القول الفصل حول “حضور القداس” وفتاوى العصر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا) (الأحزاب:70)، فالله أسأل أن يسدد ألسنتنا، وأن يلهمنا رشدنا، وأن يغفر لنا زلاتنا، اللهم آمين.
يعلم ربي أنني لم أكتب هذه السطور اليسيرة إلا ابتغاء وجهه، فهو المطلع على خفايا الأمور، وما تخفي الصدور، ولم أرد أن أقدح أو أجرح في جماعة بعينها أو في حزب بعينه، أو أن أنتصر لجماعة أو لحزب، فوالله ما أردت إلا الحق، فالحق أحق أن يتبع، وقد سمعنا في الأيام القليلة الماضية مَن ينادي ويفتي بوجوب تهنئة النصارى في أعيادهم، ومَن ينادي بحضور “قداس النصارى” في الكنائس، وأن هذا مِن الإحسان والبر الذي أَمرنا الله به نحوهم، ويخطِّئ مَن قال بخلاف ذلك!
وأنا أقول: إنه مِن المعضلات توضيح الواضحات، لا سيما في وقت الفتن، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ بَلاءٌ وَفِتْنَةٌ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).
فالفتن واقعة لا محالة كونًا وقدرًا، وإذا وقعت لا يثبت فيها إلا مَن عصمه الله ووفقه للثبات، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ) يكررها -صلى الله عليه وسلم-. (رواه أبو داود، وصححه الألباني).
وقد شبَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- الفتن بقطع الليل المظلم، الذي لا قمر فيه ولا ضياء، فالساري فيه على شفا هلكة إن لم يكن معه نور يبصر به مواقع قدمه، والاختلاف كذلك واقع لا محالة، قال -تعالى-: (وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) (هود:118-119).
وقال رسول الله -صلى الله علية وسلم-: (فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ) (رواه أحمد أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).
وأنا أود أن أشير إلى أن مَن يقول وينادي بتهنئة النصارى وحضور قداسهم لم يحسن تحرير المسألة، ولم يحسن كذلك إسقاط الدليل في موضعه، فحججهم بادية الضعف، ويمكن الرد عليها بسهولة ويسر، وهذا ما سنوضحه في الأسطر التالية.
وأنا أنصح القارئ الكريم أن يخلص النية لله -تعالى-، ولا يتعصب إلا للحق:
أولاً: قال الله -تعالى-: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) (النساء:140)؛ فكيف يجلس المسلم الموحد بالله في مكان يُكفر فيه بالله، ويُقال فيه أن الله -تعالى- له ولد، وأنه صلب ومات يوم الخميس، ثم قام يوم الأحد ليجلس على يمين الرب أبيه؟!
كيف تهنئه على قوله: إن عيسى -عليه السلام- صلب، والله يقول: (وَمَا صَلَبُوهُ) (النساء:157)؟!
كيف تهنئه على قوله: إن عيسى -عليه السلام- قُتل، والله يقول: (وَمَا قَتَلُوهُ)؟!
فما هو الرد على هذه الآية الكريمة المحكمة؟!
ثانيًا: قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) (الفرقان:72)، قال مجاهد: أي أعياد المشركين، وقال عكرمة: هو لعب كان لهم في الجاهلية. وقال الضحاك: هو كلام الشرك.
والسؤال: إذا كان الله قد مدح ترك شهودها الذي هو مجرد الحضور برؤية أو سماع؛ فكيف بالموافقة بما يزيد على ذلك من العمل، لا مجرد الشهود فقط؟!
ثالثًا: عن أنس -رضي الله عنه- قال: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا، فَقَالَ: (مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ؟) قَالُوا: كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا: يَوْمَ الأَضْحَى، وَيَوْمَ الْفِطْرِ) (رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني)، ووجه الدلالة أن اليومين الجاهليين لم يقرهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا تركهم يلعبون فيهما على العادة، والإبدال من الشيء يقتضي ترك المبدل منه؛ فما ردهم على هذا الحديث الصحيح؟!
رابعًا: عن عطاء بن دينار أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: “وَلا تَدْخُلُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي كَنَائِسِهِمْ يَوْمَ عِيدِهِمْ، فَإِنَّ السَّخْطَةَ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ” (أخرجه البيهقي، وصحح إسناده شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وابن مفلح).
