الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد وقفتُ على كلام خطير لبعض من ينتسبون إلى أهل العلم، ولا أدري كيف تطاول أصحابه وتجاسروا على التفوه به، ومفاد كلامهم التسوية بين الإسلام وغيره من الأديان!، حتى صرح أحدهم بأن من التطرف تكفير اليهود والنصارى!، وقال آخر: بأنه لا يوجد مسيحي كافر!، وقال آخر: إن كل من اعتنق أي دين من الأديان فهو مؤمن وسيدخل الجنة، وأن النصارى ليسوا بكفار؛ لأنهم يؤمنون بعيسى -عليه السلام-، بل قال -عياذًا بالله-: “أبله من قال: إن المسلمين فقط سيدخلون الجنة!”.
وهؤلاء الدعاة هم في الحقيقة دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم قذفوه فيها.
ولا شك أن هذه الكلمات والعبارات تنم عن خلل عقدي، وعن الحالة المتردية التي وصل إليها مجتمعنا، إذ صار يُتاح لكل من شاء أن يتكلم بما شاء، حتى ولو كان كلامه يخالف صريح الكتاب والسنة وما أجمعت عليه الأمة -وحسبنا الله ونعم الوكيل-!
وهذا الكلام الذي يردده هؤلاء لا شك في فساده وبطلانه، وهو من القول على الله بغير علم، بل هو ضلال، وكذب على الله ورسوله، قال الله -تعالى-: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف:33).
فيحرم على المتكلم أن يقول على الله بغير علم حتى ولو كان من أعلم العلماء؛ لأنه بمثابة من يوقِّع عن الله -عز وجل-.
وهذه المسألة التي تحدث عنها من سبق ذكرهم، لا أدري من أين جاءوا بها؟! فإن أدلة القرآن والسنة مستفيضة، و متواترة في بيان بطلان ما يدعونه.
أولاً:قال الله -تعالى-: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (آل عمران:19)، وقال -تعالى-: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85)، فدلت الآيتان على أن الدين عند الله هو الإسلام فقط، وغيره مردود وباطل.
ثانيًا:قال الله -تعالى-: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الحديد:21)، فقد دلت الآية على أن الجنة أعدت للمؤمنين الذين آمنوا بالله ورسله، أما اليهود والنصارى فهم لا يؤمنون بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، ومن المعلوم أن مَن آمن بجميع الرسل ثم كذب بمحمد -عليه الصلاة والسلام- فقد كذب بالرسل جميعًا؛ لأن الله -تعالى- قال: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ . إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ . إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ . فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ . وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ . فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) (الشعراء:105-110).
وهذا إخبار من الله -عز وجل- عن عبده ورسوله نوح -عليه السلام-، وهو أول رسول بعث إلى الأرض بعد ما عُبدت الأصنام والأنداد، بعثه الله ناهيًا عن ذلك ومحذرًا من وبيل عقابه، فكذبه قومه واستمروا على ما هم عليه من الفعال الخبيثة في عبادتهم لأصنامهم، وكان تكذيبهم له بمنزلة تكذيب جميع الرسل; ولهذا قال -تعالى-: (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ . إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ) أي: ألا تخافون الله في عبادتكم غيره؟!
وقال عن قوم هود -عليه السلام-: (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ) (الشعراء:123)، مع أنهم لم يكذبوا إلا هودًا -عليه السلام-، ولكن الله قال: (الْمُرْسَلِينَ)، فدل ذلك على أن من كفر برسول واحد فقد كفر بجميع الرسل، ومن أدرك محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وكان يؤمن برسول آخر كموسى وعيسى -عليهما السلام- وجب عليه أن يؤمن بمحمد -عليه الصلاة والسلام-، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أرسله الله إلى الناس جميعًا؛ الأسود والأبيض والأحمر، والعربي والعجمي، وهذا من شرفه وفضله فهو خاتم النبيين، قال الله -تعالى-: (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) (الأعراف:158)، وقال -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (سبأ:28)، فلا يقبل الله من أحد صرفًا ولا عدلاً إلا بالإيمان بمحمد -عليه الصلاة والسلام- بعد أن بلغته رسالته.
وفى الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً)، بل الأنبياء أنفسهم لا يسعهم إلا أن يؤمنوا بمحمد -عليه الصلاة والسلام-، قال الله -تعالى-: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ . فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ . أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (آل عمران:81-83).
وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلا أَنْ يَتَّبِعَنِي) (رواه احمد، وحسنه الألباني)؛ ولذا فنحن نؤمن بجميع الرسل ولا نفرق بين أحد من رسله، قال -تعالى-: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (البقرة:285).
فاليهود قالوا في العزير إنه ابن الله -تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا-، وأما ضلال النصارى في المسيح فظاهر؛ ولهذا كذب الله -سبحانه- الطائفتين فقال: (ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ) أي: لا مستند لهم فيما ادعوه سوى افترائهم واختلاقهم (يُضَاهِئُونَ) أي: يشابهون (قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) أي: من قبلهم من الأمم، ضلوا كما ضل هؤلاء، (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ)قال ابن عباس: لعنهم الله، (أَنَّى يُؤْفَكُونَ)؟ أي : كيف يضلون عن الحق وهو ظاهر، ويعدلون إلى الباطل.
