صفحات مِن ذاكرة التاريخ (26) بيعة الحسن بن علي -رضي الله عنهما- وتنازله عن الخلافة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلما ظهر مِن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه علامات الوداع ومفارقة الدنيا، قال له بعض مَن كانوا حوله: “استخلف علينا، قال: لا، ولكن أترككم إلى ما ترككم إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قالوا: فما تقول لربك إذا أتيته، قال: أقول: اللهم تركتني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتني إليك وأنت فيهم، فإن شئت أصلحتهم، وإن شئت أفسدتهم” (رواه البيهقي والبزار). وفي رواية: “أقول: اللهم استخلفتني فيهم ما بدا لك، ثم قبضتني وتركتك فيهم” (رواه الهيثمي).
فلما مات، جاء الناس وبايعوا ولده الحسن بن علي -رضي الله عنهما-، وكان أول مَن بايع الحسنَ قيس بن سعد، قال له: “ابسط يدك أبايعك على كتاب الله -عز وجل-، وسنة نبيه، وقتال المُحلِّين -المحل: الذي نقض العهد-، فقال له الحسن -رضي الله عنه-: على كتاب الله وسنة نبيه، فإن ذلك يأتي مِن وراء كل شرط: فبايعه وسكت، وبايعه الناس” (تاريخ الرسل والملوك للطبري).
“وقد اشترط الحسن بن علي -رضي الله عنهما- على أهل العراق عندما أرادوا بيعته، فقال لهم: إنكم سامعون مطيعون، تسالمون مَن سالمت، وتحاربون مَن حاربت” (تاريخ الرسل والملوك للطبري).
وفي رواية ابن سعد: “إن الحسن بن علي أبي طالب -رضي الله عنه- بايع أهل العراق بعد علي على بيعتين، بايعهم على الإمرة، وبايعهم على أن يدخلوا فيما دخل فيه ويرضوا بما رضي به” (رواه ابن سعد في الطبقات).
ويُستفاد مِن الروايات السابقة ابتداء الحسن -رضي الله عنهما- في التمهيد للصلح فور استخلافه، وقد استمر أمير المؤمنين الحسن بن علي -رضي الله عنهما- بعد بيعته خليفة على الحجاز، واليمن، والعراق، وغير ذلك نحو سبعة أشهر، وقيل: ثمانية أشهر، وقيل: ستة أشهر، وكانت خلافته هذه مدة خلافة راشدة حقة؛ لأن هذه المدة كانت تتمة لمدة الخلافة الراشدة التي أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن مدتها ثلاثون سنة، فقد روي الترمذي بإسناده إلى سفينة مولى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (الخِلَافَةُ فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).
ثالثًا: الصلح بيْن الحسن بن علي ومعاوية -رضي الله عنهم-:
بويع الحسن -رضي الله عنه-، وبايعه الأمراء الذين كانوا مع والده، وكل الناس الذين بايعوا لأمير المؤمنين علي -رضي الله عنه-، وباشر سلطته كخليفة؛ فرتب العمال، وأمّر الأمراء، وجنَّد الجنود، وفرق العطايا، وزاد المقاتلة في العطاء، وكان في وسعه أن يخوض حربًا لا هوادة فيها ضد معاوية -رضي الله عنه-، وكانت شخصيته الفذة مِن الناحية السياسية، والعسكرية، والأخلاقية، والدينية تساعد على ذلك، مع وجود عوامل أخرى، كوجود قيس بن سعد بن عبادة، وحاتم بن عدي الطائي، وغيرهما مِن قادة المسلمين الذين لهم مِن القدرات القيادية الشيء الكثير؛ إلا أن الحسن بن علي -رضي الله عنهما- مال إلى السلم والصلح؛ لحقن الدماء، وتوحيد الأمة، ورغبة فيما عند الله وزهدًا في الملك، وغير ذلك مِن الأسباب، وقد قاد الحسن بن علي -رضي الله عنهما- مشروع الإصلاح الذي توّج بوحدة الأمة، وظل زمام الموقف في جانبه وبيده ويد أنصاره، وكانت جبهته العسكرية قوية كما جاء في رواية البخاري، وقد عبَّر عن ذلك عمرو بن العاص -رضي الله عنه- عندما قال: “إِنِّي لَأَرَى كَتَائِبَ لاَ تُوَلِّي حَتَّى تَقْتُلَ أَقْرَانَهَا” (رواه البخاري)، وقال الحسن بن علي -رضي الله عنهما-: “كانت جماجم العرب بيدي تحارب مَن حاربت، وتسالم مَن سالمت” (أخرجه الحاكم في المستدرك)، ولكن الحسن كان ذا خُلُقٍ يجنح إلى السلم، وكراهة الفتنة ونبذ الفرقة(1).
