الحق أحق أن يتبع
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
ففي ظل هذا الواقع الذي نحياه، وفي ظل الخلافات الشديدة في بعض وجهات النظر وتباينها نرى كثيرًا من الناس حادوا عن الحق وأعرضوا عنه، ربما كان ذلك بسبب جهل منهم، وربما علموا الحق، ولكنهم أصروا على اتباع الباطل لسبب أو لآخر، وإن القلب ليحزن عندما يرى أناسًا يتوسم فيهم الخير ويرى أنهم حادوا عن الحق وهم يعلمون، بل وربما دافعوا عن باطلهم الذي اتبعوه لأهواء سيطرت عليهم -والعياذ بالله-.
وقد أنكر الله -تعالى- على الكافرين أنهم لا يتبعون الحق وهم يعلمونه، قال الله -تعالى-: (قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (يونس:35): أي أنكم تعلمون أن الذي يهدي هو الله، وأن شركاءكم لا تقدر على هداية ضال، فالذي يهدي الناس إلى الحق أولى بالاتباع ممن لا يهتدي هو بنفسه إلا أن يهديه غيره. (فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ): هذا الحكم الفاسد مِن اتباع ما لا يحق اتباعه، فالحق أحق أن يُتبع.
وقال -تعالى- منكرًا على أهل الكتاب: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (آل عمران:71): أي لمَ تكتمون ما في كتبكم مِن صفة محمد -صلى الله عليه وسلم- وأنتم تعلمون ذلك؟! ولمَ تخلطون الحق في كتبكم بما حرفتموه وكتبتموه من الباطل بأيديكم، وأنتم تعلمون ذلك؟!
وهل تأملنا قصة “هرقل” عظيم الروم؟!
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: فَأَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ أَنَّهُ كَانَ بِالشَّأْمِ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدِمُوا تِجَارًا فِي المُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبَيْنَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ، فَوَجَدَنَا رَسُولُ قَيْصَرَ بِبَعْضِ الشَّأْمِ، فَانْطُلِقَ بِي وَبِأَصْحَابِي، حَتَّى قَدِمْنَا إِيلِيَاءَ، فَأُدْخِلْنَا عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ فِي مَجْلِسِ مُلْكِهِ، وَعَلَيْهِ التَّاجُ، وَإِذَا حَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، فَقَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: سَلْهُمْ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ أَنَا أَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ نَسَبًا، قَالَ: مَا قَرَابَةُ مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ؟ فَقُلْتُ: هُوَ ابْنُ عَمِّي، وَلَيْسَ فِي الرَّكْبِ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ غَيْرِي. فَقَالَ قَيْصَرُ: أَدْنُوهُ، وَأَمَرَ بِأَصْحَابِي، فَجُعِلُوا خَلْفَ ظَهْرِي عِنْدَ كَتِفِي، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لأَصْحَابِهِ: إِنِّي سَائِلٌ هَذَا الرَّجُلَ عَنِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَإِنْ كَذَبَ فَكَذِّبُوهُ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَاللَّهِ لَوْلاَ الحَيَاءُ يَوْمَئِذٍ، مِنْ أَنْ يَأْثُرَ أَصْحَابِي عَنِّي الكَذِبَ، لَكَذَبْتُهُ حِينَ سَأَلَنِي عَنْهُ، وَلَكِنِّي اسْتَحْيَيْتُ أَنْ يَأْثُرُوا الكَذِبَ عَنِّي، فَصَدَقْتُهُ.
ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ كَيْفَ نَسَبُ هَذَا الرَّجُلِ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ، قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا القَوْلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لاَ، فَقَالَ: كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ عَلَى الكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ قُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، قَالَ: فَيَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ، قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لاَ، وَنَحْنُ الآنَ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ، نَحْنُ نَخَافُ أَنْ يَغْدِرَ -قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَلَمْ يُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا أَنْتَقِصُهُ بِهِ، لاَ أَخَافُ أَنْ تُؤْثَرَ عَنِّي غَيْرُهَا-، قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ أَوْ قَاتَلَكُمْ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَكَيْفَ كَانَتْ حَرْبُهُ وَحَرْبُكُمْ؟ قُلْتُ: كَانَتْ دُوَلاً وَسِجَالاً، يُدَالُ عَلَيْنَا المَرَّةَ، وَنُدَالُ عَلَيْهِ الأُخْرَى.
