صفحات مِن ذاكرة التاريخ (31) موقف يزيد بن معاوية مِن قتل الحسين -رضي الله عنه- ومِن أهل الحسين وذريته
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد ذكرنا أن معارضة الحسين بن علي -رضي الله عنهما- ليزيد بن معاوية تٌمثل نقطة تحول في التاريخ، فهي تُعد أول معارضة عملية في خلافة يزيد، وقد أثرت حادثة مقتل الحسين على المجتمع الإسلامي بصفةٍ عامة، وعلى الدولة الأموية وتاريخها بصفة خاصة، بل واستمر تأثير هذه الحادثة لمدة قرون طويلة، بل إلى يومنا هذا!
وهناك مَن انحرف مِن أبناء الأمة بسبب هذه الحادثة، وظهر بسببها التعصب والانحراف الفكري عند الكثيرين، وكانت هذه الحادثة هي إحدى الروافد التي ساعدتْ على قيام الثورات ضد الأمويين.
وقد ألقينا الضوء على تفاصيل خروج الحسين -رضي الله عنه- مِن المدينة وحتى مقتله في كربلاء، وموقف يزيد مِن أحداث الكوفة، وموقف عبيد الله بن زياد مِن الحسين -رضي الله عنه-، وبعد مقتل الحسين -رضي الله عنه- كتب عبيد الله بن زياد إلى يزيد بن معاوية يخبره بما حدث، ويستشيره في شأن أبناء الحسين ونسائه، فلما بلغ الخبر يزيد بن معاوية بكى، وقال: “كنتُ أرضى مِن طاعتكم -أي أهل العراق- بدون قتل الحسين، كذلك عاقبة البغي والعقوق، لعن الله ابن مرجانة، لقد وجده بعيد الرحم منه، أما والله لو أني صاحبه لعفوتُ عنه، فرحم الله الحسين” (تاريخ الرسل والملوك للطبري). وفي رواية أنه قال: “أما والله، لو كنت صاحبه، ثم لم أقدر على دفع القتل عنه إلا ببعض عمري لأحببتُ أن أدفعه عنه!” (الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير للجورقاني، بسندٍ كل رجاله ثقات إلا أن فيه انقطاعًا بيْن الشعبي والمدائني)، فجاء رد يزيد على ابن زياد يأمره بإرسال الأسارى إليه، وبادر ذكوان أبو خالد فأعطاهم عشرة آلاف درهم فتجهزوا بها (الطبقات لابن سعد).
ومِن هنا يُعلم: أن ابن زياد لم يحمل آل الحسين بشكلٍ مؤلم أو أنه حملهم مغللين كما ورد في بعض الروايات، وقد مرَّ معنا كيف أن ابن زياد قد أمر للأسارى بمنزلٍ منعزل، وأجرى عليهم الرزق والنفقة وكساهم، ولما دخل أبناء الحسين على يزيد، قالت فاطمة بنت الحسين: “يا يزيد: أبنات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سبايا؟! قال: بل حرائر كرام” اٌدخلي على بنات عمك تجديهن قد فعلن ما فعلتِ. قالت فاطمة: فدخلت إليهن فما وجدت فيهن سفيانية إلا ملتزمة تبكي” (العقد الفريد لابن عبد ربه).
وعندما دخل علي بن الحسين قال يزيد: “يا حبيب، إن أباك قطع رحمي وظلمني، فصنع الله به ما رأيت”.
وكان علي بن الحسين في معركة كربلاء لم يشترك بسبب المرض الذي كان ملازمه، وكان أثناء احتدام المعركة طريح الفراش فحُمل إلى ابن زياد مع بقية الصبيان والنساء، فرد علي بن الحسين على يزيد: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحديد:22)، ثم طلب يزيد مِن ابنه خالد أن يجيبه، فلم يدرِ خالد ما يقول، فقال يزيد: قل له: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:30)” (تاريخ الرسل والملوك للطبري).
