مقالات متنوعة

مقاصد المكلفين (12)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فلقد طفنا في المقال السابق حول أحوال النفس ومدى تأثيرها على القلب، ونسلِّط الضوء في هذا المقال بمشيئة الله -تعالى- على مسألة مهمة، وهي مدى احتياج النفس البشرية إلى الله -تعالى-، حيث إن الإنسان لن يشعر بالأمان والسعادة والراحة إلا بعبوديته لله -تعالى-، بل لا سبيل إلى تحرر النفس الإنسانية إلا بتوجهها وإقبالها على الله، فإن مفهوم العبودية لله -تعالى- في شريعة الإسلام يعني الحرّية في أرقى صورها وأكمل مراتبها وأفضل أحوالها، حيث إنها تعني التحرر من سلطان المخلوقات، وينحصر التعبد والخضوع والانقياد لله وحده لا شريك له.

فالإنسان مفطور على أن يتوجه إلى الله -تعالى- وحده بالعبادة والاستعانة، والتوكل، ونحو ذلك، فمتى حُرم الإنسان من هذا التوجه ومِن هذه العبادة؛ فإنه يعيش في شقاءٍ وكدرٍ؛ لأن النفوس بفطرتها تطلب معبودها وخالقها وفاطرها، بل إن التوجه لغير الله -تعالى- في أمر العبودية مخالف للفطرة الإنسانية السوية التي فُطرت على الخضوع للخالق -عز وجل-.

والتوجّه إلى غير الله -تعالى- فيه ظلم للنفوس وإفساد لها، قال -تعالى-: (وقَدْ خَاب مَنْ دَساها) (الشمس:10)، وقال: (إن الشِّرْكَ لَظلْمٌ عَظيمٌ) (لقمان:13)، وفي المقابل: ترى أن زكاة النفس وإصلاحها يكون بتوجهها لربها، قال -تعالى-: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زكَاهَا) (الشمس:9).

وأود أن أشير إلى أن الفطرة قد لا تعرف المعبود الحقّ المستحق للعبادة، لكنها تدفع الإنسان إلى التوجه إليه، وقد أرسل الله رسله كي يهدوا الّناس إلى معبودهم الحق، ومقتضى طبع الإنسان أن يصل إلى المعبود الحق، الذي لا غنى له عنه ولا سكون له إلا به، ولا حياة مطمئنة إلا بالركون إليه، قال -تعالى-: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (الروم:30)، فإذا وصل الإنسان إلى معبوده الحق، فحينها يشعر بالراحة والطمأنينة؛ أما أن يعيش الإنسان وسط متغيرات معوجة، ومعبودات باطلة، فيشرّق ويغرب، فمرة يعبد صنمًا ويؤلهه، ومرة يعبد شمسًا أو قمرًا أو بقرة، فإنه يعيش وسط صراعات نفسية مدمرة، وقد يصل الأمر بالإنسان إلى الانتحار كما نرى في بلاد الغرب، مع أنهم يدعون أنهم يطلبون بذلك الحرية، ويسعون إليها، ويزعمون أنَّ الثورة الفرنسية أعلنت مبدأ الحرية واعتمدته، وأن هيئة الأمم المتحدة أقرته كذلك، وليس الأمر -كما يزعمون-!

فإنَّ ما فعله هؤلاء، أنَّهم أخرجوا الناس من عبودية نظام وقانون وطائفة، إلى عبودية نظام آخر، وقانون آخر، وطائفة أخرى، وأصبح هؤلاء عبيدًا وهم يزعمون أنهم أصبحوا أحرارًا، فلقد ضل هؤلاء وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا؛ لأن الحرية المزعومة التي تعطشوا لها هي في الحقيقة عبارة عن أوهام وسراب وخداع، فالشيوعية تمنع من ممارسة الحرية التي تمناها هؤلاء، بل وتتحكم في الممتلكات وتُحرم على الناس إبداء آرائهم وأفكارهم، بل هناك ملايين من البشر يسكنون المعتقلات والسجون من جراء تلك الحرية المزعومة، فهم بذلك قد فروا من عبودية الله الواحد القهار إلى عبودية ظالمة باطلة!

ولقد صدق سفير الإسلام ربعي -رضي الله عنه- عندما واجه قائد الفرس قائلًا: “الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”.

وعلى هذا نقول: إن الخروج مِن الظلمات ليس له سبيل سوى الإسلام، وتحقيق العبودية الكاملة للخالق -جل في علاه-، وكلّ مَن لم يرضَ بالإسلام دينًا، وبحكمه حكمًا، وبرسوله نبيًّا؛ فإنه غارق في قاذورات الجاهلية وظلماتها، كما قال -تعالى-: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50).

ونستكمل في المقال القادم بمشيئة الله -تعالى-.

زر الذهاب إلى الأعلى