الالتزام بين الحقيقة والخيال(1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فاعلم أخي المسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نصره الله -تعالى- بفضله ثم بصحابة كانوا قرآنـًا يمشي على الأرض، فكانوا يأكلون الطعام ويمشون بالأسواق، لكن صار كل فرد منهم أنموذجًا مجسمًا للإسلام، ويراه الناس فيرون الإسلام، فإن الناس لا تتأثر بالنصوص وحدها حتى ترى سلوكًا عمليًّا يحيا على الأرض، فإن للمسلم سمات معينة لا بد له أن يتحلى بها، وعلى وجه الخصوص “أهل الالتزام”.
يقول الأستاذ سيد قطب -رحمه الله-: “إن النصوص وحدها لا تصنع شيئًا، وإن المبادئ وحدها لا تعيش إلا أن تكون سلوكًا، ومِن ثََمَّ جعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- هدفه الأول أن يصنع رجالاً لا أن يلقي مواعظ، وأن يصوغ ضمائر لا أن يدبج خطبًا، وأن يبني أمة لا أن يقيم فلسفة، أما الفكرة ذاتها فقد تكفل بها القرآن، وكان عمل الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يُحَوِّل الفكرة المجردة إلى رجال تلمسهم الأيدي، وتراهم العيون.
لقد انتصر الرسول -صلى الله عليه وسلم- يوم أن صاغ مِن الإسلام شخوصًا، وحوَّل إيمانهم بالإسلام عملاً، وطبع من المصحف عشراتٍ من النسخ ثم مئات وألوفًا؛ ولكن لم يطبعها بالمداد على صحائف الورق، وإنما طبعها بالنور على صحائف من القلوب، وأطلقها تعامل الناس وتأخذ منهم وتعطي، وتقول بالفعل والعمل؛ هذا هو الإسلام الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-” اهـ.
إننا نعاني مِن بعض الآفات التي انتشرت بين بعض الملتزمين والملتزمات، ومِن أخطر هذه الآفات على الإطلاق: “الانفصام في الالتزام”، فحدث هذا التناقض العجيب في شخص واحد، وأصبحنا نرى تناقضًا واضحًا بين الشعائر التعبدية وبين السلوك والأخلاق، فإن كثيرًا منا إذا التزم وقف بالتزامه عند دائرة معينة لم يتعدَّاها، وغالبًا تكون دائرة الهيئة والشكل وأداء بعض العبادات، وهذه أمور بلا شك مِن الالتزام بالشرع، ولكنها لا تكفي وحدها.
فإياك أن تظن أن الالتزام ينحصر في القميص والسواك واللحية… ! لا، بل لا بد أن يكون مفهومنا عن الالتزام أعمق من ذلك، وأن نأخذ الدين كله بشموله وكماله؛ فلن ينتصر المسلمون بهذا الالتزام الأجوف، وبأعمال ظاهرها الصلاح وباطنها الفساد، لا بد أن نرى الالتزام في العقيدة والإيمان، وفي العبادة والأعمال، وفي المعاملات والسلوك والأخلاق، وفي الدعوة إلى الله.
فلا بد للملتزم أن يتغير مِن داخله حتى يكون كالمصباح يُضيء لمن حوله.
لا بد مِن وجود العلم والعمل والسلوك، والدعوة في حياة الملتزمين، قال الله -تعالى-: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النور:35).
(اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ): وهذا هو النور الحسي والمعنوي؛ لأن الله -تعالى- بذاته نور، وحجابه نور كذلك، ولولا لطفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه، وبهذا النور استنار الكون كله، السموات والأرض وما بينهما، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول إذا قام من الليل يتهجد: (اللَّهُمَّ لَكَ الحَمْدُ، أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم- وقد سئل: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ: (رَأَيْتُ نُورًا) (رواه مسلم)، إلى غير ذلك من الأحاديث.
وكذلك النور المعنوي يرجع إلى الله -تعالى-: فكتابه -عز وجل- نور، وشرعه نور، والإيمان به نور، والمعرفة في قلوب رسله وعباده المؤمنين نور؛ فلولا نوره -تعالى- لتراكمت الظلمات.
