نفض الغبار عن تاريخ الأخيار (2)
عرض وتحليل مختصر لمنهج بعض المؤرخين (1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلعل مِن المناسب في هذا المقام، وقبل أن نشرع في الحديث عن أحوال الصحابة -رضي الله عنهم- ومواقفهم خلال الفتنة، أن نقوم بقراءة مختصرة لأحوال بعض المؤرخين على اختلاف مشاربهم، وتنوع روافدهم الفكرية، وأن نسلِّط الضوء على مناهجهم في كتابة التاريخ.
ولا شك أن هذه القراءة سيكون لها أثر طيب -بمشيئة الله-، حيث إنها ستساعد القارئ على فهم الأحداث بعمقٍ ودقةٍ وشموليةٍ؛ نظرًا لأن التاريخ بحر لا منتهى له، والمناهج في كتابته متعددة، والأسانيد المتصلة لناقليه قليلة، كما قال الإمام أحمد -رحمه الله-: “ثلاثة كتب ليس لها أصول: المغازي والملاحم والتفسير”([1])، ويقول ابن خلدون: “وكثيرًا ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل من المغالط في الحكايات والوقائع لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثًّا أو سمينًا، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها”([2])، وِمن ثَمَّ كان لا بد من ذكر بعض الملامح العامة لبعض كتب التاريخ.
ومن هذه الكتب:
تاريخ خليفة بن خياط: لصاحبه خليفة بن خياط بن خليفة الشيباني الليثي العُصفُري البصري، وهو الإمام الحافظ، العلَّامة الأديب المؤرخ النسَّابة، المتوفى سنة (240هـ)؛ أثنى العلماء عليه، فقال ابن عدي: مستقيم الحديث، صدوق، من متيقظي رواته، له تاريخٌ حسن، وقال ابن حبان: كان متقنًا عالمـًا بأيام الناس.
وقال عنه ابن خلكان في ترجمته: “كان حافظًا، عارفًا بالتواريخ، وأيام الناس، غزير الفضل”، وأثنى عليه ابن العماد في الشذرات، وكذلك أبو بكر بن العربي حين اعتمده ونقل عنه في كتابه: “العواصم من القواصم”.
وقد جمع خليفة في كتابه أخبارًا وأحداثًا تاريخية حتى سنة 232هـ، وقد تأثَّر خليفة المحدِّث والفقيه بأصول مدرسة الحديث أثناء كتابته للتاريخ؛ لذا يُعد كتابه من أوثق كتب التاريخ التي يحتاج إليها الباحث؛ لا سيما وهو أقدم كتاب في التاريخ الإسلامي.
الأخبار الطوال: لأبي حنيفة أحمد بن داود الدينوري المتوفى سنة (282ه)، وُلد في بداية القرن الثالث الهجري، بمدينة دينور بإقليم همدان في إيران، ونشأ في أسرةٍ من أصل فارسي.
ويعد هذا الكتاب من أهم المصادر التاريخية الأولى وفاية في سرد حوادث الحياة المعاشية والسياسية والحربية عند الفرس، وهذا الكتاب من المصادر التاريخية الأصيلة، فهو من أوائل الكتب المتكاملة التي جمعت التاريخ منذ زمن آدم -عليه السلام- وحتى وفاة الخليفة العباسي المعتصم بالله، ولقد أثنى بعض العلماء على الدينوري، قال عنه ابن النديم: “ثقة فيما يرويه ويحكيه”. وقال أبو حيان: “أبو حنيفة الدينوري من نوادر الرجال جمع بين حكمة الفلاسفة وبيان العرب، له في كل فن ساق وقدم”.
وقال الذهبي: “صدوق، كبير الدائرة، طويل الباع”.ولكن المتتبع والقارئ لتاريخه يلحظ عليه تأثره بأصله الفارسي، فهو يمر سريعًا بفترة الرسالة والخلافة الراشدة؛ لكنه يطيل النفس عندما يتحدث عن الأحداث التي وقعت في أرض فارس، وكان يسرد التاريخ بطريقة تشبه طريقة سرد القصص، ولم يهتم في كتابه بمسألة الأسانيد.