وهذا الفعل مِن الحسن يُعد عَلَمًا مِن أعلام النبوة، والحجة في ذلك ما أخرجه البخاري مِن طريق أبي بكرة -رضي الله عنه- قال: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى المِنْبَرِ وَالحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبِهِ، وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً، وَعَلَيْهِ أُخْرَى وَيَقُولُ: (إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ) (رواه البخاري).
إن صلح الحسن مع معاوية -رضي الله عنهما- مِن الأحداث العظام في تاريخ الأمة الإسلامية، فمن ثمار هذا الصلح: حقن دماء المسلمين، وجمع كلمتهم على إمامٍ واحدٍ بعد سنواتٍ مِن الفرقة، ويٌعد الحسن -رضي الله عنه- أول خليفة يتنازل عن منصبه ويخلع نفسه طواعية، دون إجبار مِن أحدٍ، وذلك مع قدرته على أن يستمر في الحكم، ولكن الحسن -رضي الله عنه- كان ينظر إلى المصلحة العامة للأمة ويريد جمع شتاتها وتوحيد كلمتها، وبعد أن كشف الحسن عن نيته في الصلح مع معاوية -رضي الله عنه- وقعت المحاولة الأولى لاغتياله -رضي الله عنه-، وهذه المحاولة يبدو أنها قد جرت بعد استخلافه بقليل، فإن الحسن بن علي لما استخلف بعد مقتل علي -رضي الله عنه-، فبينما هو يصلي إذ وثب عليه رجل فطعنه بخنجر، فوقعت في وركه فمرض منها أشهرًا ثم برئ، فقعد على المنبر فقال: “يا أهل العراق اتقوا الله فينا، فإنا أمراؤكم وضيفانكم، أهل البيت الذين قال الله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب:33)، قال: فما زال يقول ذلك حتى ما رُئي أحد مِن أهل المسجد إلا وهو يخن -الخنين: البكاء في الأنف- بكاءً” (رواه ابن سعد في الطبقات).
خروج الحسن -رضي الله عنه- بجيش العراق مِن الكوفة إلى المدائن:
بعد أن بايع أهل العراق الحسن بن علي -رضي الله عنهما- قالوا له: “سر إلى هؤلاء القوم الذين عصوا الله ورسوله، ارتكبوا العظيم وابتزوا -الابتزاز: هو أخذ الشيء بجفاء وقهر، وهو أيضًا الحصول على المال أو المنافع مِن شخص تحت التَّهديد بفضح بعض أسراره أو غير ذلك- الناس أمورهم، فإنا نرجو أن يمكِّن الله منهم، فسار الحسن إلى أهل الشام، وجعل على مقدمته قيس بن سعد بن عبادة في اثنى عشر ألفًا” (رواه ابن سعد في الطبقات).
وبهذا يتضح أن أهل العراق هم الذين دفعوا الحسن -رضي الله عنه- إلى الخروج لقتال أهل الشام مِن غير رغبةٍ منه، وهذا الأمر قد أشار إليه ابن كثير -رحمه الله- بقوله: “ولم يكن في نية الحسن أن يقاتل أحدًا، ولكن غلبوه على رأيه، فاجتمعوا اجتماعًا عظيمًا لم يُسمع بمثله، فأمّر الحسن بن علي، قيس بن سعد بن عبادة، على المقدمة في اثنى عشر ألفًا بيْن يديه، وسار هو بالجيوش في إثره قاصدًا بلاد الشام، فلما اجتاز بالمدائن نزلها وقدم المقدمة بيْن يديه، وقد أظهر الحسن حنكة كبيرة دلت على سعهَ أفقه ودهائه وبصيرته، عندما لم يشأ أن يواجِه أهل العراق مِن البداية بميله إلى مصالحة معاوية وتسليمه الأمر؛ لأنه يعرف خفتهم وتهورهم، فأراد أن يقيم مِن مسلكهم الدليل على صدق نظرته فيهم، وعلى سلامة ما اتجه إليه، فوافقهم على المسير لحرب معاوية وعبأ جيشه” (البداية والنهاية لابن كثير).
