صفحات مِن ذاكرة التاريخ (3) الخروج على أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- “الأسباب والنتائج”
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فما زلنا في ذكر التُهم والشُبهات التي ذكرها المجرمون الذين خرجوا على أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-.
ومِن هذه التهم الباطلة:
أن عثمان -رضي الله عنه- نفى أبا ذر -رضي الله عنه- إلى الرَّبذة -وهي قرية تقع في شرق المدينة المنورة، وتبعد عنها قرابة 170كم-، وهذا أيضًا مِن الأكاذيب والأباطيل، والصحيح أن أبا ذر -رضي الله عنه- هو الذي طلب ذلك مِن عثمان -رضي الله عنه-.
– قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّهُ نَفَى أَبَا ذَرٍّ إِلَى الرَّبَذَةِ وَضَرَبَهُ ضَرْبًا وَجِيعًا، مَعَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ فِي حَقِّهِ: (مَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ، وَلا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ عَلَى ذِي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ مِنْ أَبِي ذَرٍّ) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).
فَالْجَوَابُ: أَنَّ أَبَا ذَرٍّ سَكَنَ الرَّبَذَةَ وَمَاتَ بِهَا لِسَبَبِ مَا كَانَ يَقَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنَّ أَبَا ذَرٍّ -رضي الله عنه- كَانَ رَجُلاً صَالِحًا زَاهِدًا، وَكَانَ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ الزُّهْدَ وَاجِبٌ، وَأَنَّ مَا أَمْسَكَهُ الإِنْسَانُ فَاضِلاً عَنْ حَاجَتِهِ فَهُوَ كَنْزٌ يُكْوَى بِهِ فِي النَّارِ، وَاحْتَجَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا لا حُجَّةَ فِيهِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، احْتَجَّ بِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (التَّوْبَةِ:34)، وَجَعَلَ الْكَنْزَ مَا يَفْضُلُ عَنِ الْحَاجَةِ، وَاحْتَجَّ بِمَا سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ أَنَّهُ قَالَ: (يَا أَبَا ذَرٍّ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا يَمْضِي عَلَيْهِ ثَالِثَةٌ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ، إِلا دِينَارًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ) (متفق عليه)، وَأَنَّهُ قَالَ: (الأَكْثَرُونَ هُمُ الأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلا مَنْ قَالَ بِالْمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا) (متفق عليه).
وَلَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَخَلَّفَ مَالاً، جَعَلَ أَبُو ذَرٍّ ذَلِكَ مِنَ الْكَنْزِ الَّذِي يُعَاقَبُ عَلَيْهِ، وَكَانَ قَدْ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ بِالشَّامِ بِهَذَا السَّبَبِ، وَقَدْ وَافَقَ أَبَا ذَرٍّ عَلَى هَذَا طَائِفَةٌ مِنَ النُّسَّاكِ، وقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: (لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَة، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ)(1) (متفق عليه)، فَنَفَى الْوُجُوبَ فِيمَا دُونَ الْمِائَتَيْنِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ كَوْنَ صَاحِبِهَا مُحْتَاجًا إِلَيْهَا أَمْ لا؟ وَقَالَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ: الْكَنْزُ هُوَ الْمَالُ الَّذِي لَمْ تُؤَدَّ حُقُوقُهُ، وَكَانَ أَبُو ذَرٌّ يُرِيدُ أَنْ يُوجِبَ عَلَى النَّاسِ مَا لَمْ يُوجِبِ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَيَذُمُّهُمْ عَلَى مَا لَمْ يَذُمُّهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ، مَعَ أَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِي ذَلِكَ، مُثَابٌ عَلَى طَاعَتِهِ -رضي الله عنه- كَسَائِرِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ أَمْثَالِهِ.
وكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- يُقَوِّمُ رَعِيَّتَهُ تَقْوِيمًا تَامًّا، فَلا يَعْتَدِي لا الأَغْنِيَاءُ وَلا الْفُقَرَاءُ، فَلَمَّا كَانَ فِي خِلافَةِ عُثْمَانَ تَوَسَّعَ الأَغْنِيَاءُ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى زَادَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَلَى قَدْرِ الْمُبَاحِ فِي الْمِقْدَارِ وَالنَّوْعِ، وَتَوَسَّعَ أَبُو ذَرٍّ فِي الإِنْكَارِ حَتَّى نَهَاهُمْ عَنِ الْمُبَاحَاتِ، وَهَذَا مِنْ أَسْبَابِ الْفِتَنِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ، فَكَانَ اعْتِزَالُ أَبِي ذَرٍّ لِهَذَا السَّبَبِ، وَلَمْ يَكُنْ لِعُثْمَانَ مَعَ أَبِي ذَرٍّ غَرَضٌ مِنَ الأَغْرَاضِ” (منهاج السنة بتصرف).
– وقال ابن العربي -رحمه لله-: “كان أبو ذر زاهدًا، وكان يقرّع عمال عثمان، ويتلو عليهم: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة:34)، ويراهم يتسعون في المراكب والملابس حين وجدوا؛ فينكر ذلك عليهم، ويريد تفريق جميع ذلك مِن بيْن أيديهم، وهو غير لازم.
قال ابن عمر وغيره مِن الصحابة: إن ما أديت زكاته فليس بكنز، فوقع بيْن أبي ذر ومعاوية كلام بالشام، وكان أبو ذر يطلق مِن الكلام ما لم يكن يقوله في زمان عمر، فأعلم معاوية بذلك عثمان، وخشي مِن العامة أن تثور منهم فتنة، فإن أبا ذر كان يحملهم على التزهد وأمور لا يحتملها الناس كلهم، وإنما هي مخصوصة ببعضهم، فكتب إليه عثمان أن يَقدم المدينة، فخرج إلى المدينة، فاجتمع إليه الناس، فجعل يسلك تلك الطرق، فقال له عثمان: “لو اعتزلتَ”. معناه: إنك على مذهب لا يصلح لمخالطة الناس، فإن للخلطة شروطـًا وللعزلة مثلها، ومَن كان على طريقة أبي ذرّ فحاله يقتضي أن ينفرد بنفسه، أو يخالط ويسلِّم لكل أحد حاله مما ليس بحرام في الشريعة، فخرج إلى الربذة زاهدًا فاضلاً” (بتصرف مِن العواصم مِن القواصم في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم-).
– وقال الشيخ محب الدين الخطيب -رحمه الله- معلقًا: “وإنما اختار أبو ذر -رضي الله عنه- أن يعتزل في الربذة، فوافقه عثمان على ذلك كما صح في حديث عبد الله بن الصامت، قال: قَدِمَ أَبُو ذَرٍّ عَلَى عُثْمَانَ مِنَ الشَّامِ, فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! افْتَحِ الْبَابَ حَتَّى يَدْخُلَ النَّاسُ؛ أتحسِبُني من قوم يقرأون الْقُرْآنَ لا يُجاوز حَنَاجِرَهُمْ, يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوق السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ, ثُمَّ لا يَعُودُونَ فِيهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ عَلَى فُوقِهِ؛ هُمْ شرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ؛ لَوْ أَمَرْتَنِي أَنْ أَقْعُدَ؛ لَمَا قُمْتُ, وَلَوْ أَمَرْتَنِي أَنْ أَكُونَ قَائِمًا؛ لقُمْتُ مَا أَمْكَنَتْنِي رِجْلايَ, وَلَوْ رَبَطْتَنِي عَلَى بَعِيرٍ لَمْ أُطْلِقْ نَفْسِي حَتَّى تَكُونَ أَنْتَ الَّذِي تُطْلِقُني! ثُمَّ اسْتَأْذَنَهُ أَنْ يَأْتِيَ الرَّبذة, فأَذِنَ لَهُ, فَأَتَاهَا؛ فَإِذَا عَبْدٌ يَؤُمَّهُمْ, فَقَالُوا: أَبُو ذرٍّ! فَنَكَصَ الْعَبْدُ, فَقِيلَ لَهُ: تقدَّم, فَقَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِثَلاثٍ: (أَنْ أَسْمَعَ وأُطيع وَلَوْ لِعَبْدٍ حَبَشِيٍّ مُجَدَّعِ الأَطْرَافِ… ) (رواه ابن حبان، وصححه الألباني).