فعمر -رضي الله عنه- نهى عن دخول كنائسهم يوم العيد. ومَن هو عمر؟ هو أحد الخلفاء الأربعة الذين أمرنا رسول الله باتباعهم في قوله: (فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ)، فما ردهم على كلام أمير المؤمنين عمر؟!
خامسًا: عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (قَالَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ: إِيَّايَ فَزَعَمَ أَنِّي لاَ أَقْدِرُ أَنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ: فَقَوْلُهُ: لِي وَلَدٌ، فَسُبْحَانِي أَنْ أَتَّخِذَ صَاحِبَةً أَوْ وَلَدًا) (رواه البخاري)، فكيف يجلس المؤمن في مكان يُسب فيه الله وهو لا ينكر، بل يجلس بإرادته، ويبارك لهم ويهنئهم على ذلك الضلال؟!سادسًا: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للرجل الذي نذر أن يذبح إبلاً ببوانة، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (هَلْ كَانَ فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟). قَالُوا: لا، قَالَ: (هَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟). قَالُوا: لا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَوْفِ بِنَذْرِكَ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني). -بوانة: موضع قريب من مكة- والشاهد أن وقت السؤال لم يكن العيد موجودًا، فكيف بالمشاركة في العيد نفسه؟!
سابعًا: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، فالمسلم يتشبه بالرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكذا بصحابته -رضوان الله عليهم- وبما عليه جماعة المؤمنين، أما التشبه بالكفار فمن أخطر الأمور على دين المسلم، وقد أمرنا أن نخالفهم حتى في الطاعات والعبادات، كما سنَّ لنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- صوم تاسوعاء مع عاشوراء مِن أجل المخالفة، وكذا تعجيل الفطر والمغرب وتأخير السحور وغير ذلك؛ فكيف نؤمر بمخالفتهم ونحن نجلس معهم في كنائسهم في قداسهم؟!
ثامنًا: أن الأعياد مِن جملة الشرع والمناهج والمناسك، قال -تعالى-: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) (المائدة:48)، فلا فرق بين المشاركة في المنهج والمشاركة في العيد، والأعياد ترتبط -دائمًا- بالعقائد والأديان، فعيد الفطر يأتي بعد طاعة الصيام، وعيد الأضحى يكون في أيام الحج، وهكذا عند غيرنا، أعيادهم تختص وترتبط بعقائدهم.
تاسعًا: قد نُقل لنا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما فعله مع غير المسلمين مِن الأمور المباحة: كالبيع والشراء، والمؤاجرة، وقبول الهدية منهم والإهداء لهم، وعيادة مريضهم، والأكل من طعامهم، والتصدق عليهم عند المصلحة، ونحو ذلك، ولو أنه هنأهم في أعيادهم؛ لنقل ذلك إلينا أيضًا.
عاشرًا: “الإجماع”: لم يُنقل عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا عن صحابته، ولا عن التابعين، ولم يكن على عهد السلف مِن المسلمين مَن يشركهم في شيء من ذلك، ولولا قيام المانع في نفوس الأمة كراهة ونهيًا من ذلك؛ لوقع ذلك كثيرًا، والمانع هنا هو الدين، ومن الشروط التي وضعها أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه-، واتفقت عليها الصحابة وسائر الفقهاء بعدهم، أن أهل الذمة مِن أهل الكتاب لا يُظهرون أعيادهم في دار الإسلام، فإذا كان المسلمون قد اتفقوا على منعهم من إظهارها؛ فكيف يسوغ للمسلمين فعلها والمشاركة فيها؟!
أليس هذا من العجب العجاب؟!
وقد نقل شيخ الإسلام “ابن تيمية” -رحمه الله- في كتابه: “اقتضاء الصراط المستقيم” الإجماع على تحريم المشاركة في أعياد المشركين، وكذا العلامة “ابن القيم” -رحمه الله- في كتابه: “أحكام أهل الذمة”، وقد قال بالتحريم كذلك فضيلة الشيخ “عطية صقر” -رحمه الله- رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقًا.
وأخيرًا: الرد على ما استدلوا به:
اعلم أيها القارئ الكريم أن غاية ما استدلوا به آية في كتاب الله ليس لها علاقة بأمر المشاركة أو التهنئة، وهي قول الله -تعالى-: (لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8).
فقالوا: إن الآية تأمرنا بالحب والمودة!
وأنا أقول: هذا كلام باطل، ومِن التأويل الفاسد المذموم لكتاب الله -تعالى-.
