مقالات تاريخية

دور المرأة في صناعة المجد والحضارة: عصمة الدين خاتون أنموذجًا

عصمة الدين خاتون

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،

فمن طالع محطات التاريخ الإسلامي عبر مراحله المختلفة، يلحظ أنه في كثير من الأحيان، تلعب النساء دورًا كبيرًا في تماسُك المجتمع الإسلامي، بل وفي صد الغزاة والأعداء عن الأمة.

فالمرأة المسلمة الواعية والمثقفة، والمتمسكة بدينها وعقيدتها، تمثل في كثير من الأحيان حائط صد، أمام أعداء الأمة، وتقف حجر عثرة أمام مخططات الهدم والتدمير.

ولعل من أبرز الشخصيات النسائية التي لعبت دورًا عظيمًا ومهمًّا في مرحلة حرجة من تاريخ الأمة، هي : عصمة الدين خاتون، ومن المعلوم أن عصمة الدين خاتون قد نالت الشرف مرتين؛ حيث تزوجت أولًا من سلطان مصر والشام؛ نور الدين محمود زنكي، ثم بعد وفاته، تزوجت من الناصر صلاح الدين الأيوبي، وبهذا تكون عاصرت عصمة الدين خاتون، مرحلة حرجة من تاريخ الأمة، وهي مرحلة الحروب الصليبية.

علمًا بأن عصمة الدين خاتون قد نشأت وترعرعت في بيت يحمل هم الأمة ويدافع عنها، فإن أباها هو: الأمير مُعِينِ الدِّينِ أَنُرَ، أحد القادة الكبار في دمشق في عهد حكم السلاجقة الأتابكة، قال عنه المؤرخون”كان عاقلاً سائسًا مدبِّرًا، حسن الديانة، ظاهر الشجاعة، جليل القدر، عالي الهمة، موصوفًا بالرأي، مُحِبًّا للعلماء والصُّلَحاء، كثير الصدَقة والبِر”([1]) .

كان مُعِينِ الدِّينِ أَنُرَ في بادىء الأمر على خلاف مع آل زنكي حكّام حلب والمَوْصل، إلا أنه تحالف مع السلطان نور الدين زنكي في عام 541ه، وصلح أمره، ثم تقدم نور الدين وطلب الزواج من عصمة الدين خاتون، فوافق أبوها وتم الزواج المبارك.

وبعد وفاة نور الدين؛ تقدم للزواج منها؛ السلطان صلاح الدين عام 572ه، لما كانت تتمتع به من صفات حميدة، والذي دعا صلاح الدين إلى ذلك، أنه يعرف قدرها وعفتها ورجاحة عقلها، وسمعتها الطيبة التي كانت تتمتع وتُعرف بها.

يقول أبو شامة المقدسي صاحب كتاب: الروضتين في أخبار النورية والصلاحية؛ “وفي آخر صَفَر تزوّج السلطان بالخاتون المنعوتة عصمة الدين بنت الأمير معين أنر، وكانت في عصمة نور الدين -رحمه الله تعالى- فلما توفي أقامت في منزلها بقلعة دمشق، رفيعة القدر، مستقلة بأمرها، كثيرة الصدقات، والأعمال الصالحات. فأراد السلطان حفظ حرمتها، وصيانتها وعصمتها، فأحضر شرف الدين بن أبي عصرون وعُدُوله، وزوَّجه إياها بحضرتهم؛ أخوها لأبيها الأمير سعد الدين مسعود بن أنر بإذنها، ودخل بها وبات عندها، وقرن بسعده سعدها؛ وَخرج بعد يَوْمَيْنِ إِلَى مصر”([2]) .

ويقول عنها ابن كثير: ” وَقَدْ كَانَتْ زَوْجَةَ نُورِ الدِّينِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ خَلَفَ عَلَيْهَا مِنْ بَعْدِهِ صَلَاحُ الدِّينِ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ وَأَعَفِّهِنَّ وَأَكْثَرِهِنَّ صَدَقَةً،([3]) “.

لقد أثمر زواج الخاتون عصمة الدين؛ من السلطان نور الدين زنكي عن؛ ابنة وولدين، هما أحمد الذي توفي طفلاً صغيرًا، و الثاني هو الصالح إسماعيل الذي توفي عنه أبوه وهو لم يزل طفلًا صغيرًا، فاهتمت به أمه عصمة الدين، وقامت بتربيته أحسن تربية، وأصبح من القادة الشباب،

ومَلَك الشام والجزيرة بعد وفاة أبيه عام 569هـ، وكان عمره إحدى عشرة سنة تقريبًا، وقد اشتُهر بتقواه وورعه.