قَالَ: فَمَاذَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ؟ قَالَ: يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَانَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالعَفَافِ، وَالوَفَاءِ بِالعَهْدِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، فَقَالَ لِتَرْجُمَانِهِ حِينَ قُلْتُ ذَلِكَ لَهُ: قُلْ لَهُ: إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فِيكُمْ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ ذُو نَسَبٍ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا القَوْلَ قَبْلَهُ، فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَالَ هَذَا القَوْلَ قَبْلَهُ، قُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَمُّ بِقَوْلٍ قَدْ قِيلَ قَبْلَهُ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ، فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ، فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ، فَقُلْتُ لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ، قُلْتُ يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ، وَسَأَلْتُكَ: أَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ، فَزَعَمْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ، فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ، فَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تَخْلِطُ بَشَاشَتُهُ القُلُوبَ، لاَ يَسْخَطُهُ أَحَدٌ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ، فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ يَغْدِرُونَ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ وَقَاتَلَكُمْ، فَزَعَمْتَ أَنْ قَدْ فَعَلَ، وَأَنَّ حَرْبَكُمْ وَحَرْبَهُ تَكُونُ دُوَلاً، وَيُدَالُ عَلَيْكُمُ المَرَّةَ وَتُدَالُونَ عَلَيْهِ الأُخْرَى، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى وَتَكُونُ لَهَا العَاقِبَةُ، وَسَأَلْتُكَ: بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالعَفَافِ، وَالوَفَاءِ بِالعَهْدِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، قَالَ: وَهَذِهِ صِفَةُ النَّبِيِّ، قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، وَلَكِنْ لَمْ أَظُنَّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، وَإِنْ يَكُ مَا قُلْتَ حَقًّا، فَيُوشِكُ أَنْ يَمْلِكَ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ وَلَوْ أَرْجُو أَنْ أَخْلُصَ إِلَيْهِ، لَتَجَشَّمْتُ لُقِيَّهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ قَدَمَيْهِ!
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُرِئَ، فَإِذَا فِيهِ: “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ، فَعَلَيْكَ إِثْمُ الأَرِيسِيِّينَ وَ: (يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران:64)، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا أَنْ قَضَى مَقَالَتَهُ عَلَتْ أَصْوَاتُ الَّذِينَ حَوْلَهُ مِنْ عُظَمَاءِ الرُّومِ، وَكَثُرَ لَغَطُهُمْ فَلاَ أَدْرِي مَاذَا قَالُوا، وَأُمِرَ بِنَا فَأُخْرِجْنَا، فَلَمَّا أَنْ خَرَجْتُ مَعَ أَصْحَابِي وَخَلَوْتُ بِهِمْ قُلْتُ لَهُمْ: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، هَذَا مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ يَخَافُهُ! قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَاللَّهِ مَا زِلْتُ ذَلِيلاً مُسْتَيْقِنًا بِأَنَّ أَمْرَهُ سَيَظْهَرُ، حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ قَلْبِي الإِسْلاَمَ وَأَنَا كَارِهٌ” (رواه البخاري).
هل تأملنا قول “هرقل”: “وَهَذِهِ صِفَةُ النَّبِيِّ، قَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، وَلَكِنْ لَمْ أَظُنَّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، وَإِنْ يَكُ مَا قُلْتَ حَقًّا، فَيُوشِكُ أَنْ يَمْلِكَ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَلَوْ أَرْجُو أَنْ أَخْلُصَ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لُقِيَّهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ قَدَمَيْهِ”؟ فمن الواضح أنه همً أن يُسلِم لولا خوفه على الملك الفاني والكرسي الزائل؛ فلقد علم “هرقل” الحق ونطق به لسانه، لكنه لم يؤمن به -والعياذ بالله-.
وفي قصة أبي طالب المشهورة عن ابن المُسَيِّب عن أبيه: أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا حَضَرَتْهُ الوَفَاةُ دَخَلَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، فَقَالَ: (أَيْ عَمِّ، قُلْ لاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ، كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ)، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، تَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَلَمْ يَزَالاَ يُكَلِّمَانِهِ، حَتَّى قَالَ آخِرَ شَيْءٍ كَلَّمَهُمْ بِهِ: عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْهُ) فَنَزَلَتْ: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجَحِيمِ) (التوبة:113)، وَنَزَلَتْ: (إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (القصص:56) (رواه البخاري). فتأمل كيف للعصبية أن تكون سببًا في منع الإنسان مِن اتباع الحق وهو يعلمه ويوقن به؟!
