مقالات تاريخية

فضائل الخليفة المهتدي بالله

فضائل الخليفة المهتدي بالله

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،

فإن الخليفة العباسي محمد المهتدي بالله، هو الخليفة الرابع عشر من خلفاء بني العباس، وهو: محمد بن هارون الواثق ابن عم المعتز.

وُلد عام (209هـ/ 825م)، أيام خلافة عمه المعتصم، وكانت ولايته (255 – 256هـ / 869 – 870م).

بعض فضائل ومآثر الخليفة المهتدي:

كان المهتدي أسمر، رقيقًا، مليح الوجه، ورعًا، عادلًا، صالحًا، متعبدًا، بطلًا، شجاعًا، قويًا في أمر الله، خليقًا للإمارة، لكنه لم يجد معينًا، ولا ناصرًا.

نقل الخطيب عن أبي موسى العباسي أن المهدي مازال صائمًا منذ استخلف إلى أن قتل.

وقال أبو العباس هاشم بن القاسم: كنت عند المهتدي عشية في رمضان، فقمت لأنصرف، فقال: اجلس، فجلست، فصلى بنا، ودعا بالطعام، فأحضر طبق عليه أرغفة، وآنية فيها ملح وزيت وخل، فدعاني إلى الأكل، فأكلت أكل من ينتظر الطبيخ، فقال: ألم تكن صائمًا، قلت: بلى؛ قال: فكل، واستوف، فليس هنا غير ما ترى، فعجبت، ثم قلت: ولم يا أمير المؤمنين! وقد أنعم الله عليك؟

قال: إني فكرت أنه كان في بني أمية عمر بن عبد العزيز، فغرت على بني هاشم، وأخذت نفسي بما رأيت ([1]).

وعن جعفر بن عبد الواحد قال: ذاكرت المهتدي بشيء فقلت له: كان أحمد بن حنبل يقول به، ولكنه كان يُخَالَفُ، كَأَنِّي أَشرْتُ إِلَى آبَائِهِ.

فقال: رحم الله أحمد بن حنبل، لو جاز لي لتبرأتُ من أبي، تكلم بالحق، وقُل به، فإن الرجل ليَتَكَلَّمُ بِالْحَقِّ فينبُل فِي عَيْنِي. وكان المهتدى بالله من أحسن الخلفاء مذهبا وأجملهم طريقة واظهرهم ورعا وأكثرهم عبادة، كان يحضر كل جمعة إلى المسجد الجامع فيخطب ويؤمهم ([2]).

وعن بَعْض الهَاشِمِيِّينَ أَنَّهُ وُجِدَ لِلْمُهْتَدِي صَفَطٌ فِيْهِ جُبَّةُ صوفٍ، وَكسَاءٌ كَانَ يلبَسُهُ فِي اللَّيْلِ، وَيُصَلِّي فِيْهِ، وَكَانَ قَدِ اطَّرَحَ الملاَهِي، وَحرَّمَ الغِنَاءَ، وَحسمَ أَصْحَابَ السُّلْطَانِ عَنِ الظُّلْمِ، وَكَانَ شَدِيْدَ الإِشرَافِ عَلَى أَمرِ الدَّواوينِ، يَجْلِسُ بِنَفْسِهِ، وَيُجْلِسُ بَيْنَ يَدَيْهِ الكُتَّابُ، يَعْمَلُوْنَ الحسَابَ، وَيَلْزَمُ الجُلُوسَ يَوْمَي الخَمِيْسِ وَالاثْنَيْنِ، وَقَدْ ضربَ جَمَاعَةً مِنَ الكِبَارِ تعزيرًا لهم لأنهم أهملوا في أعمالهم.

وروى الخطيب أن رجلًا استعدى المهتدي على خصمه، فحكم بينهما بالعدل، فأنشأ الرجل يقول:

حَكَّمْتُمُوهُ فَقَضَى بَيْنَكُمْ … أَبْلَجُ مِثْلُ الْقَمَرِ الزَّاهِرِ

لَا يَقْبَلُ الرِّشْوَةَ فِي حُكْمِهِ … وَلَا يُبَالِي غَبَنَ الْخَاسِرِ

فقال له المهتدي بالله: أما أنت أيها الرجل، فأحسن الله مقالتك، وأما أنا فإني ما جلست حتى قرأت: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] قَالَ: فَبَكَى النَّاسُ حَوْلَهُ. فَمَا رُئِيَ بَاكِيًا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ.

وَكَانَ يُحِبُّ الِاقْتِدَاءَ بِمَا سَلَكَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْأُمَوِيُّ فِي أَيَّامِ خِلَافَتِهِ مِنَ الْوَرَعِ وَالتَّقَشُّفِ وَكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ وَشِدَّةِ الِاحْتِيَاطِ، وكان يقول ” أما يستحى بنو العباس أن لا يكون فيهم مثل عمر بن عبد العزيز“؟!([3]).

