صفحات مِن ذاكرة التاريخ (23) قراءة نقدية وتحليل لأحداث موقعتي “الجمل وصفين”
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلا شك أن الغاية الكبرى مِن دراسة التاريخ هي العبرة والعظة، واستخلاص الدروس المستفادة، قال الله -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (يوسف:111)، وعلى الباحث في التاريخ أن يتجرد مِن ميوله وأهوائه، وأن ينقل الحقيقة دون تحريف.
وتاريخنا الإسلامي تاريخ مشرق في جملته، يمتلئ بالصفحات المشرقة، رغم ما فيه مِن بعض الأحداث المؤلمة، كبعض الأحداث التي وقعتْ في القرن الأول؛ فليس هناك أمة على وجه الأرض سار تاريخها على منوال واحدٍ مِن الانتصارات والفتوحات والازدهار، والحضارات المشرقة، فلكل أمة كبوة في فترةٍ مِن الزمن، طالت أو قصرت، وتاريخ أمة الإسلام مليء بالانتصارات والإنجازات، وقد فاق كل الأمم في رصيدها الحضاري.
وإن المتأمل في هذه الأحداث الجسام التي وقعتْ منذ أن توفي أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- يَعلم أن ما حدث وما جرى في هذه الحقبة التاريخية يُعد مِن أشد المحن التي واجهت الأمة منذ بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وإن الناظر والمتأمل في الأحداث بعين العدل والإنصاف، يعلم علم اليقين أن مسألة الحٌكم مِن أشد الأمور تعقيدًا، وقد ظهر ذلك جليًّا في نهاية عصر أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-، وفي مدة خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما-.
قال محب الدين الخطيب -رحمه الله-: “وقد يظن مَن لا نظر له في حياة الشعوب وسياستها أن الحاكم يستطيع أن يكون كما يريد أن يكون حيثما يكون، وهذا خطأ؛ فللبيئة مِن التأثير في الحاكم، وفي نظام الحكم أكثر مما للحاكم ونظام الحكم مِن التأثير على البيئة، وهذا مِن معاني قول الله -عز وجل-: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(1).
وإذا تأملنا أحداث موقعتي “الجمل وصفين”: نرى أنه كان مِن الصعوبة بمكان أن يسيطر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- على الأحداث، وأن يمسك بزمام الأمور ويسيطر على الدولة، وأن يٌرضى جميع الأطراف المختلفة والمتناحرة؛ وذلك لوجود عددٍ مِن السبئية في الصف ممن يهيجون المشاعر وينشرون الفتن، وإذا تعالت الأصوات وكثر الصراخ بيْن الناس، وكثرت الشائعات في المجتمع؛ أدى كل ذلك إلى ضعف صوت العقل، فلا يسمعه إلا القليل مِن الناس!
ومما نتعلمه مِن هذه الأحداث التاريخية: أن الحماس وحده لا يكفي، وأن الإخلاص وحده لا يكفي أيضًا، بل لا بد مِن مراعاة الواقع والترجيح ما بيْن المصالح والمفاسد، وتقدير مواطن القوة والضعف، ولا بد مِن مراعاة المصالح العليا للعباد والبلاد، فدفع المفاسد مقدَّم على جلب المصالح، ولا بد مِن تحمل الضرر الخاص لرفع الضرر العام، والذين طالبوا بدم عثمان -رضي الله عنه- نحسبهم جميعًا على خير، ولا نطعن في نواياهم، ولكنهم أخطأوا في اجتهادهم وتقديرهم للأمور، فكان مِن الأولى أن نحافظ على وحدة الأمة، وعلى دماء المسلمين حتى لو أدى ذلك إلى ارتكاب مفسدة هي أدنى مِن مفسدة أخرى، فالشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها, وتعطيل المفاسد وتقليلها؛ إذن فلابد مِن مراعاة قاعدة: “اعتبار القدرة والعجز”، وقاعدة: “تفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما”، وقاعدة: “ارتكاب أخف المفسدتين لتفويت أشدهما”، وقاعدة: “اعتبار المآلات”، وهذا ما أصاب فيه أمير المؤمنين علي -رضي الله عنه- وأخطأ فيه غيره، بل ودلَّ موقفه على فقهه وفطنته -رضي الله عنه-.
ومما نتعلمه أيضًا: أن الحماس الممزوج بالعاطفة فقط دون مراعاة الضوابط السابقة لا يتلاءم مع منهجية التغيير الصحيحة.
