(فَسَقَى لهما) .. كانت هي البداية!
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قال الله -تعالى- في سورة القصص حاكيًا عن نبيه موسى -عليه السلام-: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ . فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ . فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ . قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ . قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) (القصص:23-28).
هل تأملنا هذه الآيات… ؟! انظروا كيف يقرر القرآن العظيم ويؤكد أن الإحسان إلى الناس دون انتظار المقابل منهم هو أمر جلل، يكشف الله به الكربات!
فموسى -عليه السلام- خرج من مصر وحده، ولم يألف ذلك مِن قبل، بل كان يعيش في رفاهية ورئاسة، خرج وهو لا يدري أين يتوجه؟ ولا إلى أين يذهب؟ وذلك لأنه لم يخرج من مصر قبلها.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: “سار من مصر إلى مدين لم يأكل إلا البقل وورق الشجر، وكان حافيًا، سقطت نعلا قدميه، وجلس في الظل وهو صفوة الله من خلقه، وإن بطنه للاصق بظهره من الجوع، وأنه لمحتاج إلى شق تمرة!”.
ولما ورد الماء المذكور “ماء مدين”: (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ): أي تحبسان غنمهما حتى يفرغ الناس ويخلو لهما البئر. (قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ): أي لا نقدر على ورود الماء إلا بعد صدور الرعاء؛ لضعفنا، وسبب مباشرتنا هذه الرعية ضعف أبينا وكبره.
قال الله -تعالى-: (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) فذهبتا إلى أبيهما، فيقال إنه استنكر سرعة رجوعهما، فأخبرتاه بما كان من أمر موسى -عليه السلام-؛ فأمر إحداهما أن تذهب إليه فتدعوه (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) وأخبره خبره، وما كان من أمره في خروجه من بلاد مصر فرارًا من فرعون فقال له: (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي خرجت من سلطانهم فلستَ في دولتهم.
فعند ذلك قالت إحدى البنتين لأبيها: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ): أي لرعي غنمك، ثم مدحته بأنه قوي أمين (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ)، ثم كان ما كان مِن أمر الزواج إلى نهاية ما نعلمه جميعًا من قصة موسى -عليه السلام-.
وأود أن أطرح عدة أسئلة حول هذا الموقف:
1- ماذا لو لم يسقِ موسى -عليه السلام- لهما؟
2- هل طلب موسى -عليه السلام- منهما أجرًا وهو في غاية الاحتياج؟!
3- كم مِن رجل مر على الفتاتين ولم يلقِ لهما بالاً، ولم يفكر في أن يساعدهما؟
4- هل كان موسى -عليه السلام- ينتظر أجرًا منهما؟
5- هل كان موسى -عليه السلام- يتوقع ما حدث بعد ذلك؟
6- هل تردد موسى -عليه السلام- في مساعدة الفتاتين؟
7- هل حال همه وحزنه وما هو فيه مِن تعب وكرب دون مساعدة الفتاتين؟
8- ماذا لو أن أحدنا في موقف موسى -عليه السلام-؟ ماذا كان سيفعل؟
ديننا جعل نفع الناس والإحسانَ إليهم عبادة عظيمة؛ فالله -سبحانه- أمر بالإحسان في آياتٍ كثيرة، وأخبر أنه يحب المحسنين، وأنه مع المحسنين، وأنه يجزي المحسن بالإحسان، وأنه يجزي المحسنين بالحُسنى وزيادة، وأنه لا يضيع أجر المحسنين، ولا يضيع أجر من أحسن عملاً، وورد ذكر الإحسان في مواضع كثيرة من القرآن الكريم؛ تارة مقرونًا بالإيمان، وتارة مقرونًا بالتقوى أو بالعمل الصالح، كل ذلك مما يدل على فضل الإحسان وعظيم ثوابه عند الله -تعالى-.
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ تَكَشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ -يَعْنِي مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ- شَهْرًا، وَمَنَ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ مَلأَ اللهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يَتَهَيَّأَ لَهُ أَثْبَتَ اللهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الأَقْدَامِ، وَإِنَّ سُوءَ الْخُلُقِ لَيُفْسِدُ الْعَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ الْخَلُّ الْعَسَلَ) (رواه الطبراني في الكبير وابن أبي الدنيا في قضاء الحوائج، وحسنه الألباني).
إن أول المستفيدين في الحقيقة من الإحسان هم المحسنون أنفسهم، يجنون ثمراته عاجلاً في نفوسهم وأخلاقهم وضمائرهم؛ فيجدون الانشراح والسكينة والطمأنينة، ويجدون أجرهم عند الله يوم القيامة.
وخديجة -رضي الله عنها- تقول في وصف نبينا -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ” (متفق عليه).
نعم (فَسَقَى لَهُمَا) كانت هي البداية.
فهيا بنا نبدأ…
هل جزاء الإحسان إلا الإحسان.