حول أحداث التاريخ وتجارب الأمم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلا شك أن المتأمل في آفاق أمتنا، والمتفكر في أحوالها والمستقرئ لواقعها، يعلم علم اليقين أننا بحاجة ماسة إلى الرجوع إلى تاريخنا وتجارب الأمم من قبلنا، فما أحوج الأمة اليوم إلى أن تنظر في صفحات تاريخها المشرق، فالتاريخ هو مرآة الأمم؛ تستلهم مِن خلاله مستقبلها، فالشعوب التي لا تاريخ لها لا وجود لها ، فلن تستطيع الأمم أن تتقدم في حاضرها إلا بالرجوع إلى تاريخها وماضيها، فلا مستقبل لأمة تجهل تاريخها، وأود أن أُشير إلى أن البون شاسع بين قراءة التاريخ الإنساني كأحداث، وبين دراسته وقراءته كتفسيرٍ لتلك الأحداث.
ولقد قص الله علينا في القرآن كثيرًا مِن أحوال السابقين وقصص الأنبياء وتجارب الأمم، وقد أَوْلاها القُرآن قِسْطًا كبيرًا مِن العرض؛ لأن في ذلك عبرًا ودروسًا وعظات لمَن يرومها ويطلبها، قال -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (يوسف:111).
وإذا تأملنا أحوال النبي -صلى الله عليه وسلم- نرى أنه رغم فضله وعلو منزلته؛ إلا أنه استفاد مِن تجارب مَن سبقه.
وهاك بعض الأمثلة:
أولًا: في قصة المعراج: لقد صعد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى السماوات العلا، ثم فرض الله عليه خمْسِينَ صَلَاة كُلَّ يَوْمٍ، ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: (فَرَجَعْتُ فَمَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَا أُمِرْتَ؟ قَالَ: أُمِرْتُ بِخَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلاَةً كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي وَاللَّهِ قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ المُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَوَضَعَ عَنِّي عَشْرًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِعَشْرِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ فَقَالَ مِثْلَهُ، فَرَجَعْتُ فَأُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ) (رواه البخاري)، وهكذا تعلَّم الفاضل مِن المفضول، واستفاد محمد -عليه الصلاة والسلام- من موسى -عليه السلام-؛ لأنه سبقه في أمر الدعوة وجرَّب الناس قبله.
ثانيًا: روى مسلم في صحيحه أن رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنِ الْغِيلَةِ، حَتَّى ذَكَرْتُ أَنَّ الرُّومَ وَفَارِسَ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ، فَلَا يَضُرُّ أَوْلَادَهُمْ). والغيلة: هي أن يجامع الرجل امرأته وهي مرضع. وقيل: أن ترضع المرأة وهي حامل، وسبب همِّه -صلى الله عليه وسلم- بالنهي عنها أنه يخاف منه ضرر الولد الرضيع، وقد بيَّن رسول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سبب ترك النهي عنها، بأن فارسًا والروم يفعلونها فلا يضر ذلك أولادهم، وهنا تظهر قيمة الأخذ بتجارب الآخرين.
ثالثًا: في غزوة الأحزاب يوم أن اجتمع المشركون مِن قريش وغطفان ويهود على المسلمين، وأصبح الأحزاب يشكِّلون خطرًا كبيرًا على كيان المدينة؛ وذلك لكثرة عددهم وقوة عتادهم، وهنا قام سلمان الفارسي -رضي الله عنه- وقال: “يا رسول الله، إنا كنا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا” (فتح الباري)، فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بحفر الخندق حول المدينة، وهذا أمر لم يكن معروفًا في حروب العرب.
وهكذا حقق الرسول -صلى الله عليه وسلم- ما نطالب به اليوم: أن نتعلم مِن ماضينا لحاضرنا، وأن نستثمر تجارب السابقين لنا، وأن ننتفع بتفسير أحداثها وتحليلها.
وهنا يجدر بنا أن نشير إلى مسألة مهمة؛ ألا وهي: أن استفادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مِن تجارب غيره لا تتعارض مع كونه -صلى الله عليه وسلم- يُوحى إليه، ولا ينطق عن الهوى؛ فهو في مسائل الشريعة لا ينطق عن الهوى ولا يتحدث إلا بوحي مِن الله -تعالى-؛ لذا أمرنا الله -تعالى- باتباعه فيما شرع لنا، وهذا يختلف عن رأيه -صلى الله عليه وسلم- في أمور الحياة والمعايش، والذي يكون رأيه فيها مِن ظنه وخبرته وليس بوحيٍ مِن السماء؛ فالغرض أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد استغنى بالوحي في كل أمور الشريعة.
وللأسف الشديد: الكثير مِن الناس لا يتعلمون شيئًا مِن تجارب مَن سبقهم؛ لذا نرى البعض يسير على نفس طريق مَن فشلوا وضلوا، ويأخذ بنفس المعطيات، ويتمسك بنفس المنهج والطريقة، ويكرر نفس أخطاء مَن سبقه، وهو يظن أنه يحسن صنعًا! بل وتراه ينتظر نتائج تختلف عن سابقيه، وهذا بلا شك نوع مِن أنواع السفه وخفة العقل؛ لذا لابد مِن الارتقاء في مدارج الفكر لتتحقق النهضة الشاملة في جميع مناحي الحياة؛ نهضة تشمل الثقافة والسياسة والاقتصاد؛ لأن الذي يرى تاريخ سابقيه، بل وربما يعايشه ويعاصره ولم يستفد منه فهو بلا شك يعتريه خور ونقص.
وقد قيل: إن مِن فوائد قراءة التاريخ، أنك تجد عبر التاريخ أن بعض الناس لم يتعلموا شيئًا مِن التاريخ؛ لذا كان لزامًا علينا أن نسير وفق رؤية واضحة المعالم، وأن يكون فهمنا للواقع فهمًا شموليًّا.
والله المستعان.