ومما نتعلمه أيضًا: أن الجلوس على مائدة المفاوضات والسعي في الإصلاح بيْن الأطراف المختلفة والمتناحرة، هو مِن أسباب حفظ دماء المسلمين، ومِن أسباب ضعف شدة الخلاف بيْن الأطراف المختلفة، حتى لو طالتْ فترة السعي في الإصلاح، فمع مرور الوقت تهدأ النفوس وتطيب؛ لذا رأينا أن الحكمين ومَن معهما لم يستطيعوا أن يصلوا إلى حل جذري في القضية، لكن مجرد جلوسهم كان بمثابة الدواء للجرح الغائر، ووقف نزيف الدم.
ثم إن الواجب علينا في هذه الفتنة: الإمساك عما شجر بيْن الصحابة إلا فيما يليق بهم -رضي الله عنهم-؛ لما يسببه الخوض في ذلك مِن توليد العداوة والحقد، والبغض لأحد الطرفين، ويجب على كل مسلم أن يحب الجميع ويرضى عنهم ويترحم عليهم, ويحفظ لهم فضائلهم, ويعترف لهم بسوابقهم, وينشر مناقبهم, وأن الذي حصل بينهم إنما كان عن اجتهاد, والجميع مثابون في حالتي الصواب والخطأ؛ غير أن ثواب المصيب ضعف ثواب المخطئ في اجتهاده, وأن القاتل والمقتول مِن الصحابة في الجنة، وهذا هو مذهب أهل السُّنة والجماعة أن عليًّا -رضي الله عنه- هو المصيب، وإن كان معاوية -رضي الله عنه- قد اجتهد فأخطأ, وهو مأجور -إن شاء الله-, ولكن عليًّا هو الإمام؛ فله أجران كما ثبت في صحيح البخاري: (إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ)(2)، وقال -تعالى-: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات:9).
ففي هذه الآية أمر الله -تعالى- بالإصلاح بيْن المؤمنين إذا ما جرى بينهم قتال؛ لأنهم إخوة, وهذا الاقتتال لا يخرجهم عن وصف الإيمان حيث سمَّاهم الله -عز وجل- مؤمنين، وأمر بالإصلاح بينهم، وإذا كان حصل اقتتال بيْن عموم المؤمنين ولم يخرجهم ذلك مِن الإيمان؛ فأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذين اقتتلوا في موقعة الجمل وبعدها أول مَن يدخل في اسم الإيمان الذي ذُكِر في هذه الآية, فهم لا يزالون عند ربهم مؤمنين إيمانًا حقيقيًّا، ولم يؤثـِّر ما حصل بينهم مِن شجار في إيمانهم بحال؛ لأنه كان عن اجتهادٍ.
وقد سئل عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- عن القتال الذي حصل بيْن الصحابة، فقال: “تلك دماء طهر الله يدي منها؛ أفلا أطهر منها لساني؟! مثل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل العيون, ودواء العيون ترك مسها!”.
قال البيهقي -رحمه الله- معلقًا على قول عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-: “هذا حسن جميل؛ لأن سكوت الرجل عما لا يعنيه هو الصواب”.
وسئل الحسن البصري -رحمه الله- عن قتال الصحابة فيما بينهم، فقال: “قتال شهده أصحاب محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وغبنا, وعلموا وجهلنا, واجتمعوا فاتبعنا, واختلفوا فوقفنا”(3).
وقال الإمام أحمد -رحمه الله- بعد أن قيل له: “ما تقول فيما كان بيْن علي ومعاوية -رضي الله عنهما-؟ قال: ما أقول فيهم إلا الحسنى”.
وقال أبو بكر بن الطيب الباقلاني: “ويجب أن يُعلم أن ما جرى بيْن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم-, مِن المشاجرة؛ نكف عنه، ونترحم على الجميع، ونثني عليهم، ونسأل الله -تعالى- لهم الرضوان والأمان، والفوز والجنان, ونعتقد أن عليًّا -رضي الله عنه- أصاب فيما فعل وله أجران, وأن الصحابة -رضي الله عنهم- إنما صدر منهم كان باجتهادٍ فلهم الأجر، ولا يفسقون ولا يبدعون, والدليل عليه قوله -تعالى-: (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) (الفتح:18).