وهناك بعض الروايات تفيد بأن أبناء الحسين -رضي الله عنه- وبناته تعرضن للمهانة، وكأنهن في مزادٍ علني! فهذا مِن الكذب البيِّن الذي لم يدعمه سند صحيح، ثم إنها مغايرة لما ثبت مِن إكرام يزيد لآل الحسين، ثم إن يزيد لم يستعرض النساء ويجعلهن عرضة للجمهور ليختر ما يشاء (الشيباني، مواقف المعارضة في خلافة يزيد).
وأرسل يزيد إلى كل امرأة مِن الهاشميات يسأل عن كل ما أخذ منهن، وكل امرأة تدعي شيئًا بالغًا ما بلغ إلا أضعفه لهن في العطية، وكان يزيد لا يتغذى ولا يتعشى إلا دعا علي بن الحسين (الطبقات لابن سعد).
وبعث يزيد إلى المدينة فقدم عليه ذوو السنِّ مِن موالي بني هاشم ومِن موالي بني علي، وبعد أن وصل الموالي أمر يزيد بنساء الحسين -رضي الله عنه- وبناته أن يتجهزن، وأعطاهن كل ما طلبن حتى لم يدع لهم حاجة بالمدينة إلا أمر بها (الطبقات لابن سعد).
ثم أمر النعمان بن بشير أن يقوم بتجهيزهم (سير أعلام النبلاء للذهبي).
وقبْل أن يغادروا، قال يزيد لعلي بن الحسين: “إن أحببتَ أن تقيم عندنا، فنصل رحمك، ونعرف لك حقك فعلت”، ولكن علي بن الحسين اختار الرجوع إلى المدينة، وأكرم يزيد أبناء الحسين وخيّرهم بيْن المقام عنده والذهاب إلى المدينة فاختاروا الرجوع إلى المدينة (تاريخ الرسل والملوك للطبري، ومنهاج السُّنة النبوية لابن تيمية).
وعند مغادرتهم دمشق كرّر يزيد الاعتذار مِن علي بن الحسين، وقال: “لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أني صاحبه ما سألني خصلة أبدًا إلا أعطيتها إياه، ولدفعت عنه الحتف بكل ما استطعت، ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن الله قضى ما رأيت، كاتبني بكل حاجة تكون لك” (تاريخ الرسل والملوك للطبري).
وأمر يزيد بأن يرافق ذرية الحسين وفدٌ مِن موالي بني سفيان، وكان عددهم ثلاثين فارسًا، وأمر المصاحبين لهم أن ينزلوا حيث شاءوا ومتى شاءوا، وخرج آل الحسين مِن دمشق محفوفين بأسباب الاحترام والتقدير حتى وصلوا إلى المدينة (مواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني).
قال ابن كثير -رحمه الله- في يزيد: “وأكرم آل بيت الحسين، وردَّ عليهم جميع ما فُقد لهم وأضعفه، وردهم إلى المدينة في محامل وأبهة عظيمة، وقد ناح أهله على الحسين” (البداية والنهاية).
وهكذا قُتل الحسين -رضي الله عنه-، وقد حَمَّل العلماء مسئولية قتل الحسين لعبيد الله بن زياد، وعمر بن سعد بن أبي وقاص، وشمر بن ذي الجوشن، وحمَّلوا كذلك أهل الكوفة مسئولية مقتله؛ فهم الذين كاتبوا الحسين بن علي -رضي الله عنهما- ثم خذلوه!
واختلف العلماء في أمر يزيد: هل يتحمل دم الحسين أم لا؟ فلقد قٌتل الحسين في خلافته، وعلى أرضٍ تسيطر عليها جيوشه، وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يٌحمّل نفسه مسئولية بغلة عثرت في العراق أو في الشام(1)، علمًا بأنه لم يأمر بقتله، بل ولم يشر إلى ذلك، ولكن يؤخذ على يزيد أنه ما انتصر للحسين، ولا أمر بقتل قاتله، بل ولم يعزله أو يعاقبه على قتله للحسين -رضي الله عنه-! (البداية والنهاية لابن كثير، ومنهاج السُّنة لابن تيمية).