فلا مداهنة في دين الله -تعالى-، نحن أَمَرنا الله أن نعاملهم بالبر والإحسان والمعروف، نعم، لكنه في نفس الوقت أَمَرنا بعدم الحب والمودة.
قال ابن حجر -رحمه الله-: “البر والصلة والإحسان لا يستلزم التحابب والتواد المنهي عنه في قوله -تعالى-: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَه) (المجادلة:22)”.
فالمعاملة الحسنة، والإطعام، والكسوة، ونحو ذلك هو مِن الإحسان والبر، والإقساط -العدل-، أما المشاركة في الأعياد؛ فليس هذا مِن البر، بل هو من الموالاة والمتابعة التي نهى الله عنها.
وأنا والله عجبتُ مِن بعض مَن ينتسبون للإسلام أو التيار الإسلامي، وهو يقول: إننا لا بد أن نحبهم؛ لأن الله أمرنا بذلك، ثم يستدل بالآية السابقة، وهو لا يفرق بين آية الممتحنة، وآية سورة المجادلة.
ولقد قرأت تفسير الآيتين -آية المجادلة، وآية الممتحنة- وكذا تفسير قوله -تعالى-: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا) (لقمان:15)، في كتب التفسير التالية: “الطبري – ابن أبي حاتم – الوسيط للواحدي – البغوي – القرطبي – ابن كثير – فتح القدير للشوكاني – أضواء البيان – السعدي – الشعراوي”، فما وجدت أحدًا منهم يفسر البر والإحسان بالحب والمودة؛ فمن أين أتى هؤلاء بهذا التفسير الغريب؟!
ولقد أعجبني تفسير “الشيخ الشعراوي” -رحمه الله- حيث قال: “لم يفطن هؤلاء إلى أن هناك فارقًا بين الود والمعروف، فالود هو عمل القلب فأنت تحب بقلبك، ولكن المعروف ليس مِن عمل القلب؛ لأنك قد تصنع معروفًا في إنسان لا تعرفه، وقد تصنع معروفًا في عدوك حين تجده في مأزق، لكنك لا تحبه ولا توده، فأنت تصنع المعروف فيمن تحب ومن لا تحب، ولكنك لا تود إلا من تحب”.
فلا أدري كيف استدل هؤلاء بآية سورة الممتحنة على وجوب الحب والمودة، والتهنئة، والمشاركة في الأعياد، ولم ينقل ذلك أبدًا عن أحد مِن المفسرين وأهل العلم المخلصين؟! فالله أسأل أن يعود هؤلاء إلى دينهم وأقوال علمائنا القدامى في مثل هذه المسائل الكبيرة المرتبطة بعقيدتنا، وأن يتوبوا إلى الله مِن القول عليه بغير علم ولا دليل.
ومِن أدلتهم -أيضًا-: أن الله -تعالى- أحل الزواج مِن الكتابية.
والجواب: نعم أحل الله الزواج من الكتابية في قوله -تعالى-: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (المائدة:5)، ولكن هل علم هؤلاء أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يكره ذلك، وعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- كان لا يرى التزوج مِن النصرانية، ويقول: لا أعلم شركًا أعظم مِن أن تقول: إن ربها عيسى!
وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ) (متفق عليه)، إذن فالحكم الجواز، والأولى الزواج بالمسلمة المؤمنة التي تربي الأبناء على توحيد الله، فهناك فرق بين الحب الفطري كحب الرجل لأمه وأهله وأبنائه وإن كانوا كفارًا مع وجود البغضاء لما هم عليه من الكفر والشرك، والحب الذي مبناه على عقيدة التوحيد والإسلام.
قال عمر: “نحن قوم أعزنا الله بالإسلام”، فلا تفرط -يا أخي- في عقيدتك وفي إسلامك، فلا مجاملة على حساب الدين، علمًا بأن العلماء أجازوا تهنئتهم في الأمور الدنيوية كأمر الزواج، وقدوم مولود، ونحو ذلك.
هذا ما تيسر جمعه في هذه المسألة، وقد تركتُ بعض الآثار، وأقوال العلماء؛ خشية الإطالة، وأرى أن في هذا القدر كفاية، فهذه الأسطر محصلة للمقصود، موصلة للمرغوب.
والله أسأل أن يجعلنا جميعًا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن نكون ممن يعلمون فيعملون، ويعملون فيخلصون، ويخلصون فيقبلون.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.