مقالات تاريخية

صفحات مِن ذاكرة التاريخ (24) حول مناظرة “عبد الله بن عباس” مع “الخوارج” وأثرها

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فلقد انتهينا مِن الحديث عن موقعتي: “الجمل وصفين”، وذكرنا الأحداث التي وقعتْ وأسبابها ونتائجها، ثم أتبعنا ذلك بقراءةٍ تحليلية نقدية لأحداث الموقعتين، وألقينا الضوء على الدروس المستفادة مِن هذه الأحداث.

وإتمامًا للفائدة نذكر اليوم تفاصيل المناظرة التي كانت بيْن حبر الأمة عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- وبيْن الخوارج؛ فبعد الاتفاق الذي تم بيْن أهل الشام وأهل العراق على التحكيم، وأثناء عودة علي -رضي الله عنه- مِن صفين إلى الكوفة؛ انفصل الخوارج في جماعةٍ كبيرة مِن جيش علي -رضي الله عنه-، وقد قٌدر عددهم بعدة آلاف.

وقد انفصل هؤلاء عن الجيش قبْل أن يصلوا إلى الكوفة بمراحل, وقد أقلق هذا التفرق أصحاب علي -رضي الله عنه- وهالهم, وسار عليٌّ -رضي الله عنه- بمَن بقي مِن جيشه على طاعته حتى دخل الكوفة, وانشغل أمير المؤمنين -رضي الله عنه- بأمر الخوارج؛ خصوصًا بعد ما بلغه تنظيم جماعتهم مِن تعيين أمير للصلاة وآخر للقتال, وأن البيعة لله -عز وجل-؛ مما يعني انفصالهم فعليًّا عن جماعة المسلمين.

فأرسل علي -رضي الله عنه- ابن عباس إليهم لمناظرتهم؛ فرجع منهم ألفان بعد مناظرة ابن عباس -رضي الله عنهما- لهم, ثم خرج أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- بنفسه إليهم فكلمهم، فرجعوا ودخلوا الكوفة؛ إلا أن هذا الوفاق لم يستمر طويلاً.

لكننا نريد أن نقف على تفاصيل المناظرة، وكيف أقام ابن عباس -رضي الله عنهما- الحجة عليهم؛ لنأخذ مِن ذلك العبرة في كيفية التعامل مع المخالف، فعن عَبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: لَمَّا خَرَجَتِ الْحَرُورِيَّةُ اجْتَمَعُوا في دَارٍ وَهُمْ سِتَّةُ آلاَفٍ، أَتَيْتُ عَلِيًّا -رضي اللَّهُ عَنْهُ- فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَبْرِدْ بِالظُّهْرِ لَعَلِّي آتِي هَؤُلاَءِ الْقَوْمَ فَأُكَلِّمُهُمْ. قَالَ: إني أَخَافُ عَلَيْكَ. قُلْتُ: كَلاَّ. قَالَ: فَخَرَجْتُ آتِيهُمْ، وَلَبِسْتُ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنْ حُلَلِ الْيَمَنِ فَأَتَيْتُهُمْ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ في دَارٍ وَهُمْ قَائِلُونَ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: مَرْحَبًا بِكَ يَا ابن عَبَّاسٍ، فَما هَذِهِ الْحُلَّةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: مَا تَعِيبُونَ عَلَيَّ، لَقَدْ رَأَيْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الْحُلَلِ وَنَزَلَتْ: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (الأعراف:32)، قَالُوا: فَمَا جَاءَ بِكَ؟ قُلْتُ: أَتَيْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ صَحَابَةِ النبي -صلى الله عليه وسلم- مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ لأُبْلِغَكُمْ مَا يَقُولُونَ وَتُخْبِرُونِي بِمَا تَقُولُونَ، فَعَلَيْهِمْ نَزَلَ الْقُرْآنُ وَهُمْ أَعْلَمُ بِالْوَحْي مِنْكُمْ، وَفِيهِمْ أُنْزِلَ، وَلَيْسَ فِيكُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ!

فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ تُخَاصِمُوا قُرَيْشًا، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) (الزخرف:58)، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَتَيْتُ قَوْمًا لَمْ أَرَ قَوْمًا قَطُّ أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنْهُمْ، مُسَهَّمَةٌ وُجُوهُهُمْ مِنَ السَّهَرِ(2) كَأَنَّ أَيْدِيَهُمْ وَرُكَبَهُمْ ثَفِنٌ(3)، عَلَيْهِمْ قُمُصٌ مُرَحَّضَةٌ -أي مغسولة-، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَنُكَلِّمَنَّهُ وَلَنَنْظُرَنَّ مَا يَقُولُ. قُلْتُ: أَخْبِرُونِي مَاذَا نَقَمْتُمْ عَلَى ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَصِهْرِهِ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ؟ قَالُوا: ثَلاَثًا. قُلْتُ: مَا هُنَّ؟ قَالُوا: أَمَّا إِحْدَاهُنَّ: فَإِنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي أَمْرِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ) (الأنعام:57)، وَمَا لِلرِّجَالِ وَمَا لِلْحُكْمِ. فَقُلْتُ: هَذِهِ وَاحِدَةٌ. قَالُوا: وَأَمَّا الأُخْرَى فَإِنَّهُ قَاتَلَ وَلَمْ يَسْبِ وَلَمْ يَغْنَمْ، فَلَئِنْ كَانَ الَّذِينَ قَاتَلَ كُفَّارًا لَقَدْ حَلَّ سَبْيُهُمْ وَغَنِيمَتُهُمْ، وَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ مَا حَلَّ قِتَالُهُمْ! قُلْتُ: هَذِهِ ثِنْتَانِ فَمَا الثَّالِثَةُ؟ قَالُوا: إِنَّهُ مَحَا اسْمَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ أَمِيرُ الْكَافِرِينَ. قُلْتُ: أَعِنْدَكُمْ سِوَى هَذَا؟ قَالُوا: حَسْبُنَا هَذَا. فَقُلْتُ لَهُمْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَرَأْتُ عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَمِنْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا يُرَدُّ بِهِ قَوْلُكُمْ أَتَرْضَوْنَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. فَقُلْتُ لَهُمْ: أَمَّا قَوْلُكُمْ حَكَّمَ الرِّجَالَ في أَمْرِ اللَّهِ، فَأَنَا أَقْرَأُ عَلَيْكُمْ مَا قَدْ رُدَّ حُكْمُهُ إِلَى الرِّجَالِ في ثَمَنِ رُبُعِ دِرْهَمٍ في أَرْنَبٍ وَنَحْوِهَا مِنَ الصَّيْدِ، فَقَالَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) إِلَى قَوْلِهِ (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) (المائدة:95)، فَنَشَدْتُكُمْ بِاللَّهِ: أَحُكْمُ الرِّجَالِ في أَرْنَبٍ وَنَحْوِهَا مِنَ الصَّيْدِ أَفْضَلُ أَمْ حُكْمُهُمْ في دِمَائِهِمْ وَإِصْلاَحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ، وَأَنْ تَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَحَكَمَ وَلَمْ يُصَيِّرْ ذَلِكَ إِلَى الرِّجَالِ، وَفِي الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهُمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) (النساء:35)، فَجَعَلَ اللَّهُ حُكْمَ الرِّجَالِ سُنَّةً مَاضِيَةً؛ أَخَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ.

قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: قَاتَلَ؛ فَلَمْ يَسْبِ، وَلَمْ يَغْنَمْ! أَتَسْبُونَ أُمَّكُمْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- ثُمَّ تَسْتَحِلُّونَ مِنْهَا مَا يُسْتَحَلُّ مِنْ غَيْرِهَا؛ فَلَئِنْ فَعَلْتُمْ لَقَدْ كَفَرْتُمْ وَهِيَ أُمُّكُمْ، وَلَئِنْ قُلْتُمْ: لَيْسَتْ بِأُمِّنَا لَقَدْ كَفَرْتُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) (الأحزاب:6)، فَأَنْتُمْ تَدُورُونَ بَيْنَ ضَلاَلَتَيْنِ أَيَّهُمَا صِرْتُمْ إِلَيْهَا صِرْتُمْ إِلَى ضَلاَلَةٍ، فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ؛ قُلْتُ: أَخَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ.

وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: مَحَا نَفْسَهُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنَا آَتِيكُمْ بِمَنْ تَرْضَوْنَ أُرِيكُمْ، قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ كَاتَبَ الْمُشْرِكِينَ: سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، وَأَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (اكْتُبْ يَا عَلِىُّ هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) (رواه أحمد والحاكم والطبراني)، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: لاَ وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا قَاتَلْنَاكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُكَ، اكْتُبْ يَا عَلِيُّ هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ). فَوَاللَّهِ لَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ وَمَا أَخْرَجَهُ مِنَ النُّبُوَّةِ حِينَ مَحَا نَفْسَهُ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: فَرَجَعَ مِنَ الْقَوْمِ أَلْفَانِ وَقُتِلَ سَائِرُهُمْ عَلَى ضَلاَلَةٍ. (أخرجه النسائي، والبيهقي، والحاكم في المستدرك، والطبراني في الكبير، وعبد الرزاق في المصنف).

كانت فتنة الخوارج وبدعتهم أول بدعة اعتقادية ظهرت في أواخر عصر الصحابة -رضي الله عنهم-، وكانت تتعلق بقضايا الإيمان، فبدعة الخوارج هي أول البدع ظهورًا وأكثرها تأثيرًا وأشدها ضررًا على وحدة الأمة بسبب غلوهم وجهلهم وضلالهم، وأحاديث الخوارج مِن الأحاديث المتواترة كما نص على ذلك كثير مِن المحدثين، وكان اعتقاد الخوارج في ذلك أن مرتكب الكبيرة كافر ومخلد في النار، فتساهلوا في مسألة التكفير، ونحن نرى الآن مَن يكفـِّر المسلم بالزي والثياب! فمِن الناس مَن يقول مثلاً: مَن ارتدى الزي العسكري أو ثياب الفرنجة الكفار فهو كافر -ولا حول ولا قوة إلا بالله!-، وقد رأينا كيف أنهم أنكروا على ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه لبس حلة جميلة حسنة مِن حٌلل اليمن!

فهذه المُناظَرة فيها فوائد كثيرة لِمَن يتدبرها، فوائد تَنفَع الدعاة وطلاب العلم؛ لا سيما في واقِعنا المُعاصِر، وقد كثرت الفتن وانتشرت المناهج المنحرفة؛ فصاحب هذه المناظرة هو حبر الأمَّة وعالمها عبد الله بن عباس -رضِي الله عنهما- الذي دعا له رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- بالفقه في الدين؛ فلنتأمل كيف كان ابن عباس -رضي الله عنهما- حريصًا على هداية مَن ضلَّ الطريق؟!

وهذا الحرص ينبع مِن حبه للمسلمين، ومِن خوفه على أمته، والدين النصيحة كما أخبر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلا حرج مِن إجراء بعض المناظرات مع المخالفين إن كانت هناك مصلحة في ذلك، مع الأخذ بعين الاعتبار أن تكون النية هي الحرص على هداية الخلق والوصول للحق، لا الانتصار للنفس وحب الظهور والشهرة.

قال الشافعي -رحمه الله-: “ما كلَّمت أحدًا قط إلا أحببت أن يوفَّق ويسدد ويعان, ويكون عليه رعاية مِن الله وحفظ, وما كلمت أحدًا قطُّ إلا ولم أبال بيَّن الله الحقَّ على لساني أو لسانِه!”.

ولنتأمل أيضًا: حرص علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- على ابن عباس -رضي الله عنهما-، قال علي لابن عباس -رضِي الله عنهم-: “إني أخافُهم عليك”، وكان قد اشتَهَر عن الخوارج استِحلال دماء المسلمين، كما وصَفَهم رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- بقوله: (يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ) (متفق عليه)، وهذا ما يجب أن يكون بيْن أهل العلم وطلابه.