تاريخ الرسل والملوك:
لأبى جعفر: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الطبري -رحمه الله تعالى-، يُكنى بـأبي جعفر، وعُرف بذلك، واتفق المؤرخون على أنه لم يكن له ولد يسمى بـجعفر، بل إنه لم يتزوج أصلاً، ولد سنة ( 224 هـ ) وتوفي (سنة 310 هـ ).
قال الخطيب البغدادي: “استوطن الطبري بغداد، وأقام بها إلى حين وفاته“([3]). وقد حرص والده على إعانته على طلب العلم منذ صباه، ودفعه إلى تحصيله، فما كاد الصبي الصغير يبلغ السن التي تؤهله للتعليم، حتى قدَّمه والده إلى علماء آمل، حتى قال الطبري عن نفسه: “حفظت القرآن ولي سبع سنين، وصليت بالناس وأنا ابن ثماني سنين، وكتبت الحديث وأنا في التاسعة”.
قال عنه ابن كثير -رحمه الله-: “وكان من العبادة والزهاد والورع والقيام في الحق، لا تأخذه في ذلك لومة لائم، وكان من كبار الصالحين“ ([4]).
وكان الطبري -رحمه الله- زاهدًا في الدنيا، غير مكترث بمتاعها ومفاتنها، وكان يكتفي بقليل القليل أثناء طلبه للعلم، وكان يمتنع عن قبول عطايا الملوك والحكام والأمراء([5]).
ومنهج الطبري في كتابه هو جمع الرواية التاريخية والاهتمام بسندها، فكان يجمع الروايات ويدونها مع إسنادها إلى أصحابها، ومن منهجه أيضًا الحيادية، فهو يعرض مختلف وجهات النظر دون تعصب، أما فيما يتعلق بعدالة الرواة، فإن الإمام الطبري لم يتقيد بضوابط أهل الحديث، فأدخل في تاريخه أقوال الكلبي وابنه هشام، والواقدي، وسيف بن عمر، وأبي مخنف، وغيرهم من الضعفاء والمتهمين بالكذب والوضع في الحديث.
فعلى الناقل من تاريخ الطبري أن ينتبه لهذا جيدًا، فإن الكتاب رغم منزلته وغزارة علم صاحبه إلا أن فيه أخبارًا ضعيفة لا تصح، وقد ذكرها الإمام الطبري بأسانيدها، ولكنه قد أشار في كتابه على أنه قد جمع الأحداث والمرويات، ولكن لا بد من النظر في أمر الصحة والضعف، وأنه ليس مسئولًا عن كل الأخبار التي نقلها، بل هو قد نقلها كما بلغته فقط.
فيقول رَحِمَهُ اللهُ في مُقدِّمةِ كِتَابِه: (تَارِيْخِ الأُمُمِ والمُلُوْكِ): “فَمَا يَكُنْ في كَتابِي هَذَا مِنْ خَبَرٍ ذَكَرْنَاهُ عَنْ بَعْضِ المَاضِيْنَ مِمَّا يَسْتَنْكِرُهُ قَارِئُه، أو يَسْتَشْنِعُهُ سَامِعُهُ، مِنْ أجْلِ أنَّه لَمْ يَعْرِفْ لَهُ وَجْهًا في الصِّحَّةِ، ولا مَعْنىً في الحَقِيْقَةِ، فلْيَعْلَمْ أنَّه لَمْ يُؤتَ في ذَلِكَ مِنْ قِبَلِنَا، وإنَّمَا أُتِيَ مِنْ قِبَلِ بَعْضِ نَاقِلِيْهِ إلَيْنا، وأنَّا إنِّما أدَّيْنا ذَلِكَ على نَحْوِ ما أُدِّيَ إلَيْنا”([6]).
ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.
([1]) رواه الخطيب في “الجامع” (2/162)
([2]) مقدمة ابن خلدون ص 10 .
([3]) تاريخ بغداد (2/ 549 (.
([4]) البداية والنهاية (11/166).
([5]) الإمام الطبري لمحمد الزحيلي، ص68.
([6]) المصدر السابق (1/ 8).