وكان موقف الحسين -رضي الله عنه- مِن بيعة يزيد بن معاوية هو موقف المعارِض منذ البداية، والسبب في ذلك: الحرص على مبدأ الشورى، وأن يتولى الأمة أصلحها، فالحسين اعترض على فكرة التوريث دفاعًا عن الشورى، ومبادئ الإسلام الداعمة لحق الأمة في اختيار مَن تريد، وأحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- التي يأمر فيها بقتل المفارق للجماعة لم تتناوله؛ فإنه -رضي الله عنه- لم يفارِق الجماعة، ولم يُقتل إلا وهو طالب للرجوع إلى بلده، أو إلى الثغر، أو إلى يزيد، داخلاً في الجماعة، معرضًا عن تفريق الأمة، ولو كان طالب ذلك أقل الناس لوجب إجابته إلى ذلك؛ فكيف لا تجب إجابة الحسين -رضي الله عنه-؟!(2).
وأما عن مكان رأس الحسين -رضي الله عنه-: فإن سبب الاختلاف في موضع رأس الحسين -رضي الله عنه- عند عامة الناس، إنما هو ناتج عن تلك المشاهد المنتشرة في ديار المسلمين، والتي أقيمتْ في عصور التخلف الفكري والعقدي، وكلها تدعي وجود رأس الحسين -رضي الله عنه-، ثم إن الجهل بموضع رأس الحسين -رضي الله عنه- جعل كل طائفة تنتصر لرأيها في ادعاء وجود الرأس عندها!
وإذا أردنا التحقيق في مكان الرأس، فإنه يلزمنا تتبع وجود الرأس منذ انتهاء معركة “كربلاء”، فلقد ثبت أن رأس الحسين -رضي الله عنه- حُمل إلى ابن زياد، فجعل الرأس في طست وأخذ يضربه بقضيب كان في يده، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أُتِيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِرَأْسِ الحُسَيْنِ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-، فَجُعِلَ فِي طَسْتٍ، فَجَعَلَ يَنْكُتُ، وَقَالَ فِي حُسْنِهِ شَيْئًا، فَقَالَ أَنَسٌ: “كَانَ أَشْبَهَهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-” (رواه البخاري).
ثم بعد ذلك تختلف الروايات والآراء اختلافًا بينًا بشأن رأس الحسين -رضي الله عنه-، فهناك بعض الروايات التي ذكرتْ أن ابن زياد أرسل الرأس إلى يزيد بن معاوية، وهي روايات ضعيفة، ولم تثبت(3).
ثم كان مما ترتب على مقتل الحسين -رضي الله عنه- التفاف الناس حول ابن الزبير حتى قاد حركة المعارضة في الحجاز، وقيام حركات ثورية في الكوفة وغيرها، مثل حركة التوابين، وحركة المختار بن أبي عبيد الثقفي، وكلها نادت بالثأر للحسين -رضي الله عنه-؛ فضلًا عن بعض الانحرافات الفكرية التي تولدت عند البعض.
وللحديث بقية -بمشيئة الله تعالى-.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) وقد سئل ابن الصلاح -رحمه الله- عن يزيد، فقال: “لم يصح عندنا أنه أمر بقتل الحسين -رضي الله عنه-، والمحفوظ أن الآمر بقتاله المفضي إلى قتله إنما هو عبيد الله بن زياد والي العراق إذ ذاك، وأما سب يزيد ولعنه فليس ذلك مِن شأن المؤمنين، وقد ورد في الحديث المحفوظ: (وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ) (متفق عليه)” (البخاري مع الفتح 10/ 479).
