الوفاء في حياة سيد الأوفياء
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد؛
إذا تأملنا واقعنا وأحوالنا ومعاملة بعضنا البعض؛ ترى أن مِن الصفات المفقودة في المجتمع (الوفاء والإحسان)، ومِن حسن أخلاق المسلم حفظ المعروف ورد الجميل ومقابلة الإحسان؛ قال الله تعالى ﴿وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ (القصص: 77), وقال تعالى: ﴿هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾ (الرحمن: 60)، وقال: ﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ (النحل: 91)، وقال تعالى: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾(البقرة: 177)، وعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لاَ يَشْكُرُ النَّاسَ». (أخرجه أحمد)، فنحن أحوج ما نكون لتفعيل صفة الوفاء بيننا، ولقد ضرب سيد الأوفياء رسول الله صلى الله عليه وسلم المٌثل العليا في الوفاء مع جميع مَن حوله من المؤمنين والكفار أيضًا، فلنتأمل وفاءه مع خديجة رضي الله عنها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج مِن البيت حتى يذكر خديجة، فيحسن عليها الثناء، فذكرها يومًا مِن الأيام، فأدركتني الغيرة فقلت: هل كانت إلا عجوزًا، فقد أبدلك الله عز وجل خيرًا منها، فغضب حتى اهتز مقدم شعره مِن الغضب، ثم قال: «لا والله ما أخلف الله لي خيرًا منها، وقد آمنت بي إذ كفر بي الناس، وصدقتني وكذبني الناس، وواستني مِن مالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله عز وجل الأولاد منها، إذ حرمني أولاد النساء» قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت: بيني وبين نفسي: «لا أذكرها بسيئة أبدًا». (أخرجه أحمد)، وروى مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا ذبح الشاة قال: «أرسلوا إلى أصدقاء خديجة، فذكرت له يومًا، فقال: إني لأحب حبيبها, وفي رواية: إني رزقت حبها»، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت عجوز إلى النبي عليه الصلاة والسلام وهو عندي، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن أنتِ؟»، قالت: أنا جثامة المزنية، قال: «بل أنتِ حسّانة المزنية، كيف أنتم؟ كيف حالكم؟ كيف كنتم بعدها؟» قالت: بخير بأبي أنت وأمي يا رسول الله, فلما خرجت، قلت: يا رسول الله، تُقبل على هذه العجوز هذا الإقبال، قال: «إنها كانت تأتينا زمن خديجة, وإن حسن العهد مِن الإيمان». (أخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين).
ولنتأمل أحواله مع غير المسلمين، ها هو المطعم بن عدي يسعى في نقض الصحيفة التي علقتها قريش على الكعبة، وفيها مقاطعة بني هاشم وبني المطلب؛ لأنهم نصروا النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تراه لما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الطائف ولم يجيبوه إلى دعوته وتصديقه ونصرته، ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء ثم بعث إلى الأخنس بن شريق ليجيره، فرفض وأبى، فبعث إلى سهيل بن عمرو، فرفض وأبى، فبعث إلى المطعم بن عدي، فأجابه إلى ذلك، ثم تسلح المطعم وأهل بيته وخرجوا حتى أتوا المسجد، ونادى: إني قد أجرت محمدًا فلا يهجه أحد منكم، ثم بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ادخل فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطاف بالبيت وصلى عنده ثم انصرف إلى منزله، وقد حفظ رسول الله للمطعم بن عدي هذا الموقف النبيل ولم ينسَه له، وبعد سنوات طوال يُجسد لنا رسول الله حقيقة الوفاء ومعانيه السامية، فيقول النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي أُسَارَى بَدْرٍ: «لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاَءِ النَّتْنَى، لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ». وها هو حذيفة بن اليمان يقول: «ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أني خرجت أنا وأبي حُسيل قال: فأخذنا كفار قريش قالوا: إنكم تريدون محمدًا، فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر، فقال: انصرفا، نفي لهم بعهدهم، ونستعين الله عليهم». (رواه مسلم).
وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب نموذجًا فريدًا في الوفاء مع عثمان بن طلحة: روى ابن إسحاق وغيره عن صفية بنت شيبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة ودخلها واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت الحرام، فطاف به سبعًا على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده، فلما قضى طوافه، دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة ففُتحت له، فدخلها فصلى فيها، ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فقام إليه عليٌّ رضي الله عنه، ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية، صلى الله عليك، (أي يريد مفتاح الكعبة له)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين عثمان بن طلحة؟ فدعي له، فقال له: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء، وفي رواية ابن سعد في الطبقات أنه قال له حين دفع المفتاح إليه: خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان، إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم مِن هذا البيت بالمعروف.
وها هو يوسف صلى الله عليه وسلم، يضرب أروع المثل فى الوفاء أيضًا، قال تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ (يوسف: 23) يخبر تعالى عن امرأة العزيز التي كان يوسف في بيتها بمصر، وهو أسير تحت يدها، وهي سيدته، وقد أحبته حبًّا شديدًا لجماله وحسنه، فحملها ذلك على أن تجملت له، وغلقت عليه الأبواب، ودعته إلى نفسها، وفيها مِن الجمال ما يدعو إلى ذلك، وهو شاب عزب، فصبر عن معصية الله، و﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ﴾؛ أي: أعوذ بالله أن أفعل هذا الفعل القبيح، ﴿إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ إنه سيدي الذي أكرمني ورباني، فلا يليق بي أن أقابله في أهله بالفاحشة، فكان يوسف عليه السلام خائفًا مِن الله، ثم وفيًّا مع سيده .. فكونوا أوفياء يا عباد الله .. والله المستعان.