين إن الدنيا قد انخشعتْ أوتارها، ومالت بها عمادها، وأحبها أصحابها، واقترب منها ميعادها”، ثم جلس، ثم قتل معاوية بعضًا واستحيا بعضًا، وكان فيمن قتل حجر بن عدي” (أحمد بن حنبل، المسائل، رواية ابنه صالح 2/ 328، 331).
وقد اعتمد معاوية -رضي الله عنه- في قضائه على قوله -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ، فَاقْتُلُوهُ) (رواه مسلم)، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّهُ سَتَكُونُ هَنَاتٌ وَهَنَاتٌ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ، فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ) (رواه مسلم). (هَنَاتٌ): جمع هَنَّة، والمراد بها هنا الفتن، والأمور الحادثة.
وعن ابن أبي مليكه: إن معاوية جاء يستأذن على عائشة، فأبتْ أن تأذن له، فخرج غلام لها يقال له: ذكوان، قال: ويحك أدخلني على عائشة، فإنها قد غضبت علَيَّ، فلم يزل بها غلامها حتى أذِنتْ له، وكان أطوع مني عندها، فلما دخل عليها قال: “أٌمّاه فيما وجَدْتِ عليَّ يرحمكِ الله؟ قالت: “وجدتُ عليك في شأن حِجْر وأصحابه أنك قتلتهم”. فقال لها: “وأما حِجْر وأصحابه فإني تخوفت أمرًا، وخشيت فتنة تكون، تهراق فيها الدماء، وتستحل فيها المحارم، وأنت تخافيني، دعيني والله يفعل بي ما يشاء”. قالت: “تركتك والله، تركتك والله، تركتك والله”.
وجاء في رواية أخرى: “لما قدِم معاوية دخل على عائشة، فقالت: “أقتلت حجرًا؟”. قال: “يا أم المؤمنين، إني وجدتُ قتل رجلٍ في صلاح الناس، خير مِن استحيائه في فسادهم” (تاريخ دمشق لابن عساكر 4/ 273، 274)، ومع ذلك فقد ذكرتْ بعض المصادر التاريخية أن معاوية -رضي الله عنه- ندم بعد ذلك على قتل حجر بن عدي (تاريخ الطبري 6/ 195، سير أعلام النبلاء 3/ 465).
قال أبو بكر بن العربي -رحمه الله-: “فإن قيل: قتل حجر بن عدي -وهو مِن الصحابة، مشهور بالخير- صبرًا أسيرًا، وبعثت إليه عائشة في أمره فوجدته قد فات بقتله.
قلنا: علمنا قتل حجر كلنا، واختلفنا: فقائل يقول: قتله ظلمًا، وقائل يقول: قتله حقـًّا.
فإن قيل: الأصل قتله ظلمًا؛ إلا إذا ثبتْ عليه ما يوجب قتله.
قلنا: الأصل أن قتل الإمام بالحق -ولا شك أن الأصل في الدماء أنها معصومة، وذلك ثابت بنصوص الكتاب والسُّنة-، فمَن ادعى أنه بالظلم فعليه الدليل، ولو كان ظلمًا محضًا لما بقي بيت إلا لُعن فيه معاوية، وقد كلمته عائشة -رضي الله عنها- في أمره حين حج، فقال لها: دعيني وحجرًا حتى نلتقي عند الله. وأنتم معشر المسلمين أولى أن تدعوهما حتى يقفا بيْن يدي الله مع صاحبهما العدل الأمين المصطفى المكين”.
وقال محب الدين الخطيب: “فالذين يريدون أن معاوية قتله بحق يقولون: ما مِن حكومة في الدنيا تعاقب بأقل مِن ذلك، مَن يحصب أميره وهو قائم يخطب على المنبر في المسجد الجامع، مندفعًا بعاطفة الحزبية والتشيع. والذين يعارضونهم يذكرون فضائل حجر ويقولون: كان ينبغي لمعاوية أن لا يخرج عن سجيته مِن الحلم وسعة الصدر لمخالفيه.
ويجيبهم الآخرون بأن معاوية يملك الحلم وسعة الصدر عند البغي عليه في شخصه، فأما البغي على الجماعة في شخص حاكمها وهو على منبر المسجد؛ فهو ما لا يملك معاوية أن يتسامح فيه، ولا سيما في مثل الكوفة التي أخرجت العدد الأكبر مِن أهل الفتنة الذين بغوا على عثمان بسبب مثل هذا التسامح، فكبدوا الأمة مِن دمائها، وسمعتها، وسلامة قلوبها، ومواقف جهادها، تضحيات غالية كانت في غنى عنها؛ لو أن هيبة الدولة حُفظتْ بتأديب عددٍ قليلٍ مِن أهل الرعونة والطيش في الوقت المناسب، وكما كانت عائشة -رضي الله عنها- تود لو أن معاوية -رضي الله عنه- شمل حجرًا بسعة صدره، فإن عبد الله بن عمر كان يتمنى مثل ذلك، والواقع أن معاوية -رضي الله عنه- كان فيه مِن حلم عثمان -رضي الله عنه- وسجاياه؛ إلا أنه في مواقف الحكم كان يتبصر في عاقبة عثمان، وما جرَّ إليه تمادي الذين اجترؤوا عليه”.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “وَقَلَّ مَنْ خَرَجَ عَلَى إِمَامٍ ذِي سُلْطَانٍ إِلَّا كَانَ مَا تَوَلَّدَ عَلَى فِعْلِهِ مِنَ الشَّرِّ أَعْظَمَ مِمَّا تَوَلَّدَ مِنَ الْخَيْرِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْحَرَّةِ وَابْنُ الْأَشْعَثِ وَابْنُ الْمُهَلَّبِ وَغَيْرُهُمْ؛ فَهُزِمُوا وَهُزِمَ أَصْحَابُهُمْ، فَلَا أَقَامُوا دِينًا وَلَا أَبْقَوْا دُنْيَا” (منهاج السُّنة 2/ 241).
وهكذا مرت هذه الحركة مِن المعارضة دون أن تحقق أدنى مصلحة، ولا بد أن نتعلم مِن التاريخ؛ فهو مرآة الأمم .
والله المستعان.