وقال ابن تيمية -رحمه الله- في صدد عرضه لعقيدة أهل السُّنة والجماعة فيما شجر بيْن الصحابة: “ويمسكون عما شجر بيْن الصحابة ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم، ومنها ما قد زيد فيه ونقص، وغيِّر عن وجهه, والصحيح منه هم فيه معذورون؛ إما مجتهدون مصيبون, وإما مجتهدون مخطئون”(4).
وقال ابن كثير -رحمه الله-: “أما ما شجر بينهم بعده عليه الصلاة والسلام، فمنه ما وقع مِن غير قصدٍ كيوم الجمل, ومنه ما كان عن اجتهادٍ كيوم صفين, والاجتهاد يخطئ، ولكن صاحبه معذور، وإن أخطأ فهو مأجور أيضًا، وأما المصيب فله أجران”(5).
وقال ابن حجر -رحمه الله-: “واتفق أهل السُّنة على وجوب منع الطعن على أحدٍ مِن الصحابة بسبب ما وقع لهم مِن ذلك، ولو عُرف المحق منهم؛ لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهادٍ, بل ثبت أنه يؤجر أجرًا واحدًا, وأن المصيب يؤجر أجرين”(6).
وعن عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قال: “رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المنام، وأبو بكر وعمر جالسان عنده، فسلمتُ عليه وجلستُ، فبينما أنا جالس إذ أتي بعلي ومعاوية فأدخلا بيتًا وأجيف الباب(7)، وأنا أنظر، فما كان بأسرع مِن أن خرج علي -رضي الله عنه- وهو يقول: قضي لي ورب الكعبة، فما كان بأسرع مِن أن خرج معاوية وهو يقول: غفر لي ورب الكعبة”(8).
وكذا يجب علينا أن نترضى على الطرف الثالث الذي اعتزل الفتنة: كسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وغيرهما -رضي الله عنهما-، وللأسف فإن بعض المؤرخين يطعنون في معاوية -رضي الله عنه-، بل ويفسقونه! ونسي هؤلاء أن معاوية -رضي الله عنه- مِن كتبة الوحي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “ولم يكن معاوية ممن يختار الحرب ابتداءً، بل كان مِن أشد الناس حرصًا على أن لا يكون قتال”.
وفي النهاية نؤكِّد على أن هذه الحقبة التاريخية كانت مِن أخطر الأزمنة التي مرَّت على الأمة، وهذه الفتنة هي أشد فتنة أيضًا، ولله الأمر مِن قبْل ومِن بعد، ومِن هنا يتضح أنه لابد مِن محاربة الفرق الضالة والطوائف المنحرفة، محاربة فكرية واجتماعية وأمنية أيضًا؛ لأنها عندما تنتشر في بلاد المسلمين تعرِّض أهله للخطر، وتهدد الأمن والاستقرار، وتشكك الناس في عقيدتهم، وتلك هي حال الخوارج المارقين الذين خرجوا على علي -رضي الله عنه- وكفروه، وقتله نفر منهم، زاعمين أنهم يتقربون بهذا الفعل إلى الله! وما عندهم في ذلك مستند ولا برهان، إن هو إلا اتباع الأهواء وطاعة الشياطين.
ولا بد أن يقوم العلماء والدعاة بواجبهم في ذلك؛ حفاظًا على الإسلام والمسلمين، ولتمكين عقيدة أهل السُّنة والجماعة، وهذه هي الطريقة المثلى لجمع الشمل ووحدة الصف، ومَن تأمل تاريخ الإسلام الطويل وجد أن الدول التي قامت على السُّنة هي التي جمعتْ شمل المسلمين،، وعز به الإسلام قديمًا وحديثًا، وهذا بخلاف الدول التي قامتْ على البدعة، وأشاعت الفوضى والفرقة والمحدثات، وفرَّقت الشمل، فهذه سرعان ما تندثر.
والله المستعان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هامش العواصم مِن القواصم لابن العربي، ص77.
(2) البخاري مع شرحه فتح الباري (13/ 318).
(3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (16/ 332).
(4) عبد المحسن العباد البدر، عقيدة أهل السُّنة والجماعة في الصحابة الكرام -رضي الله عنهم وأرضاهم-.
(5) الباعث الحثيث اختصار علوم الحديث لابن كثير, ص (182).
(6) فتح الباري لابن حجر (13/ 34).
(7) أجيف الباب: رد وأغلق، المعجم الوسيط.
(8) البداية والنهاية لابن كثير (8/ 133).