خروج معاوية -رضي الله عنه- مِن الشام إلى العراق:
بعد أن وصل خبر خروج الحسن -رضي الله عنه- مِن الكوفة إلى المدائن بجيوشه، أقبل معاوية -رضي الله عنه- في أهل الشام يريد الحسن -رضي الله عنه- حتى نزل جسر منيح -قرية في الجزيرة الفراتية-، ثم أقبل مِن جسر منيح إلى مسكِن -موضع على نهر دجيل عند دير الجاثليق به كانت الوقعة بيْن عبد الملك بن مروان ومصعب بن الزبير سنة 72هـ- في خمسة أيام وقد دخل يوم السادس، وقد تأخر خروج معاوية -رضي الله عنه- وكان ذلك بعد سماعه لخروج الحسن بجيوشه، وكان معاوية قد أصيب إصابة بليغة مِن جراء محاولة الاغتيال التي تعرض لها مِن قِبَل الخارجي البرك بن عبد الله التميمي، حين خرج لصلاة الفجر، وهي المحاولةَ التي نفذت في نفس فجر اليوم الذي اغتيل فيه علي -رضي الله عنه-، وهو فجر يوم الجمعة السابع عشر مِن شهر رمضان سنة 40هـ على الصحيح المشهور مِن الأقوال. (البداية والنهاية لابن كثير).
وقد أشار الخلاَّل إلى شدة إصابة معاوية -رضي الله عنه- في الرواية التي أخرجها مِن طريق جُنْدُبٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فِي رَكْبٍ فَنَزَلَ سَعْدٌ وَنَزَلْتُ، وَاغْتَنَمْتُ نُزُولَهُ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَمْشِي إِلَى جَانِبِهِ، فَحَمِدْتُ اللَّهَ، وَأَثْنَيْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: إِنَّ مُعَاوِيَةَ طٌعن طَعْنَا بَيْنَنَا لَا أُرَاهَا إِلَّا قَاتِلَتُهُ، وَإِنَّ النَّاسَ -يقصد الخوارج- قَاتِلُونَ بَقِيَّةَ أَصْحَابِ الشُّورَى وَبَقِيَّةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ إِنْ وُلِّيتَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِمْ، أَوْ تَشُقُّ عَصَاهُمْ، وَأَنْ تُفَرِّقَ جَمْعَهُمْ، أَوْ تَدَعَهُمْ إِلَى أَمْرِ هَلَكَةٍ. فَحَمِدَ سَعْدٌ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: “أَمَّا بَعْدُ، فَوَاللَّهِ لَا أَشُقُّ عَصَاهُمْ، وَلَا أُفَرِّقُ جَمْعَهُمْ، وَلَا أَدْعُهُمْ إِلَى أَمْرِ هَلَكَةٍ حَتَّى يَأْتُونِي بِسَيْفٍ. يَقُولُ: يَا سَعْدُ، هَذَا مُؤْمِنٌ فَدَعْهُ، وَهَذَا كَافِرٌ فَاقْتُلْهُ”(السُّنة لأبي بكر الخلال).
وبينما الحسن -رضي الله عنه- في المدائن، إذ نادى منادٍ مِن أهل العراق: إن قيسًا قد قُتل فسرت الفوضى في الجيش، وعادت إلى أهل العراق طبيعتهم في عدم الثبات، فاعتدوا على سرادق الحسن -رضي الله عنه-، ونهبوا متاعه حتى إنهم نازعوه بساطًا كان تحته، وطعنوه وجرحوه، وهنا حدثت حادثهَ لها دلالة كبيرة، فقد كان والي المدائن مِن قِبَل علي -رضي الله عنه-، سعد بن مسعود الثقفي، فأتاه ابن أخيه المختار بن أبي عبيد بن مسعود، وكان شابًا، فقال له: “هل لك في الغنى والشرف؟ قال: وما ذاك؟ قال: توثق الحسن، وتستأمن به إلى معاوية، فقال له عمه: عليك لعنة الله، أَثِبُ على ابن بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَأُوثِقُهُ! بئس الرجل أنتَ!” (تاريخ الرسل والملوك للطبري).
فلما رأى الحسن -رضي الله عنه- صنع أصحابه أيقن أنه لا فائدة منهم، ولا نصر يُرجى على أيديهم، وهذه كانت قناعته منذ البداية، فدفعه ذلك إلى قطع خطوات أوسع والاقتراب أكثر مِن الصلح.
ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “فقد كان بمقدور الحسن أن يقاتِل معاوية بمَن كان معه، وإن كان أقل ممن كان مع معاوية، صنيع الذين قاتلوا خصومهم على قلةٍ مَن كان معهم مِن الأعوان والأنصار، ولكن الحسن كان ذا خُلُقٍ يجنح إلى السلم وكراهة الفتنة ونبذ الفرقة، جعل الله به رأب الصدع، وجمع الكلمة” (منهاج السُّنة 4/ 536).