(مَثَلُ نُورِهِ): الذي يهدي إليه، وهو نور الإيمان والقرآن في قلوب المؤمنين (كَمِشْكَاةٍ): أي: كوة (فِيهَا مِصْبَاحٌ): والكوة تجمع نور المصباح بداخلها بحيث لا يتفرق، (الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ): والزُّجَاجَةُ من صفائها وبهائها (كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ) أي: مضيء إضاءة الدر، (يُوقَدُ) ذلك المصباح الذي في تلك الزجاجة الدرية (مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ) أي: يوقد من زيت الزيتون الذي ناره من أنور ما يكون، (لا شَرْقِيَّةٍ) فقط (وَلا غَرْبِيَّةٍ) فقط، بل تصيبها الشمس أول النهار وآخره، فتحسن وتطيب، ويكون أصفى لزيتها؛ ولهذا قال: (يَكَادُ زَيْتُهَا) مِن صفائه (يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ)؛ فإذا مسته النار أضاء إضاءة بليغة، (نُورٌ عَلَى نُورٍ) أي: نور النار، ونور الزيت، وهكذا نور الإيمان في قلب العبد المؤمن، ونور الله في قلبه، أن فطرته التي فٌطر عليها بمنزلة الزيت الصافي، ففطرته صافية، مستعدة للتعاليم الإلهية، والعمل والعبادة، فإذا وصل إليه العلم والإيمان، اشتعل ذلك النور في قلبه بمنزلة اشتعال النار في فتيلة ذلك المصباح، وهو صافي القلب من أي خلل في نيته، فلا بد للمسلم الملتزم أن يتغير من داخله حتى يكون كالمصباح يُضيء لمن حوله، لا بد من وجود العلم والعمل، والسلوك والدعوة في حياة الملتزمين، فلن نستطيع أن نضيء لمن حولنا إلا إذا وُجد بداخلنا النور الذي ينير قلوبنا أولاً.
ومِن السلبيات والأخطاء “عدم الفهم الصحيح لكيفية طلب العلم”: فنحن نجد خللاً كبيرًا في أنواع العلوم التي يَهتم بها بعض الإخوة، فربما ترى مَن حفظ القرآن الكريم كاملاً ويدرس في علم القراءات وما تعلم شيئًا من التوحيد والعقيدة، وما تعلم شيئًا مِن الفقه الواجب عليه ككيفية الصلاة، ونحو ذلك!
وهناك مَن تجده اهتم بعلم المصطلح، والتصحيح والتضعيف، وما تعلم التوحيد الواجب عليه وعلى كل مسلم! وهذا العلم خيرٌ بلا شك، ولكن غيره أهم منه، بل وتعظم المصيبة عندما ترى أحد الإخوة قد التزم منذ عدة سنوات وهو لم ينتهِ من دراسة ولو كتابًا واحدًا في كل فن مِن الفنون؛ ككتاب في التوحيد، وآخر في السيرة، وآخر في الفقه، وآخر في المصطلح مثلاً، ونحو ذلك، بل يقضي السنوات في حياته يتنقل ما بين هذا المسجد والمسجد الآخر، ما بين هذا الشيخ والشيخ الآخر، دون أن تكون له منهجية في طلب العلم، فربما أدى ذلك إلى خلل كبير في العبادات والمعاملات؛ نظرًا لعدم التعلم والاجتهاد في طلب العلم.
فلابد أن نتعلم ما يلزمنا ونحتاج إليه -على الأقل-، وهي العلوم المقصودة لذاتها، وهي التي يلزم كل مسلم ومسلمة تعلمها من الإسلام والإيمان والإحسان، وأعمال القلوب الواجبة: كالإخلاص، والصدق، والخوف، والرجاء، ونحو ذلك، فلا بد أن تكون هناك جدية في الالتزام بطلب العلم الشرعي.
ولكي نقف على حجم الخلل نطرح سؤالاً: كم من الكتب درسنا في المرحلة الابتدائية ثم الإعدادية ثم الثانوية وربما الجامعة؟! ثم كم مِن الكتب الشرعية درسنا وأنهينا دراستها؟!
فهذا التخبط الذي يُلاحظ الآن عند بعض الإخوة لا بد أن يعالَج بمنهج علمي منضبط في طلب العلم، وخصوصًا الإخوة الذين يطلبون العلم ثم يتصدرون للخطابة والمواعظ في المساجد، فيستحيل أن يُضيء المصباح بدون الفتيلة والوقود، يستحيل أن ينبت الزرع بدون الري؛ فلا بد مِن معالجة هذه الآفة “ننصح بقراءة رسالة منهج الدعوة الإسلامية للعوام والدعاة والمدرسين لفضيلة الشيخ الدكتور/ محمد إسماعيل المقدم حفظه الله، وهي من مطبوعات المدرسة السلفية (1397 هـ – 1977م)”، وهناك أصول علمية لدعوتنا المباركة لا بد من اتباعها ومعرفتها، مع ما يلزم لكل مسلم مِن القرآن ما بين الحفظ والتلاوة، والتدبر والتفسير، ونحو ذلك، بل ولا بد من علو الهمة في طلب العلم.
وهذا ما نستكمله في المقال القادم -بإذن الله تعالى-.