زين العابدين كامل: رحل رمضان ولم ترحل الطاعات والأعمال
رحل رمضان ولم ترحل الطاعات والأعمال
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،
ها هو رمضان قد رحل وانقضى وفات، وانتهى السباق، وفاز فيه من فاز، فاز الصائمون والقائمون والمتصدقون.
ولكن الذي رحل هو شهر رمضان فقط، وأما الطاعات والقربات فهي باقية، فإن كان رمضان قد رحل، فلم ترحل الطاعة، لم يرحل القرآن، ولم يرحل الصيام، ولم يرحل القيام.
قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}، واليقين هو الموت، فلا منتهى للعبادة والطاعة، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: ” وَيُسْتَدَلُّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}عَلَى أَنَّ الْعِبَادَةَ كَالصَّلَاةِ وَنَحْوِهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْإِنْسَانِ مَا دَامَ عَقْلُهُ ثَابِتًا فَيُصَلِّي بِحَسَبِ حَالِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْب” وَيُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى تَخْطِئَةِ مَنْ ذَهَبَ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَقِينِ الْمُعْرِفَةُ، فَمَتَى وَصَلَ أَحَدُهُمْ إِلَى الْمَعْرِفَةِ سَقَطَ عَنْهُ التَّكْلِيفُ عِنْدَهُمْ، وَهَذَا كُفْرٌ وَضَلَالٌ وَجَهْلٌ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ، عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، كَانُوا هُمْ وَأَصْحَابُهُمْ أَعْلَمَ النَّاسِ بِاللَّهِ وَأَعْرَفَهُمْ بِحُقُوقِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمَا يَسْتَحِقُّ مِنَ التَّعْظِيمِ، وَكَانُوا مَعَ هَذَا أَعْبَدَ النَّاسِ وَأَكْثَرَ النَّاسِ عِبَادَةً وَمُوَاظَبَةً عَلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ إِلَى حِينِ الْوَفَاةِ. وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالْيَقِينِ هَاهُنَا الْمَوْتُ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ”.
فلو رحل رمضان فإن الصيام لم يرحل، كما في صحيح مسلم وغيره، أن رسول الله ﷺ قال: “من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر”. وفي رواية: “من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال فكأنما صام الدهر”. وكذلك صوم الاثنين والخميس، والأيام القمرية، ويوم عرفة وتسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وهكذا تستمر عبادة الصيام رغم رحيل رمضان.
وكذلك لو رحل شهر القرآن، فإن القرآن لم يرحل، وقد جعله الله روحًا تحيا به النفوس، كما قال تعالى ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ﴾، وسماه روحًا لأن فيه حياة من موت الجهل، فينبغي على المسلم أن يحافظ على حياة قلبه، بالمواظبة على الورد القرآني كل يوم، كما جاء في الصحيحين “تَعَاهَدُوا هَذَا الْقُرْآنَ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الْإِبِلِ في عُقُلها”، فينبغي أن نعيش مع القرآن، قراءة وحفظًا وتدبرًا.
قال ابن القيم رحمه الله في المدارج: “ فلا شيءٌ أنفعَ للقلب من قراءة القرآن بالتدبر؛ فإنه جامع لمنازل السائرين، وأحوال العاملين ومقامات العارفين وسائر الأحوال التي بها حياة القلب وكماله، ولو علم الناس ما في تدبره لاشتغلوا به عن كل ما سواه”.
وبالقرآن نجمع الحسنات، كما في الحديث ” مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ،وَمِيمٌ حَرْفٌ “. (رواه الترمذي وهو صحيح).
قال ابن القيم في زاد المعاد “كان له صلى الله عليه وسلم حزب يقرؤه، ولا يخل به، وكانت قراءته ترتيلا لا هذّا ولا عجلة، بل قراءة مفسرة حرفًا حرفًا، وكان يقطع قراءته آية آية، وكان يمد عند حروف المد، فيمد (الرحمن) ويمد (الرحيم) وكان يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم في أول قراءته فيقول: ” أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ” وربما كان يقول: “اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه” وكان تعوذه قبل القراءة.
وكان يحب أن يسمع القرآن من غيره، وأمر عبد الله بن مسعود، فقرأ عليه وهو يسمع، وخشع صلى الله عليه وسلم لسماع القرآن منه حتى ذرفت عيناه.
وكان يقرأ القرآن قائمًا، وقاعدًا، ومضطجعًا، ومتوضئًا، ومحدثًا، ولم يكن يمنعه من قراءته إلا الجنابة”.
ويروى أن رسول اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ تأخر على بَني مالِك، حيث كانَ يَأتيهم كلَّ ليلةٍ بعدَ العِشاءِ فيحدِّثُهم قائمًا على رجليهِ، فلمَّا كانَ ذاتَ ليلةٍ أبطأَ عنِ الوقتِ الَّذي كانَ يأتيهم فيهِ ، فقيل : يا رسولَ اللَّهِ لقد أبطأتَ علينا اللَّيلةَ قالَ: إنَّهُ طرأَ عليَّ حزبي منَ القرآنِ فكَرِهْتُ أن أخرجَ حتَّى أتمَّه،( أخرجه أبو داود وابن ماجة بسند ضعيف).
وإذا كان رمضان قد رحل فإن القيام لم يرحل بعد، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن أفضل القيام هو أن يقوم العبد ثلث الليل، وهو قيام داود عليه السلام.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ” أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ يَوْمًا” (أخرجه البخاري)، وعَبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضيَ اللهُ عنه، قالَ لي رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: “يا عَبْدَ اللَّهِ، لا تَكُنْ مِثْلَ فُلانٍ؛ كانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ” (أخرجه البخاري)، فإنَّ اللهَ يُحِبُّ مُواصلةَ العملِ ومُداومتَه.
وقيام الليل هو شرف المؤمن، فعن جابر بن عبدالله وسهل بن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال” أتاني جبريلٌ، فقال : يا محمدٌ ! عشْ ما شئتَ فإنكَ ميتٌ، وأحببْ منْ شئتَ فإنكَ مفارقُهُ، واعملْ ما شئتَ فإنكَ مجزيٌّ بهِ، واعلمْ أنْ شرفَ المؤمنِ قيامُهُ بالليلِ، وعزَّهُ استغناؤهُ عنِ الناسِ” (الجامع الصغير).
وقيام الليل من أسباب دخول الجنة؛ فعن عبدِاللَّهِ بنِ سَلاَمٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ:” أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشوا السَّلامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا باللَّيْل وَالنَّاسُ نِيامٌ، تَدخُلُوا الجَنَّةَ بِسَلامٍ”.(رواهُ الترمذيُّ وقالَ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ).
وهكذا الأمر في باقي العبادات، كالذكر والاستغفار والصدقات وكثرة النوافل وأفعال البر المتنوعة.
وهكذا فإذا كان رمضان قد رحل فإن الطاعات لم ترحل، {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}.