وأبو طالب كان يدافع عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في أمر الدعوة إلى الله -تعالى-، وكان يقف حصنًا منيعًا أمام المشركين من أن يؤذوا ابن أخيه، وكان يعلم أنه على الحق؛ ولذا سيخفف الله عنه العذاب يوم القيامة بشفاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- له، فعن العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: (هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) (متفق عليه).
وفي قصة إبليس -عليه لعنة الله- ترى الإعراض عن طريق الحق؛ بسبب العجب والكبر -والعياذ بالله-، قال الله -تعالى-: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ . فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ . فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ . إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ . قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ . قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ . قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ . وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ . قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ . قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ . إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (ص:71-81).
وفي الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (خُلِقَتِ الْمَلائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ) (رواه مسلم)، أي: من الطين، فإبليس مخلوق من النار، والملائكة مخلوقة من النور، ولكن إبليس كان مطيعًا لله -تعالى- حتى صار كواحد من الملائكة كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صعد في رحلة المعراج إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، فلما قيل للملائكة: (اسْجُدُوا لآدَمَ) (الأعراف:11)، كان الأمر لإبليس أيضًا كواحد منهم، فرفض إبليس السجود لآدم -عليه السلام- واستكبر ونظر إلى شيء واحد، وهو أصل الخليقة ولم ينظر إلى عظمة مَن أمره بالسجود، وهو الله -تعالى- ثم قال: (قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (الأعراف:14).
فهو يعلم أن الله هو ربه، وأن العمر بيد الله وحده، وأن الله هو الذي يٌدعى، وهو يقر باليوم الآخر، ولكنه كفر بالله؛ لأن حقيقة الإيمان هي الطاعة والانقياد، وهكذا عَلِم إبليس الحق وكفر به وحاد عنه؛ لذا فيجب على مَن علم الحق أن يتبعه ولا يحيد عنه، ولو خالف هواه وأمانيه؛ فالحق أحق أن يُتبع، وقال عمر -رضي الله عنه-: “الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل”.
والرجوع إلى الحق صعب على المستكبرين حتى كأنه يتكلف في ذلك الصعود إلى السماء، والاعتراف بالحق مِن الفضائل، وهو مِن شيم الرجال، قال الخليل بن أحمد: “الرِّجَالُ أَرْبَعَةٌ: رَجُلٌ يَدْرِي وَلا يَدْرِي أَنَّهُ يَدْرِي؛ فَذَاكَ غَافِلٌ فَنَبِّهُوَهُ، وَرَجُلٌ لا يَدْرِي وَيَدْرِي أَنَّهُ لا يَدْرِي؛ فَذَاكَ جَاهِلٌ فَعَلِّمُوهُ، وَرَجُلٌ يَدْرِي وَيَدْرِي أَنَّهُ يَدْرِي؛ فَذَاكَ عَاقِلٌ فَاتَّبِعُوهُ، وَرَجُلٌ لا يَدْرِي وَلا يَدْرِي أَنَّهُ لا يَدْرِي؛ فَذَاكَ مَائِقٌ فَاحْذَرُوهُ”.
وفي قصة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- المشهورة أنه: “جِيءَ بِامْرَأَةٍ مِنْ جُهَيْنَةَ تَزَوَّجَتْ، فَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَبَعَثَ بِهَا عُثْمَانُ لِتُرْجَمَ، اعْتِقَادًا مِنْهُ أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلاً قَبْلَ الْعَقْدِ لِوِلادَتِهَا قَبْلَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا) (الأحقاف:15)، وَيَقُولُ -جَلَّ وَعَلا-: (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) (لقمان:14)، فَلَمْ يَبْقَ عَنِ الْفِصَالِ مِنَ الْمُدَّةِ إِلا سِتَّةُ أَشْهُرٍ. فَمَا عَبِدَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنْ بَعَثَ إِلَيْهَا لِتُرَدَّ وَلا تُرْجَمَ”.
