مقالات تاريخية

نفض الغبار عن تاريخ الأخيار (1)

أحداث الفتنة وتزييف الحقائق!

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلا شك أن التاريخ هو مرآة الأمم، يعكس ما فيها، ويترجم حاضرها؛ لذا كان مِن الأهمية بمكان أن نحافِظ عليه وأن نهتم به، وأن ننقله إلى الأجيال نقلًا صحيحًا.
والتاريخ الإسلامي كغيره من تواريخ الأمم والشعوب، مرَّ ببعض المنعطفات والحوادث التي لا ننكرها، ولكننا نرفض التضخيم والتهويل الذي قام به البعض؛ إما بسبب الحقد أو الجهل، أو بسبب التعصب واتباع الأهواء.
ثم إننا نؤكِّد على أن التاريخ الإنساني لا يعرف أمة على مرِّ العصور دوَّنت تاريخها بكل حسناته وسيئاته كأمة الإسلام، فلم يحاول المؤرخون الثقات أن يتستروا على سيئات تاريخهم، بل نقلوا الأحداث بكل أمانة وتجرد وموضوعية، فليس في تاريخنا ما نخجل منه، حتى ما وقع من أحداث مؤلمة، فلا تخلو دراسته مِن فائدة، ولا يجادل عاقل منصف في أن أمتنا الإسلامية، أمة حية بدينها وتاريخها وقيمها، ورصيدها الحضاري؛ لذا قدَّمت الأمة للإنسانية خدمات لا ينكرها منصف قط، والواجب علينا أن نقوم بدور التحليل والتنقيح، وأن نعكف على تاريخنا بعزيمة صادقة، وبصيرة نافذة، فكم خسرت البشرية بتأخر المسلمين!
ولعل أحداث الفتن السياسية التي وقعت في عصر الصحابة رضي الله عنهم، هي مِن أشد الأحداث وأخطرها في تاريخ أمتنا، ولكننا نؤكد على أن تلك الأحداث التي وقعت لا تكدر صفو الأمة أو تعكر شيئًا مِن نقائها.
لكننا -وللأسف الشديد- نرى في ظل ضراوة الصراع الدائر الآن بين أهل الحق وأهل الباطل، وفي ظل ما تحياه الأمة وتعانيه من فوضة فكرية وثقافية، مَن يقوم بدورٍ مشبوهٍ مِن أجل تزييف حقائق التاريخ، وإثارة الشبهات حول بعض الصحابة والطعن فيهم؛ لذا يتحتم علينا أن ننفض الغبار عن تاريخ الأخيار رضي الله عنهم، وأن نتصدى لتلك المحاولات التي يعتريها خور ونقص، وأن نعيد صياغة التاريخ المشحون بالكذب، فكان لابد من هذه المرافعة العلمية للدفاع عن الصحابة رضي الله عنهم.
ومن الأمور التي يجب علينا أن نستصحبها أثناء الحديث عن الخلاف الذي وقع بين الصحابة رضي الله عنهم: هو فضل الصحابة وعلو منزلتهم، وأن الله تعالى قد شهد لهم بطهارة قلوبهم وصدق إيمانهم، وأنه تعالى قد أحل عليهم الرضوان وبشرهم بالجنان، قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100.]، وقال تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا . وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) [الفتح: 18-19].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) [رواه البخاري (3651)، ومسلم (2533)]، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ الله عَنْهُمَا قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ) [رواه مسلم (2540)]، والأدلة حول هذه المعاني متضافرة ومتواترة، ثم إن الصحابة رضي الله عنهم هم الذين اختصهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم فصدقوه ونصروه، واتبعوا النور الذي أُنزل معه، وبذلوا في سبيل دينهم أرواحهم ودماءهم وأموالهم، حتى أصبحوا خير جيل عرفته البشرية، علمًا بأنهم غير معصومين، وما صدر مِن بعضهم مِن الأخطاء والمعاصي مع شرف الصحبة وعلو المنزلة، فهو مُغتفر بفضل الله تعالى؛ لذا نرى أن الله تعالى أنزل في بعض الصحابة الذين تولوا في غزوة أُحد قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [آل عمران:155]، والأمثلة حول هذا المعنى كثيرة.
ولذا نقول: إن الطعن فيهم والتشكيك في عدالتهم وصدقهم يفضي في النهاية إلى هدم الدين وأصول الشريعة المتمثلة في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ما دفع علماء المسلمين إلى أن يقفوا موقفًا صارمًا ممَن يطعن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يشكك في عدالتهم.
قال الإمام أبو زرعة الرازي رحمه الله: “إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاعلم أنه زنديق، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا حق والقرآن حق، وإنما أدَّى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسُّنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة”([1]).
وقال يحيى بن معين رحمه الله في تليد بن سليمان المحاربي الكوفي: “كذاب كان يشتم عثمان، وكل مَن شتم عثمان أو طلحة أو أحدًا مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دجال لا يُكتَب عنه، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين”([2]).
ومن هذا المنطلق نبدأ بمشيئة الله تعالى هذه السلسلة التي نسلِّط الضوء فيها على تفنيد الشبهات التي يثيرها البعض حول مواقف الصحابة رضي الله عنهم في الفتنة، وسنبذل قصارى جهدنا في تنقيح التاريخ مما علق به من أكاذيب وأباطيل، والله المستعان وعليه التكلان.
ونستكمل في المقال القادم بمشيئة الله تعالى.

([1]) الكفاية في علم الرواية (ص 97).

([2]) تهذيب التهذيب (1/ 447).

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

grandpashabet
grandpashabet
Grandpashabet
Grandpashabet
hacklink