ولنتأمل أيضًا: حسن توكُّل ابن عباس -رضي الله عنهما-، واستِحضار مشيئة الله وقدره، كما قال ابن عباس لعلي -رضِي الله عنهم- لما قال له علي: “أخافُهم عليك”، قال ابن عباس: “كلا إن شاء الله”، والداعية إلى الله لا بد وأن يتعرَّض في دعوته للمَخاطِر والابتلاءات، فإن لم يُحسِن التوكُّل على الله، ويحسن الظنَّ بخالقه، ويستشعر معنى اسم الله “الحفيظ”، واسم الله “القوي” ونحو ذلك، ربما أدى ذلك إلى تركه للدعوة بالكلية، ولنتأمل كذلك قول ابن عباس للخوارج: أتيتكم مِن عند أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، المهاجرين والأنصار، ومِن عند ابن عمِّ النبي -صلى الله عليه وسلم- وصهره، وعليهم نزل القرآن؛ فهم أعلم بتأوِيله منكم، وليس فيكم منهم أحد. فكأنه يقول لهم، فأني لكم، كيف تُخالِفونهم؟ ثم مَن تُناصِبُونه العداء هو علي ابن عمِّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وزوْج ابنته فاطمة التي هي بَضْعة منه! وهؤلاء جميعًا هم مَن نزل عليهم القرآن، فهم أَوْلَى منكم بمعرفة تفسيره وأحكامه، ولم ينحز واحدٌ منهم إليكم، ولا فهم الذي فهمتم مِن القرآن! وبهذا يُرَسِّخ الداعية للحقِّ الذي يحمله مع مُخالِفه، فيجعله أكثر قابليَّة للحق.

وتدل المناظرة على استِعمال عامَّة أهل البِدَع والضَّلال نصوص الوحيَيْن في غير موضعها، كما استدلَّت الخوارج على ترك السماع مِن ابن عباس -رضي الله عنهما-؛ لأنه قرشيٌّ! والله يقول عن قريش: (بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ)، فالآية نزلت في مُشرِكي قريش الذين يُخاصِمون بالباطل، وابن عباس إنَّما جاءهم ليَرُدَّهم إلى الحقِّ، ويُكلِّمهم بكتاب الله وسُنَّة النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فكيف يجعَلونه مِن أهل هذه الآية؟!

وفي هذه المُناظَرة الكثير مِن جهل الخوارج بنصوص كتاب الله -تعالى- وتنزيلها غير موضعها، أو عدم فهمها ابتِداءً.

ومِن الفوائد أيضًا: عدم الاغتِرار بالهدي الظاهر والسَّمْت فقط؛ لأنَّ الدين مَبناه على العلم والعمل جميعًا، لا العمل على جهل، كحال الخوارج هنا، ولا العلم دون عمل كحال كثيرٍ مِن الناس، فابن عباس -رضِي الله عنهما- قال عن الخوارج: وما أتيتُ قومًا قطُّ أشدَّ اجتِهادًا منهم، مُسهِمة وجوههم مِن السهر! كأنَّ أيديهم ورُكَبهم تثنى عليهم، لكنَّهم مع ذلك (يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ) كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه، فكيف تُؤثِّر فيهم القراءة، وكيف يَفقَهُون ما يقرؤون؟! فهم يعبدون الله على جهل، وكثيرٌ مِن الناس يَغتَرُّون ببعض الدعاة وبشهرتهم وبلباقة لسانهم، ولا يفرِّقون بيْن العالم وغيره، فكل مَن لبس لباسًا معينًا فهو عندهم العالم! ومِن هنا تقع الفِتَن والمِحَن.

ومِن الفوائد أيضًا: إياك وسوء الظن في المخالفين جملة واحدة، فمِن الخوارج مَن قال: لنُكَلِّمنَّه ولنَنظُرَنَّ ما يقول، وهذا منهم تحرٍّ للخير، ثم منهم مَن قَبِل الحق، وعاد إلى صوابه ولم يستكبر.

ثم لا بد مِن دراسة وتعلم فن المناظرة، ويَظهَر هذا جليًّا مِن أسئلة ابن عباس -رضي الله عنهما- للخوارج، فهو يقول لهم أولاً: هاتوا ما نقمتم على أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابن عمِّه. وقال لهم: هل عندكم شيء غير هذا؟ ثم قال لهم ابن عباس كذلك مُشتَرِطًا: أرأيتُكم إن قرأتُ عليكم من كتاب الله وسُنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- ما يردُّ قولكم، أترجعون؟ وهذا أيضًا مِن حُسْنِ سياسة ابن عباس في حوارِه، فهو سأَلَهم بدايةً ما يُنكِرونه على أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم اشتَرَط عليهم الرُّجوع إلى الجماعة إذا ما ردَّ عليهم قولهم مِن كتاب الله وسنَّة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-.