وقال شيخ الإسلام -رحمه الله-: “افْتَرَقَ النَّاسُ فِي “يَزِيدَ” بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، ثَلَاثُ فِرَقٍ: طَرفان ووَسٌط، أَحدُ الطَّرَفَيْنِ قَالُوا: إنَّهُ كَانَ كَافِرًا مُنَافِقًا، وَأَنَّهُ سَعَى فِي قَتْلِ سَبْطِ رَسُولِ اللَّهِ تَشَفِّيًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَانْتِقَامًا مِنْهُ، وَأَخْذًا بِثَأْرِ جَدِّهِ عتبة، وَأَخِي جَدِّهِ شَيْبَةَ، وَخَالِهِ الْوَلِيدِ بْنِ عتبة، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ قَتَلَهُمْ أَصْحَابُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَغَيْرِهِ يَوْمَ بَدْرٍ وَغَيْرِهَا؛ وَقَالُوا: تِلْكَ أَحْقَادٌ بَدْرِيَّةٌ وَآثَارُ جَاهِلِيَّةٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ سَهْلٌ عَلَى الرَّافِضَةِ الَّذِينَ يُكَفِّرُونَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ؛ فَتَكْفِيرُ يَزِيدَ أَسْهَلُ بِكَثِيرِ.
وَالطَّرَفُ الثَّانِي: يَظُنُّونَ أَنَّهُ كَانَ رَجُلًا صَالِحًا، وَإِمَامٌ عَدْلٌ، وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ “الصَّحَابَةِ” الَّذِينَ وُلِدُوا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحَمَلَهُ عَلَى يَدَيْهِ وَبَرَّكَ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا فَضَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ!
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ، وَلَمْ يُولَدْ إلَّا فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ، وَلَمْ يَكُنْ كَافِرًا؛ وَلَكِنْ جَرَى بِسَبَبِهِ مَا جَرَى مِنْ مَصْرَعِ “الْحُسَيْنِ”، وَفِعْلِ مَا فُعِلَ بِأَهْلِ الْحَرَّةِ، وَلَمْ يَكُنْ صَاحِبًا، وَلَا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، ثُمَّ افْتَرَقُوا ثَلَاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ لَعَنَتْهُ، وَفِرْقَةٌ أَحَبَّتْهُ، وَفِرْقَةٌ لَا تَسُبُّهُ وَلَا تُحِبُّهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَد، وَعَلَيْهِ الْمُقْتَصِدُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ… وَأَمَّا قَتْلُ الْحُسَيْنِ فَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ، وَلَمْ يَرْضَ بِهِ، بَلْ ظَهَرَ مِنْهُ التَّأَلُّمُ لِقَتْلِهِ، وَذَمَّ مَنْ قَتَلَهُ، وَلَمْ يُحْمَلْ الرَّأْسُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا حُمِلَ إلَى ابْنِ زِيَادٍ” (مجموع الفتاوى بتصرف).
وقال أيضًا في الوصية الكبرى: “وَجَرَتْ فِي إمَارَتِهِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ: أَحَدُهَا: مَقْتَلُ الحسين -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَهُوَ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِ الحسين، وَلَا أَظْهَرَ الْفَرَحَ بِقَتْلِهِ؛ وَلَا نَكَّتَ بِالْقَضِيبِ عَلَى ثَنَايَاهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَلَا حَمَلَ رَأْسَ الحسين -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إلَى الشَّامِ، لَكِنْ أَمَرَ بِمَنْعِ الحسين -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَبِدَفْعِهِ عَنْ الْأَمْرِ، وَلَوْ كَانَ بِقِتَالِهِ، فَزَادَ النُّوَّابُ عَلَى أَمْرِهِ، وحض الشمر بن ذي الجوشن الجيوش عَلَى قَتْلِهِ لعبيد الله بن زياد؛ فَاعْتَدَى عليه عبيد الله بن زياد، وأمر عمر بن سعد بقتاله، فَطَلَبَ مِنْهُمْ الحسين -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنْ يَجِيءَ إلَى يزيد، أَوْ يَذْهَبَ إلَى الثَّغْرِ مُرَابِطًا، أَوْ يَعُودَ إلَى مَكَّةَ فَمَنَعُوهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إلَّا أَنْ يَسْتَأْسِرَ لَهُمْ، وَأَمَرَ عمر بن سعد بِقِتَالِهِ فَقَتَلُوهُ مَظْلُومًا لَهُ وَلِطَائِفَةِ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-، وَكَانَ قَتْلُهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مِنْ الْمَصَائِبِ الْعَظِيمَةِ، فَإِنَّ قَتْلَ الحسين، وَقَتْلَ عثمان قَبْلَهُ كَانَا مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْفِتَنِ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَقَتَلَتُهُمَا مِنْ شِرَارِ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ” (انتهى).
