مقالات متنوعة

الأم الصالحة ودورها في التربية وصناعة الرجال

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكرنا في مقال سابق الأب الصالح ودوره في التربية وصناعة الرجال، وهذا المقال نتناول فيه دور الأم الصالحة في التربية وصناعة الرجال.

أولاً: أهمية اختيار الزوجة الصالحة:

إن الإسلام قد حثَّ الرجل المسلم على البحث عن الزوجة الصالحة؛ لأنها شريكة حياته، وهي التي سوف تربي أولاده، وهي نعمة عظيمة من الله -سبحانه وتعالى- إذ أنعم بها على الذكر، وكذلك أنعم على الأنثى بالذكر، قال -تعالى-: (وَاللهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ) (النحل:72).

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ) (رواه البخاري ومسلم)، فينبغي أن يتخير الرجل الزوجة الصالحة.

وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مِنَ سعادةِ ابن آدَم ثَلاثة، ومن شَقاوة ابنِ آدمَ ثلاثة: مِن سَعَادةِ ابنِ آدم: الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ، وَالمركب الصَّالِحُ، ومِنْ شَقاوَةِ ابن آدم: َالْمَرْأَةُ السُّوءُ، وَالْمَسْكَنُ السُّوء، وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ) (رواه أحمد، وقال الألباني: صحيح لغيره).

وصدق حافظ إبراهيم عندما قال:

الأم مـــدرســــة إذا أعـــددتــهــا                    أعـددت شـعـبـًـا طــيـب الأعـراق

وما أروع ما أصَّله فاروق الأمة عمر -رضي الله عنه- يوم أن جاءه والد يشكو إليه عقوق ولده، فقال: ائتني به، فجاء الشاب فوقف بين يدي عمر -رضي الله عنه-، فقال له: لمَ تعق والدك؟ فقال الشاب: ما حقي على أبي يا أمير المؤمنين؟! قال: حقك عليه أن يحسن اختيار أمك، وأن يحسن اختيار اسمك، وأن يعلمك القرآن. فقال الشاب: والله ما فعل أبي شيئًا من ذلك يا أمير المؤمنين! فالتفت عمر -رضي الله عنه- للوالد وقال: لقد عققت ولدك قبل أن يعقك!

إن تأثير الأم في التربية يفوق تأثير الوالد في كثير من الأحيان: فهذا الزبير بن العوام -رضي الله عنه- فارس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان عمر يعدل به ألفًا من الرجال، ولما أرسله لنجدة عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: “أرسلتُ إليك أربعة آلاف جنديًّا، ومعهم أربعة كل منهم بألف، وذكر منهم: الزبير بن العوام -رضي الله عنه-.

وإذا تأملنا البيئة التي نشأ فيها الزبير بن العوام -رضي الله عنه- نجد أن أمه هي صفية بنت عبد المطلب -رضي الله عنها- عمة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وهؤلاء الأفاضل العظماء: عبد الله، والمنذر، وعروة أبناء الزبير كلهم ثمرات أمهم ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما-.

وهذا أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهما- ورث عن أمه هند بنت عتبة -رضي الله عنها- همة تجاوز الثريا، وهي القائلة وقد قيل لها ومعاوية وليد بين يديها: إني أظن أن هذا الغلام سيسود قومه. فقالت: ثكِلتُه إن لم يَسُد إلا قومه! فربته على معالي الأمور، وقد تولى معاوية ولاية الشام ما يقرب من عشرين سنة، ومثلها كان أميرًا للمؤمنين، وهكذا تفعل الأم وتؤثر في حياة أبنائها وتكوين شخصيتهم.

أثر هاجر على إسماعيل، وأم موسى على موسى -عليهم السلام-: ذكر المفسرون وأهل السِّير أن إبراهيم -عليه السلام- هاجر إلى مكة المكرمة ومعه هاجر وولدهما إسماعيل -عليهما السلام- وهي ترضعه: حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، ولا أنيس ولا جليس فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ، وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ ثُمَّ ذهب إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا فَتَبِعَتْهُ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَب وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ بِهِ أنيس وَلا شيء؟ فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا وَجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ: آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ.َقالَتْ: إِذًا لا يُضَيِّعُنَا. ثُمَّ رَجَعَتْ فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ، حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لا يَرَوْنَهُ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ، ثُمَّ دَعَا بهؤلاء الدَّعْوَات وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يشكرون) (إبراهيم:37)(رواه البخاري).

“إِذًن لا يُضَيِّعُنَا”: كلمة تجسد حقيقة الإيمان بالله -تعالى-، إنه اليقين بالله -تعالى- والثقة في وعد الله -عز وجل- والاستسلام والإذعان لأمر الله -تعالى-.

ونستطيع أن نقول: إن إسماعيل -عليه السلام- رضع مِن أمه ذلك التسليم والخضوع والإذعان لأمر الله -تعالى-، وتجلى ذلك وضوحًا في موقف عظيم يوم أن قال له إبراهيم -عليه السلام-: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات:102).

وكذلك في قصة موسى -عليه السلام- وأمه، قال الله -عز وجل-: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (القصص:7)، فالله يأمرها بعد ولادته والرضاع له أن تلقيه في اليم، ويعدها أن يرده إليها ويجعله من المرسلين، وكانت على يقين بالله ووعده لها وحفظه لموسى -عليه السلام-، ففعلت ما أمرها الله به، وكان ما وعد الله به؛ عاد إليها ولدها وأصبح نبيًّا رسولاً.

ويأتي الدور على موسى -عليه السلام-: كما قال -جلَّ وعلا- في قصة موسى -عليه السلام- مع فرعون لما رأوا فرعون وجنوده خلفهم، والبحر أمامهم: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء:61-62)، فبيَّن أن كل جمع كان يرى الجمع الآخر، ومع ذلك نفى موسى -عليه السلام- الإدراك وقال: (كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) أي: سيدلني على طريق النجاة، فكان على يقين بنصر الله له ومعية الله -تعالى- له أيضًا، فهذا اليقين تعلمه موسى -عليه السلام-، بل رضعه -عليه السلام- من أمه!

وهكذا تفعل الأم وتؤثر في أبنائها… !

وفي المقابل وعلى العكس تمامًا قد أشار القرآن الكريم إلى دور الأم في قصة ابن نبي الله نوح -عليه السلام- الذي كفر، وقال لأبيه وهو يدعوه للركوب في السفينة مع المؤمنين: (سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ) (هود:43)، ونحن نعرف أن هذا الابن مات كافرًا، وأن أثر الأم واضح في شخصيته, فامرأة نوح كانت كافرة بنص القرآن الكريم، قال -تعالى-: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (التحريم:10).

ولا شك أن مَن فقد أمه فإن بؤسه أشد من فقده لوالده؛ ذلك أن دور الأم يفوق دور الأب في الحضانة والرعاية، وهذا يفسره قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبُوكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ) (متفق عليه)، إذن فتأثير الأم في التربية يفوق تأثير الوالد في كثير من الأحيان.

يقول د.”محمد إسماعيل المقدم” -حفظه الله-: “ونجزم بأن الأم هي العماد في العملية التربوية، فإن الواقع الذي نعيشه يؤكد خطورة موقع الأم اليوم في عملية التربية أكثر من الرجل”.

ندعو الله أن يهدي لنا أبناءنا، وأن يحفظهم لنا، ويوفقنا لحسن تربيتهم ورعايتهم.

زر الذهاب إلى الأعلى