وبعد كلِّ تفنيد شبهة يسألهم: أخرجتُ مِن هذه؟ فالمناظرة فن لا يحسنه كل أحد، فلا بد مِن تعلم هذا الفن، ولا يتصدر لهذا الفن إلا مَن أتقنه فحسب؛ لأنه مِن الممكن لضعف المناظِر ينتصر الباطل فيما يبدو للناس، وكذا لا بد أن نحذر مِن الاستخفاف بالمخالفين، فابن عباس -رضي الله عنهما- لم يَتعالَ عن مُناقَشة عقولٍ بهذا الفكر وهذا الفهم، وهذا هو واجب الدُّعاة إلى الله في كلِّ زمان.

ومِن فقه الداعية أيضًا: تذكيره لِمُخالِفِيه بالله، حتى تلِين قلوبُهم للحقِّ ولا يُكابِرون، كما كان يقول ابن عباس -رضي الله عنهما- للخوارج: أنشدكم بالله، أحكم الرجال في صَلاحِ ذات البَيْنِ وحَقْنِ دمائهم أفضل أو في أرنب؟ قالوا: بلى، بل هذا أفضل.

فالعبد يحتاج للتذكير بالله -تعالى- في خصوماته دومًا، ليُصَحِّح نيَّته، ويرضى بالحقِّ ويقبله، وهذه المناظرة أكبر دليل على أننا بحاجةٍ ماسة لا سيما في واقعنا المعاصِر إلى العُلَماء الربانيِّين وطلاب العلم النابِغين الذين يَرُدُّون الناس إلى الحقِّ، ويَأخُذون بأيديهم إلى السُّنة، فابن عباس جعَلَه الله سببًا في هِدايَة ألفَيْن مِن رجال الخوارج، الله أعلم بمصيرهم لو لم يرجعوا معه.

ثم إنه يجب على أهل العلم الذين مَنَّ الله عليهم بالفقه في الدين إذا ظهرت الفتن أن يُخرجوا علمهم، ويدلوا بدلوهم؛ لكشف الجهل وأهله، وتحذير الناس مِن الباطل.

ولا بد أن يكون الجميع على يقين أن الفكر لا يقاوَم إلا بالمواجهة الفكرية: فالخلل الفكري لا يواجَه بالسجون والتعذيب والتنكيل، فإن هذا قد لا يزيدهم إلا تشددًا وتعصبًا لأفكارهم، فالمواجهة الأمنية لا تكفي هنا، بل لا بد مِن مواجهةٍ فكرية علمية معهم، يقوم بها رجال ثقات في علمهم، ثقات في دينهم، فإن الذي يتعمق في واقع هذه الجماعات الإسلامية التي اتخذت العنف سبيلاً لها؛ يجد بوضوح أن وراءها أسبابًا فكرية هي الأكبر تأثيرًا، فهناك عوامل نفسية وسياسية واجتماعية تسهم بحد كبير جدًّا في ظهور التطرف والانحراف الفكري، فلا بد مِن معالجتها بما يتناسب معها.

فهذه كانت مناظرة حبْر الأمة للخوارج، وهذه كانت بعض الدروس والعبر المستفادة مِن المناظرة لعلها تنير لنا الطريق؛ لا سيما في خضم هذه الأحداث المتلاحقة، والفتن المختلفة.

والله المستعان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) سموا الحرورية، نسبة إلى بلدة حروراء في الكوفة، وكانت مركز خروجهم على علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.

(2) أي متغير لون وجوههم، انظر “لسان العرب”.(3) جمع ثفِنة بكسر الفاء: ما ولي الأرض مِن كل ذات أربع إذا بركت، كالركبتين وغيرهما، أي: غلظت جلود أكفهم لطول السجود “النهاية في غريب الحديث”.

زر الذهاب إلى الأعلى