صفحات مِن ذاكرة التاريخ (2) الخروج على أمير المؤمنين عثمان بن عفان -رضي الله عنه- “الأسباب والنتائج”
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد ذكرنا في المقال السابق مقدمة بمثابة الديباجة والتمهيد لحديثنا حول بعض الثورات التي حدثت في التاريخ الإسلامي، وذكرنا نبذة حول أهمية دراسة التاريخ، ثم تحدثنا عن فتنة مقتل أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه-، وما هي التهم التي ذكرها المجرمون الذين خرجوا عليه وقتلوه، وما هو الرد على هذه التٌهم والشبهات، وكانت التهمة التي ذكرناها هي: “ضربه لعمار حتى فتق أمعاءه، ولابن مسعود حتى كسر أضلاعه ومنعه عطاءه”، وقد انتهينا مِن الرد على هذه التهمة في المقال السابق.
– وممن أنكروه على عثمان -رضي الله عنه- أنهم قالوا عنه: “ابتدع في جمع القرآن وتأليفه، وفي حرق المصاحف”:
قال أبو بكر بن العربي -رحمه الله-: “وأما جمع القرآن، فتلك حسنته العظمى، وخصْلتُه الكبرى، وإن كان وَجدها كاملة، لكنه أظهرها وردَّ الناس إليها، وحسم مادة الخلاف فيها، وكان نفوذُ وعد الله بحفظ القرآن على يديه، وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره عن زيد بن ثابت -رضي الله عنه- قال: “أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ. فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنِ اسْتَحَرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبُ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ. قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَقَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلم يزل عمر يُرَاجِعُنِي فِيهِ حَتَّى شَرَحَ اللهُ صَدْرِي لذَلِك، وَرَأَيْت الَّذِي رَأَى عُمَرُ. قَالَ زَيْدٌ” قَالَ أَبُو بَكْرٍ إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لا نَتَّهِمُكَ، وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَتَتَبَّعِ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جِمْعِ الْقُرْآن، قَالَ: قُلْتُ كَيفَ تَفْعَلُونَ شَيْئا لم يَفْعَله النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنَ الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ، وَصُدُورِ الرِّجَال حَتَّى وَجَدْتُ مِنْ سُورَة التَّوْبَة آيَتَيْنِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) (التوبة:128)، حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ. فَكَانَتِ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاته ثمَّ عِنْد حَفْصَة”.
ثم لما قدِم حُذيفة بن اليمان على عثمان وكان يُغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذْرِبَيجان مع أهل العراق، حدثه حذيفة عن اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة -رضي الله عنه- لعثمان -رضي الله عنه-: يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبْل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى: فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القُرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا.
حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ عثمانُ الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أُفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه مِن القرآن في كل صحيفة ومصحف أن يُحرق.
وقد سلـَّم الصحابة كلهم بذلك: إلا ما روي عن ابن مسعود آنفًا، وبهذا حقق الله وعده في قوله -سبحانه-: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9)، وقد تولى الخلافة بعد هؤلاء الشيوخ الثلاثة أمير المؤمنين عليُّ -رضي الله عنه-؛ فأمضى عملهم وأقر مصحف عثمان برسومه وتلاوته في جميع أمصار ولايته، وبذلك انعقد إجماع المسلمين في الصدر الأول على أن ما قام به أبو بكر وعمر وعثمان هو أعظم حسناتهم، وبهذا يتبين لكل ذي لب أن ما فعله أمير المؤمنين عثمان مِن جمعه للمصحف يُعد مِن أعظم حسناته، وأن كل مَن عدَّ ذلك جرمًا ومنكرًا؛ قد انتكس عقله وظهر حقده، وبانت سريرته.
ومِن التهم التي رموه بها أيضًا أنه: “حَمى الحِمَى”:
والحمى موضعًا يعينه الحاكم، ويخصصه لرعي مواشي الزكاة وغيرها مما يرجع ملكه إلى بيت مال المسلمين، ويمنع عامة الناس مِن الرعي فيه، ومعنى ذلك أن عثمان -رضي الله عنه- خصص مساحة معينة مِن الأرض لبعض الإبل لترعى فيها دون غيرها مِن الإبل، قالوا: إنه ابتدع في هذا الأمر، وقالوا: إنه كان يجعلها لإبله وخيله!