وقد ذكر ابن خلدون -رحمه الله- في العِبَر أن أبا ذر استأذن عثمان -رضي الله عنه- في الخروج مِن المدينة، وقال إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمرني أن أخرج منها إذا بلغ البناء سلعًا؛ فأذن له، ونزل الربذة وبنى بها مسجدًا، وأقطعه عثمان صرمة مِن الإبل وأعطاه مملوكين، وأجرى عليه رزقًا، وكان يتعاهد المدينة، فعدَّ أولئك الرهط خروج أبي ذر فيما ينقمونه على عثمان -رضي الله عنه-.
وذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في البداية والنهاية عند كلامه عن خلافة عثمان -رضي الله عنه- ما نصه: “ثم لما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومات أبو بكر خرج إلى الشام فكان فيه حتى وقع بينه وبين معاوية، فاستقدمه عثمان إلى المدينة، ثم نزل الربذة فأقام بها حتى مات في ذي الحجة مِن هذه السَّنة، وليس عنده سوى امرأته وأولاده، فبينما هم كذلك لا يقدرون على دفنه إذ قدم عبد الله بن مسعود مِن العراق في جماعة مِن أصحابه، فحضروا موته، وأوصاهم كيف يفعلون به، وقيل قدموا بعد وفاته فولوا غسله ودفنه، وكان قد أمر أهله أن يطبخوا لهم شاة مِن غنمه ليأكلوه بعد الموت، وقد أرسل عثمان بن عفان إلى أهله فضمهم مع أهله” اهـ.
وبهذا يتبين بما لا يدع مجالاً للشك أن هذه تهمة باطلة ولم تثبت.
ومِن التهم الباطلة أيضًا: أن عثمان -رضي الله عنه- أخرج أبا الدرداء -رضي الله عنه- مِن الشام.
قالوا: ووقع بيْن أبي الدرداء ومعاوية كلام، وكان أبو الدرداء زاهدًا فاضلاً قاضيًا لهم في دمشق، فلما اشتد في الحق، وأخرج طريقة عمر في قوم لم يحتملوها؛ عزلوه فخرج إلى المدينة.
والجواب:
قال ابن العربي -رحمه الله-: “وهذه كلها مصالح لا تقدح في الدين، ولا تؤثر في منزلة أحد مِن المسلمين بحال، وأبو الدرداء وأبو ذر بريئان من عاب، وعثمان بريء أعظم براءة وأكثر نزاهة؛ فمن روى أنه نفى، وروى سببًا فهو كله باطل” اهـ.
وقال الشيخ محب الدين الخطيب -رحمه الله-: “بل إن معاوية نفسه حاول السير على طريقة عمر، كما نقل ذلك الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية عن الزهري: أن معاوية عمل سنتين عمل عمر ما يخرم فيه ثم إنه بعُد عن ذلك”.
ثم قال الشيخ محب الدين معلقـًا: “وقد يظن مَن لا نظر له في حياة الشعوب وسياستها أن الحاكم يستطيع أن يكون كما يريد أن يكون حيثما يكون، وهذا خطأ؛ فللبيئة مِن التأثير في الحاكم، وفي نظام الحكم أكثر مما للحاكم ونظام الحكم مِن التأثير على البيئة، وهذا مِن معاني قول الله -عز وجل-: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد:11)”.
قلتُ: وقد ذكر أصحاب السير أن أبا الدرداء -رضي الله عنه- تُوفي بدمشق سنة إحدى وثلاثين، وقيل: اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان -رضي الله عنه-.
ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الوسق: مكيال للحبوب، ويقدر بستين صاعًا. (وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ): أي ليس فيما دون خمس من الإبل صدقة. (وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ): أي ليس في أقل مِن مائتي درهم صدقة.
المراجع:
– البداية والنهاية لابن كثير.
– تاريخ الرسل والملوك للطبري.
– العواصم مِن القواصم لابن العربي، مع تعليقات محب الدين الخطيب.
– منهاج السُّنة لابن تيمية.
– التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان -رضي الله عنه-، لمحمد بن يحيى المالقي الأندلسي.
– موقع قصة الإسلام، راغب السرجاني، الدفاع عن عثمان -رضي الله عنه-.