وعن سفيان الثوري أنه كان يقول: ” الخلفاء الراشدون خمسة، ويعدّ فيهم عمر بن عبد العزيز”، ثم أجمع الناس في أيام المهتدي من فقيه ومقرئ وزاهد وصاحب حديث، أن السادس هو المهتدي باللَّه ([4]).

قال ابن تيمية:”وكذلك في أيام المعتضد، والمهتدي، والقادر؛ وغيرهم من الخلفاء الذين كانوا أحمد سيرة وأحسن طريقة من غيرهم، وكان الإسلام في زمنهم أعز وكانت السنة بحسب ذلك([5]).

مقتل الخليفة المهتدي:

قرر المهتدي أن يتخلص من الأتراك، لاسيما بعد أن انتشر واستشرى فسادهم، فلما علموا بذلك اقتحموا داره وحملوه على فرس ضعيفة، ونهبوا كل ما في القصر، ثم أدخلوه إلى دار، وهو ينادي ويقول :” يا موسى اتق الله، ويحك ماذا تريد؟”، وانتشرت تطورات الأحداث بين الناس، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا صَوَّامًا قَوَّامًا لَا يَشْرَبُ الخمر وَلَا يَأْتِي الْفَوَاحِشَ؟ وَاللَّهِ إِنَّ هَذَا لَيْسَ كغيره من الخلفاء ولا تطاوعكم النَّاسُ عَلَيْهِ، ثم ثار العوام والقواد، وكتبوا رقاعًا وألقوها في المساجد: يا معاشر المسلمين، ادعوا الله لخليفتكم العدْل الرّضا، المضاهي لعمر بْن عَبْد العزيز أنْ ينصره اللَّه عَلَى عدوّه([6]).

ثم خرج المهتدي إِلَى النَّاسِ وَهُوَ مُتَقَلِّدٌ سَيْفًا، فَجَلَسَ عَلَى السَّرِيرِ وَاسْتَدْعَى بِمُوسَى بْنِ بُغَا وَأَصْحَابِهِ فَقَالَ: قَدْ بَلَغَنِي مَا تَمَالَأْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِي، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ إِلَيْكُمْ إِلَّا وَأَنَا مُتَحَنِّطٌ، وقد أوصيت أَخِي بِوَلَدِي، وَهَذَا سَيْفِي، وَاللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ بِهِ مَا اسْتَمْسَكَ قَائِمُهُ بِيَدِي، وَاللَّهِ لَئِنْ سَقَطَ من شعري شعرة ليهلكن بدلها منكم، أَوْ لِيَذْهَبَنَّ بِهَا أَكْثَرُكُمْ، أَمَا دِينٌ؟ أَمَا حياء؟ أما تستحيون؟ كم يكون هذا الإقدام على الخلفاء والجرأة على الله عز وجل، وأنتم لا تبصرون؟ سواء عليكم من قصد الإبقاء عليكم والسيرة الصالحة فيكم، ومن كان يدعو بأرطال الشراب المسكر فيشربها بين أظهركم وأنتم لا تنكرون ذلك، ثم يستأثر بالأموال عنكم وعن الضعفاء، هذا منزلي فاذهبوا فانظروا فيه، وَفِي مَنَازِلِ إِخْوَتِي، وَمَنْ يَتَّصِلُ بِي، هَلْ ترون فيها من آلات الخلافة شيئًا، أو من فرشها أو غير ذلك؟ وإنما في بيوتنا ما فِي بُيُوتِ آحَادِ النَّاسِ([7]).

ولكن هذه الكلمات، وهذه الشجاعة التي ظهرت من المهتدي، لم تؤثر في الأتراك، وتحالفوا واجتمعوا على خلعه وقتله، حيث هجوا عليه وطعنوه في خاصرته، وهو رغم كل ذلك يأبى أن يتنازل عن الخلافة، فسلموه إلى رجل فعذبه حتى مات، وقيل إنّ المهتدي لما أبى أن يخلعها، سلموه إلى رجل فلم يزل يطأ خصيته حتى مات، وقيل أخذ يعصر خصيته حتى مات رحمه الله تعالى.

وكانت خلافة المهتدي كلها إلى أن انقضى أمره أحدَ عشر شهرًا وخمسة وعشرين يومًا، وعمره كله ثمان وثلاثون سنة([8]).

  1. () الذهبي: سير أعلام النبلاء(12/536).
  2. () الخطيب: تاريخ بغداد(4/535).
  3. () الخطيب: تاريخ بغداد(4/119).
  4. () ابن العمراني: الإنباء في تاريخ الخلفاء، ص133.
  5. () ابن تيمية: مجموع الفتاوى(4/22).
  6. () الذهبي: تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام (6/12).
  7. () ابن كثير: البداية والنهاية (11/27).
  8. () محمد بن طاهر البرزنجي: صحيح وضعيف تاريخ الطبري (13/220)..

 

زر الذهاب إلى الأعلى