ومحل الشاهد من القصة: قوله: “فَمَا عَبِدَ عُثْمَانُ”: أي ما أنِف ولا استنكف من الرجوع إلى الحق.
وهذا عبيد الله بن الحسن بن الحصين العنبري التميمي قاضي البصرة، ولي قضاء البصرة وكان محمودًا ثقة عاقلاً، قال الوثيق بن يوسف: “ما رأيتُ رجلاً قط أعقل من عبيد الله بن الحسن، سُئل عن مسألة وهو في حضور جنازة فأخطأ فيها، فقيل له: الحكم فيها كذا وكذا… فأطرق ساعة ثم قال: إذن أرجع وأنا صاغر؛ لأن أكون ذَنبًا في الحق أحب إليَّ مِن أن أكون رأسًا في الباطل!”.
وعن عمرو بن مهاجر قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: “إذا رأيتني قد ملتُ عن الحق فضع يدك في تلابيبي, ثم هزني, ثم قل لي: ماذا تصنع؟!”.
وقال القاضي ابن العربي في كتابه “أحكام القرآن”: “أخبرني محمد بن قاسم العثماني غير مرة، قال: وصلتُ الفُسطاطَ مرة، فجئتُ مجلس الشيخ أبي الفضل الجوهري, وحضَرتُ كلامه على الناس، فكان مما قال في أول مجلس جلستُ إليه: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- طلّق وظاهر وآلى! فلما خرج تَبِعْتُه حتى بلغتُ معه إلى منزله في جماعة فجلس معنا في الدِّهْلِيز وعرّفهم أمري فإنه رأى إشارة الغُربة ولم يَعرف الشخص قبل ذلك في الواردين عليه، فلما انفض عنه أكثرهم، قال لي: أراك غريبًا، هل لك من كلام؟ قلت: نعم، قال لجلسائه: أفرجوا له عن كلامه. فقاموا وبقيت وحدي معه، فقلت له: حضرتُ المجلس اليوم متبركًا بك، وسمعتك تقول: آلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصدقتَ, وطلّق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصدقتَ, وقلتَ: وظاهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا لم يكن! ولا يصح أن يكون؛ لأن الظّهار منكر من القول وزور, وذلك لا يجوز أن يقع من النبي -صلى الله عليه وسلم- فضمّني إلى نفسه وقَبَلَ رأسى وقال لي: أنا تائبٌ من ذلك جزاك الله عني من معلمٍ خيرًا.
ثم انقلبتُ عنه، وبكَّرت إلى مجلسه في اليوم الثاني، فألفيته قد سبقني إلى الجامع، وجلس على المنبر، فلما دخلتُ من باب الجامع ورآني؛ نادى بأعلى صوته: مرحبًا بمعلمي؛ أفسحوا لمعلمي! فتطاولت الأعناق إليَّ، وحدقت الأبصار نحوي، وتبادر الناسُ إليَّ يرفعونني على الأيدي، ويتدافعونني حتى بلغت المنبر، وأنا لعظيم الحياء لا أعرف في أي بقعة أنا من الأرض، والجامع غاصٌ بأهله، وأسال الحياء بدني عرقًا، وأقبل الشيخ على الخلق فقال لهم: أنا معلمكم وهذا معلمي! لمَّا كان بالأمس قلت لكم: آلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وطلّق وظاهر؛ فما أحدٌ منكم فَقُهَ عني ولا ردَّ عليَّ ، فاتبعني إلى منزلي وقال لي: كذا وكذا، وأعاد ما جرى بيني وبينه، وأنا تائب عن قولي بالأمس، راجعٌ عنه إلى الحقّ، فمن سمعه ممن حضر فلا يعوِّل عليه، ومن غاب فليبلغه من حضر، فجزاه الله خيرًا, وجعل يحفل في الدّعاء والخلق يؤمِّنون!”.
قال ابن العربي -رحمه الله- معلـِّقًا: “فانظروا -رحمكم الله- إلى هذا الدِّين المتين، والاعتراف بالعلم لأهله على رؤوس الملأ من رجلٍ ظهرت رياسته، واشتهرت نفاسته، لغريبٍ مجهول العين لا يُعرف مَنْ؟ ولا مِنْ أين؟ فاقتدوا به ترشدوا”.
فهكذا كان السلف، وهكذا يجب أن نكون.
والله المستعان.