ويذكر ابن الأثير في كتابه: الكامل في التاريخ؛ أنه رفض الأخذ برأي الأطباء في شرب الخمر للتداوي عندما أصيب بمرض – القُولَنْجُ – وهو مرضٌ مِعَويّ مؤلمٌ يصعب معه خروج الِبراز والريح، وسببه التهاب القولون، حيث قال: لا أفعل حتى أستفتي الفقهاء، فاستفتى الفقهاء، فأفتاه فقيه من مدرِّسي الحنفية بجواز ذلك، فقال له: أرأيت إن قدر الله -تعالى- بقرب الأجل، أيؤخره شرب الخمر؟ فقال له الفقيه: لا؛ فقال: والله لا لقيت الله -سبحانه- وقد استعملت ما حرَّمه عليَّ، وأبى أن يشرب الخمر، فتُوفي -رحمه الله- ولم يبلغ العشرين من العمر.

فهذه ثمرة المربية العابدة الفاضلة؛ عصمة الدين خاتون.

وقد تحدث ابن كثير عن عبادة قيام الليل في حياة عصمة الدين فقال” كانت تُكْثِرُ قِيَامَ اللَّيْلِ فَنَامَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ عَنْ وِرْدِهَا فَأَصْبَحَتْ وَهِيَ غَضْبَى، فَسَأَلَهَا عَنْ أَمْرِهَا فَذَكَرَتْ مَا حَصَلَ لَهَا مِنَ النَّوْمِ الَّذِي قَطَعَهَا عَنْ وِرْدِهَا، فَأَمَرَ بِضَرْبِ طَبْلَخَانَةٍ فِي الْقَلْعَةِ وَقْتَ السَّحَرِ ; لِيُوقِظَهَا وَأَمْثَالَهَا مِنَ النَّوْمِ لِقِيَامِ اللَّيْلِ([4])

ولم ينحصر دورها في التربية والعبادة فقط، بل كانت نعم السند لزوجيها أثناء حركة الجهاد في القرن السادس الهجري، وكانت تشد من أزرهما، وكانت تعينهما بالرأي والمشورة والنصح.

ومن أعمالها أيضًا: أنها كانت وميض إصلاح في المجتمع، وقد أوقفت أموالاً كثيرة في سبيل الله تعالى، وذلك مساهمة منها في أعمال الخير؛ والتربية والتعليم.

قال عنها أبو شامة” وَكَانَت فِي عصمَة الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي رَحمَه الله فَلَمَّا توفّي وَخَلفه السُّلْطَان بِالشَّام فِي حفظ الْبِلَاد ونصرة الْإِسْلَام تزوج بهَا فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَهِي من أعف النِّسَاء وأعصمهن وأجلهن فِي الصيانة وأحزمهن مستمسكة من الدّين بالعروة الوثقى وَلها أَمر نَافِذ ومعروف وصدقات ورواتب للْفُقَرَاء وإدرارات وَبنت للفقهاء والصوفية بِدِمَشْق مدرسة ورباطًا”([5]) .

هذا وقد وصف بعض المؤرخين؛ الخاتون عصمة الدين، بأنها كانت فقيهة في المذهب الحنفي، ولشدة حبها للعلم والفقه، قامت ببناء المدرسة الخاتونية على نفقتها الخاصة، عام 573هـ، على مذهب الحنفية، وكانت أيضًا تقوم برعاية طلاب العلم والعلماء والفقهاء.

توفيت عصمة الدين بدمشق في ذي القعدة، عام 581هـ، قبل أن تسعد برؤية المسجد الأقصى محررًا، والقدس بأيدي المسلمين ، بقيادة زوجها صلاح الدين.

فهذه هي عصمة الدين خاتون، المرأة العابدة، المربية، المجاهدة، فهي مثل نسعد بذكره في صفحات التاريخ الإسلامي.

وهكذا تلعب المرأة المسلمة؛ دورًا كبيرًا وعظيمًا؛ في بناء الحضارة؛ وتشييد المجد للأمة الإسلامية.

  1. () انظر: الصفدي: الوافي بالوفيات، والذهبي: العِبَر في خبر من غبر.
  2. () أبو شامة المقدسي: الروضتين في أخبار النورية والصلاحية،(2/432).
  3. () ابن كثير: البداية والنهاية،( 16/573).
  4. () المصدر السابق،(16/483).
  5. () الروضتين في أخبار النورية والصلاحية،(3/243).

 

زر الذهاب إلى الأعلى