وقال في منهاج السُّنة: “إِنَّ يَزِيدَ لَمْ يَأْمُرْ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ النَّقْلِ، وَلَكِنْ كَتَبَ إِلَى ابْنِ زِيَادٍ أَنْ يَمْنَعَهُ عَنْ وِلَايَةِ الْعِرَاقِ. وَالْحُسَيْنُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَانَ يَظُنُّ أَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ يَنْصُرُونَهُ وَيَفُونَ لَهُ بِمَا كَتَبُوا إِلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ ابْنَ عَمِّهِ مُسْلِمَ بْنَ عَقِيلٍ، فَلَمَّا قَتَلُوا مُسْلِمًا وَغَدَرُوا بِهِ وَبَايَعُوا ابْنَ زِيَادٍ، أَرَادَ الرُّجُوعَ فَأَدْرَكَتْهُ السَّرِيَّةُ الظَّالِمَةُ، فَطَلَبَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَى يَزِيدَ، أَوْ يَذْهَبَ إِلَى الثَّغْرِ، أَوْ يَرْجِعَ إِلَى بَلَدِهِ، فَلَمْ يُمَكِّنُوهُ مِنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَسْتَأْسِرَ لَهُمْ، فَامْتَنَعَ، فَقَاتَلُوهُ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا مَظْلُومًا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ يَزِيدَ أَظْهَرَ التَّوَجُّعَ عَلَى ذَلِكَ، وَظَهَرَ الْبُكَاءَ فِي دَارِهِ، وَلَمْ يَسْبِ لَهُ حَرِيمًا أَصْلًا، بَلْ أَكْرَمَ أَهْلَ بَيْتِهِ، وَأَجَازَهُمْ حَتَّى رَدَّهُمْ إِلَى بَلَدِهِمْ، ويزيد هو أول مَن غزا القسطنطينية، غزاها في خلافة أبيه معاوية، وقد روى البخاري في “صحيحه” عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَوَّلُ جَيْشٍ مِنْ أُمَّتِي يَغْزُونَ مَدِينَةَ قَيْصَرَ مَغْفُورٌ لَهُمْ) (انتهى بتصرف)“، وبهذا قال جمع مِن أهل العلم، كابن طولون في كتاب “قيد الشريد”، وكذا قال الطيب النجار، ويوسف العش وغيرهما.
(2) قال شيخ الإسلام: “ولهذا لما أراد الحسين -رضي الله عنه- أن يخرج إلى أهل العراق لما كاتبوه كتبًا كثيرة، أشار عليه أفاضل أهل العلم والدين: كابن عمر، وابن عباس، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ألا يخرج، وغلب على ظنهم أنه يُقتل حتى إن بعضهم قال: أستودعك الله مِن قتيل، وقال بعضهم: لولا الشفاعة لأمسكتك، والله ورسوله إنما يأمر بالصلاح لا بالفساد، لكن الرأي يصيب تارة وتخطيء أخرى، فتبيَّن أن الأمر على ما قاله أولئك، ولم يكن في الخروج لا مصلحة دين ولا مصلحة دنيا، بل تمكن أولئك الظلمة الطغاة مِن سبط رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى قتلوه مظلومًا شهيدًا، وكان في خروجه وقتله مِن الفساد ما لم يكن حصل لو قعد في بلده، فإن ما قصده مِن تحصيل الخير ودفع الشر لم يحصل منه شيء، بل زاد الشر بخروجه وقتله، ونقص الخير بذلك، وصار ذلك سببًا لشرٍ عظيم، وكان قتل الحسين مما أوجب الفتن كما كان قتل عثمان مما أوجب الفتن، وهذا كله مما يبين أن ما أمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن الصبر على جَوْر الأئمة وترك قتالهم والخروج عليهم هو أصلح الأمور للعباد في المعاش والمعاد، وأن مَن خالف ذلك متعمدًا أو مخطئًا لم يحصِّل بفعله صلاحٌ، بل فسادٌ.
