مقاصد المكلفين (1)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فلا شك أن أمر النية مِن أهم الأمور والمسائل التي يجب على كل مسلم أن يهتم بها، فهي أصل العمل وروحه؛ لذا اهتم العلماء قديمًا وحديثًا بموضوع النية وأفردوا لها بعض المصنفات.
ومِن المصنفات المعاصِرة التي اهتمت بدراسة أمر النية كتاب: “مَقَاصِدُ المُكَلفينَ فيمَا يُتعَبَّدُ به لِرَبِّ العَالمين” للدكتور عمر سليمان عبد الله الأشقر، والكتاب في أصله عبارة عن رسالة دكتوراه، جمع فيها مؤلفها المسائل والأحكام التي تخص أمر النية، ونظرًا لأهمية هذا الموضوع فقد عزمت على أن تناول موضوع الكتاب في عدة مقالات -بمشيئة الله تعالى-.
وأود أن أشير إلى أننا لن نطوف كثيرًا حول التعريف ببعض المصطلحات الخاصة بكلمة النية ومعناها ومدلولاتها من الناحية النظرية، كالحديث عن الفرق بين العزم والإرادة والقصد ونحو ذلك، ولكننا نريد أن نسلِّط الضوء ونطيل النَّفَس حول الجانب التربوي والتعبدي، وذلك بذكرنا لبعض أقوال العلماء والصالحين في هذه المسألة، وكذا نذكر شيئًا مِن قصصهم وأحوالهم في عبادتهم.
ونؤكِّد أولًا على خطورة أمر النية في الأعمال، فإنَّ مقاصد العباد ونياتهم محلُّ نظر الباري -جلَّ وعلا-، وأمر النيات يحتاج دائمًا إلى تقويم وتهذيب ورعاية؛ وذلك لأن النيات تقع موقع الأرواح مِن الأعمال، وتقوم مقام الجذور والأصول بالنسبة للأشجار؛ لأن النيّة هي القصد إلى الشيء، والعزيمة على فعله، فهي عمل قلبي، ومما يدل على خطورة أمر النية ما جاء عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنَّمَا لِامْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) (متفق عليه).
وبهذا الحديث صدَّر البخاري كتابه الصحيح؛ لأنه أصل عظيم في الدين.
ولذا قال الشافعي -رحمه الله- في هذا الحديث: “هو ثلث العلم، ويدخل في سبعين بابًا مِن الفقه”.
وقال أحمد -رحمه الله-: “أصل الإسلام على ثلاثة أحاديث: حديث عمر: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ)، وحديث عائشة: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ) (متفق عليه)، وحديث النعمان بن بشير: (الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ… ) (متفق عليه)”.
وإذا تدبرنا آيات الكتاب المبين نجد أن الآيات التي تتحدث عن القصد والنية هي الآيات التي تتحدث عن الإرادة والإخلاص، كقوله -تعالى-: (فَاعْبُدِ الله مخلِصًا لَهُ الدِّينَ) (الزمر:2)، وقوله: (وَمَا أمِرُوا إلاّ لِيَعبدُوا الله مُخْلصِين لَهُ الدِّينَ) (البينة:5)، وقوله -تعالى-: (فمَنْ كَانَ يَرْجو لِقَاءَ رَبِّه فَلْيعْمَلْ عَملاً صالحًا، وَلاَ يشْركْ بعبادَةِ رَبِّه أَحَدًا) (الكهف:110)، وفي الحديث الذي ذكرناه آنفًا: (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ) دليل على أن الأعمال لا تصح ولا تعتبر، ولا تقبل إلا بالنية، وأن النية هي الفاصلة بين ما يصح وما لا يصح، وبين ما يقبل وما يُرد، ومِن ثَمَّ لم يعتد الشرع أو يعتبر الأفعال التي وقعت دون قصدٍ وإرادة، كالأعمال الصادرة مِن المجنون والمخطئ، والساهي والغافل والنائم، ونحو ذلك، فلا يُعتدُّ بها إن كانت طاعات، ولا يعاقب عليها إن كانت معصية، فالذي يستمع القرآن بغير قصد الاستماع والتعبد لا يُثاب على استماعه، ومَن جامع امرأة يظنها زوجته ثم تبيَّن أنها ليست هي فلا عقوبة عليه، ومَن أكل أو شرب ناسيًا وهو صائم فصومه صحيح، وهكذا…
والأدلة على ما ذكرنا من الكتاب والسنة متضافرة، قال -تعالى-: (لاَ يُكَلَفُ الله نَفْسًا إلاّ وُسعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتَسَبَت رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذنَا إن نَسِينَا أوْ أَخْطَأْنَا) (البقرة:286)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني)، وكذا كان الحكم برفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر، كما ثبت في الحديث الصحيح، وكذا الناطق بكلمة الكفر مُكرها، وقلبه مطمئن بالِإيمان، لا يؤاخذه الله: (إلاّ مَنْ أكْرهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ بِالإيَمانِ) (النحل:106).
ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.