والرد على هذه التهمة الباطلة: أن الحمى كان موجودًا في الجاهلية قبْل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان السيد يدخل الأرض التي يريد أن يجعلها حِمَى لإبله، ومعه كلب يعوي، ويكون حدود حماه على امتداد عواء كلبه، وتكون تلك المنطقة مِن الأرض خاصة به لا تستطيع أي إبل غير إبله أن ترعى فيها، وهذا هو الحمى، فلما جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألغى هذا الأمر كله، إلا لإبل الصدقة فقط، فعن الصعب بن جثامة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا حِمَى إِلا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ) (أخرجه البخاري).
وعن نافع عن ابن عمر: “أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَمَى النَّقِيعَ لِلْخَيْلِ. قَالَ حَمَّادٌ بنُ خَالِدٍ -راوي هذا الحديث عن عبد الله بن عمر العمري-: فَقُلْتُ لَهُ: لِخَيْلِهِ؟ قَالَ: لا، لِخَيْلِ الْمُسْلِمِينَ” (أخرجه أحمد). أي المرصودة للجهاد، أو ما يملكه بيت المال. والنقيع هذا في المدينة على عشرين فرسخًا منها، ومساحته ميل في ثمانية أميال كما في موطأ مالك.
وقد فعل أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- مثل فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحِمَى، ولما جاء عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- زاد في هذه المساحة، وضم إليها أماكن كثيرة؛ وذلك لكثرة الفتوحات في عهد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وكثرة إبل الجهاد؛ فكان لا بد مِن التوسعة؛ فاتسع الحِمَى فشمل (سرف) و(الربذة)، وكان لعمر عامل على الحمى هو مولى له يدعى “هنيًّا” كما في صحيح البخاري عن زيد بن أسلم عن أبيه: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ -رضي الله عنه- اسْتَعْمَلَ مَوْلًى لَهُ يُدْعَى هُنَيًّا عَلَى الحِمَى، فَقَالَ: يَا هُنَيُّ اضْمُمْ جَنَاحَكَ عَنِ المُسْلِمِينَ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّ دَعْوَةَ المَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ، وَأَدْخِلْ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ -صاحب الإبل القليلة- وَرَبَّ الغُنَيْمَةِ -صاحب الغنم القليلة-، وَإِيَّايَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ، فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَا إِلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ، وَإِنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ، وَرَبَّ الغُنَيْمَةِ إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا، يَأْتِنِي بِبَنِيهِ”.
ولما كان عهد عثمان -رضي الله عنه- اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وكثرت الخيرات عند المسلمين، وكثرت الإبل، فاتسعت منطقة الحمى إلى أكبر مما كانت عليه، فالذي أجازه النبي -صلى الله عليه وسلم- لسوائم بيت المال، ومضى على مثله أبو بكر وعمر، يجوز مثله لبيت المال في زمن عثمان -رضي الله عنه-، ويكون الاعتراض عليه اعتراضًا على أمر داخل في التشريع الإسلامي.
ولما أجاب عثمان -رضي الله عنه- على مسألة الحمى عندما دافع عن نفسه على ملأ مِن الصحابة أعلن أن الذين يلون له الحمى اقتصروا فيه على صدقات المسلمين يحمونها؛ لئلا يكون بيْن مَن يليها وبيْن أحد تنازع، وذكر عن نفسه أنه قبْل أن يلي الخلافة كان أكثر العرب بعيرًا وشاء، ثم أمسى وليس له غير بعيرين لحجه، وسأل مَن يعرف ذلك مِن الصحابة: “أكذلك؟” قالوا: “اللهم نعم”.
ثم إن خير عثمان -رضي الله عنه- سابق على المسلمين منذ أسلم حتى استشهد -رضي الله عنه وأرضاه-؛ فظهر جليًّا أن هذه تهمة منكرة؛ ألقى بها أصحاب النفوس المريضة، والعقول المنكوسة.
ونستكمل في المقال القادم -بمشيئة الله تعالى-.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
– البداية والنهاية لابن كثير.
– تاريخ الرسل والملوك للطبري.
– العواصم مِن القواصم لابن العربي، مع تعليقات محب الدين الخطيب.
– منهاج السُّنة لابن تيمية.
– التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان -رضي الله عنه-، لمحمد بن يحيى المالقي الأندلسي.
– موقع قصة الإسلام، راغب السرجاني، الدفاع عن عثمان -رضي الله عنه-.