ولهذا أثنى النبي -صلى الله عليه وسلم- على الحسن بقوله: (ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ) (رواه البخاري)، ولم يثنِ على أحدٍ لا بقتالٍ في فتنة، ولا بخروجٍ على الأئمة، ولا نزع يدٍ مِن طاعة، ولا مفارقةٍ للجماعة” إلى أن قال: “وكذلك الحسن كان دائمًا يشير على أبيه وأخيه بترك القتال، ولما صار الأمر إليه ترك القتال وأصلح الله به بيْن الطائفتين المقتتلتين، وعلي -رضي الله عنه- في آخر الأمر تبيَّن له أن المصلحة في ترك القتال أعظم منها في فعله.
وكذلك الحسين -رضي الله عنه- لم يُقتل إلا مظلومًا شهيدًا، تاركًا لطلب الإمارة، طالبًا للرجوع؛ إما إلى بلده، أو إلى الثغر، أو إلى المتولي على الناس يزيد، وإذا قال القائل: إن عليًّا والحسين إنما تركا القتال في آخر الأمر للعجز؛ لأنه لم يكن لهما أنصار، فكان في المقاتلة قتل النفوس بلا حصول المصلحة المطلوبة.
قيل له: وهذا بعينه هو الحِكْمَة التي راعاها الشارع -صلى الله عليه وسلم- في النهي عن الخروج على الأمراء، وندب إلى ترك القتال في الفتنة، وإن كان الفاعلون لذلك يرون أن مقصودهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كالذين خرجوا بالحرَّة، وبدير الجماجم على يزيد والحجاج وغيرهما، لكن إذا لم يزل المنكر إلا بما هو أنكر منه صار إزالته على هذا الوجه منكرًا، وإذا لم يحصل المعروف إلا بمنكر مفسدته أعظم مِن مصلحة ذلك المعروف، كان تحصيل ذلك المعروف على هذا الوجه منكرًا” (منهاج السُّنة 4/ 527).
(3) وقد ذهب ابن كثير -رحمه الله- إلى ذهاب الرأس إلى يزيد، فقد قال: “وقد اختلف العلماء في رأس الحسين: هل سيّره ابن زياد إلى الشام أم لا؟ على قولين، الأظهر منهما أنه سيّره إليه،، فقد ورد في ذلك آثار كثيرة، والله أعلم”.
وقال ابن كثير في موضع آخر: “والصحيح أنه لم يبعث برأس الحسين إلى الشام” (انظر البداية والنهاية 11/ 580)، والقول بإرسالها إلى الشام هو ما ذهب إليه الذهبي (تاريخ الإسلام).
وقال قال ابن تيمية -رحمه الله- بضعف الراويات التي تقول بإرسال الرأس إلى الشام، وقد اُختلف في المكان المقبور به رأس الحسين -رضي الله عنه-، وهي ما بيْن دمشق والرقة وعسقلان والقاهرة وكربلاء والمدينة، وأقرب الأقوال: أن الرأس بالمدينة، فقد ذكر ابن سعد بإسنادٍ جمعي: أن يزيد بعث بالرأس إلى عمرو بن سعيد والي المدينة، فكفنه ودفنه بالبقيع إلى حيث قبر أمه فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وقال ابن تيمية -رحمه الله-: “ثم إن دفنه بالبقيع هو الذي تشهد له عادة القوم، فإنهم كانوا في الفتن إذا قتل الرجل منهم -لم يكن منهم- سلموا رأسه وبدنه إلى أهله، كما فعل الحجاج بابن الزبير لما قتله وصلبه، ثم سلموه إلى أهله، وقد علم أن سعي الحجاج في قتل ابن الزبير، وأن ما كان بينهما مِن الحروب أعظم بكثير مما كان بيْن الحسين وبين خصومه” (انتهى). وبهذا قال الزبير بن بكار، ومحمد بن سعد وهما مِن المؤرخين، وانظر أيضًا: (أنساب الأشراف للبلاذري، ومواقف المعارضة في خلافة يزيد للشيباني).