لما قرر -تعالى- في هذه السورة الشريفة عبودية عيسى -عليه السلام-، وذكر خلقه من مريم بلا أب، شرع في مقام الإنكار على من زعم أن له ولدًا -تقدس وتنزه وتعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا- فقال: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا . لَقَدْ جِئْتُمْ… ) أي: في قولكم هذا، (شَيْئًا إِدًّا) قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، ومالك: أي :عظيمًا.
فكيف يقول عاقل بأن مَن نسب إلى الله الولد فإنه مِن المؤمنين وسيدخل الجنة؟!
سادسًا: عن أبي بن كعب -رضي الله عنه-:أَنَّ المُشْرِكِينَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ) (رواه أحمد والترمذي، وحسنه الألباني).
وقال عكرمة: لما قالت اليهود: نحن نعبد عزيرًا ابن الله، وقالت النصارى: نحن نعبد المسيح ابن الله، وقالت المجوس: نحن نعبد الشمس والقمر، وقال المشركون: نحن نعبد الأوثان -أنزل الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) يعني: هو الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير، ولا نديد ولا شبيه ولا عديل، ولا يطلق هذا اللفظ على أحد في الإثبات إلا على الله -عز وجل-; لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله.
وقوله: (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) أي: ليس له ولد ولا والد ولا صاحبة، قال مجاهد: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) يعني: لا صاحبة له.
سابعًا: ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ)، فاتباع النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- فرض عين على كل مكلف من الإنس والجن إلى يوم القيامة ما دام قد بلغته الرسالة.
ثامنًا:عن أنس -رضي الله عنه- قال: كَانَ غُلامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَرِضَ فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعُودُهُ فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ: (أَسْلِمْ). فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ وَهُوَ عِنْدَهُ فَقَالَ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ، فَأَسْلَمَ. فَخَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَقُولُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ) (رواه البخاري). فدل الحديث على أن الغلام لو مات على غير الإسلام لكان من أصحاب النار.
عاشرًا: كان عبد الله بن جدعان التيمي القرشي، أحد الأجواد المشهورين في الجاهلية، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وكانت له جفنة يأكل منها الطعام القائم والراكب، فعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن جدعان فقالت:(قلت: يا رسول الله! ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه؟ قال: لا؛ إنه لم يقل يوماً: رب! اغفر لي خطيئتي يوم الدين. (رواه مسلم). وكان كذلك أيضًا حات الطائي فعن عدي بن حاتم قال قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أبي كان يصل الرحم ويفعل ويفعل فهل له في ذلك – يعني : من أجر – ؟ قال : ” إن أباك طلب شيئاً فأصابه “.(رواه أحمد وحسَّنه الشيخ شعيب الأرناؤط) وعن عدي بن حاتم قال : قلت : ” يا رسول الله إن أبي كان يصل الرحم ، وكان يفعل ويفعل ، قال : إن أباك أراد أمراً فأدركه – يعني : أن يذكره الناس. (رواه أحمد ، وحسَّنه الشيخ شعيب الأرناؤط ، وصححه ابن حبان) .
فبعد هذه الأدلة المختصرة كيف لعاقل أن يقول إن كل من آمن برسول من الرسل أو بدين من الأديان فهو من أهل الجنة! أو يقول: إن كل من نفع البشرية بعلم من العلوم سيدخل الجنة حتى لو مات على غير دين الإسلام، وأن اليهود والنصارى سيدخلون الجنة لو ماتوا على ما هم عليه لأنهم يؤمنون بالله وبرسلهم! إذ من المعلوم بالأدلة -كما ذكرنا- أنه بعد بعثة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- لا يسع أحد إلا أن يؤمن به؛ فمن لم يؤمن به فهو كافر.
ومن اعتقد أن أحدًا يسعه الخروج عن شريعة محمد -عليه الصلاة والسلام- فهو كافر، ومن اعتقد أن اليهود والنصارى لا يلزمهم اتباع محمد فهو كافر، بل حتى عيسى -عليه السلام- ينزل في آخر الزمان ويحكم بشريعة محمد -عليه الصلاة والسلام- كما ثبت ذلك في صحيح مسلم، ولقد ظل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مكة المكرمة ثلاثة عشر عامًا يؤصل العقيدة في قلوب الصحابة ويربيهم على التوحيد الخالص، فالإسلام عقيدة تنبثق منها شريعة، وهذه الشريعة هي التي تنظم شئون الحياة، ولن يقبل الله من قوم شريعتهم إلا إذا صحت عقيدتهم.
فينبغي على كل عاقل أن يعود إلى الحق، وأن يعرف الحق ويتعلمه، قال الله -عز وجل-: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ) (محمد:19)، وهذا العلم الذي أمر الله به هو العلم بتوحيد الله -عز وجل-.