الحملة الثانية لعقبة بن نافع واستكمال فتوحات إفريقية (62 – 63 هـ)
الحملة الثانية لعقبة بن نافع واستكمال فتوحات إفريقية (62 – 63 هـ)
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد،
لقد ذكرنا في المقال السابق، أن يزيد بن معاوية، قد أصدر قرارًا بعزل أبي المهاجر وعودة عقبة بن نافع إلى إفريقية مرة ثانية.
ولقد أبلى عقبة بن نافع بلاءً حسنًا في رحلاته الجهادية السابقة، وظهرت جهوده وظهر عطاؤُهُ في فتح بلاد المغرب منذ البداية، سواء عندما كان يعمل تحت إمرة غيره من الولاة والأمراء: كعمرو بن العاص، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، أو عندما تولى هو أمر القيادة في عصر معاوية بن أبي سفيان، وهو الذي أسس مدينة القيروان -كما أوضحنا سابقًا-، ثم ها هو بعد عودته ثانية يستكمل رحلته الجهادية المشهورة التي قطع فيها ما يزيد على ألف ميل من القيروان في تونس إلى ساحل المحيط الأطلسي في المغرب، وقد استخلف على القيروان زهير بن قيس البلوي ودعا لها قائلًا: “يا رب املأها علمًا وفقهًا واملأها بالمطيعين لك، واجعلها عزًّا لدينك وذلًّا على مَن كفر بك، وأعز بها الإسلام، وامنعها من جبابرة الأرض”.
ثم خرج عقبة بأصحابه الذين قدِم بهم من الشام ومصر وعددهم يقارب عشرة آلاف إلى جانب عددٍ كبيرٍ انضم إليهم من القيروان، ودعا بأولاده قبل سفره وقال لهم: “إني قد بعت نفسي من الله عز وجل، فلا أزال أجاهد مَن كفر بالله. ثم قال: يا بني أوصيكم بثلاث خصال فاحفظوها ولا تضيعوها: “إياكم أن تملؤوا صدوركم بالشعر وتتركوا القرآن، فإن القرآن دليل على الله عز وجل، وخذوا من كلام العرب ما يهتدي به اللبيب ويدلكم على مكارم الأخلاق، ثم انتهوا عما وراءه، وأوصيكم أن لا تُداينوا ولو لبستم العباء، فإن الدّين ذُلُّ بالنهار وهمٌّ بالليل، فدعوه تسلم لكم أقداركم وأعراضكم، وتبقى لكم الحرمة في الناس ما بقيتم، ولا تقبلوا العلم من المغرورين المرخصين؛ فيجهلوكم دين الله ويفرقوا بينكم وبين الله تعالى، ولا تأخذوا دينكم إلا مِن أهل الورع والاحتياط، فهو أسلم لكم، ومَن احتاط سلم ونجا فيمن نجا؛ ثم قال لهم: عليكم سلام الله وأُراكم لا ترونني بعد يومكم هذا، ثم قال: اللهم تقبّل نفسي في رضاك، واجعل الجهاد رحمتي ودار كرامتي عندك “([1]).
ثم شرع عقبة رحمه الله في جهاده وغزوه ضد الروم والبربر، وهما إذ ذاك مجوس ونصارى، فوفَّقه الله تعالى وفتح كثيرًا من البلاد والمدن، ومن البلاد والمدن التي فتحها عقبة في رحلته الجهادية أثناء الحملة الثانية: بلاد السوس حيث إنه اتجه إلى الجنوب الغربي، قاصدًا بلاد السوس الأدنى حيث التقى بجموع بربر أطلس الوسطى، فهزمهم وطاردهم نحو صحراء وادي درعا، حيث بنى مسجدًا في مدينة درعا ثم غادر صحاري مراكش باتجاه الشمال الغربي إلى منطقة (تافللت) من أجل أن يدور حول جبال أطلس العليا كي يدخل بلاد صنهاجة الذين أطاعوه دون قتال، وكذلك فعلت قبائل هكسورة في مدينة (أغمات)([2]).
ثم بعدها اتجه عقبة نحو الغرب إلى مدينة (تفيس)، حيث حاصر بها جموعًا من البيزنطيين والبربر، فلم ينفعهم تحصنهم، فدخل المدينة منتصرًا، وبذلك أتم تحرير بلاد السوس الأقصى ودخل عاصمتها (إيجلي) التي بنى فيها مسجدًا، ثم دعا القبائل فيها هناك إلى الإسلام فأجابته قبائل جزولة، وبعد ذلك سار إلى مدينة (ماسة)([3])، ومنها إلى رأس (إفران) على البحر المحيط.
ومن المدن التي فتحها أيضًا: باغية، وقرطجانة، والمنستير، والزاب، وتاهرت، وطنجة([4])، وبوصول عقبة بن نافع إلى ساحل المحيط الأطلسي يكون قد أنجز تحرير معظم بلاد المغرب، ولما وصل عقبة إلى المحيط الأطلسي قال: “يا رب لولا هذا البحر لمضيت في البلاد مجاهدًا في سبيلك”، ثم قال: “اللهم اشهد أني قد بلغت الجهود، ولولا هذا البحر لمضيت في البلاد أقاتل مَن كفر بالله حتى لا يُعبد أحدٌ مِن دونك”([5]).
ثم كتب الله له الشهادة، وهذا ما سنوضحه في المقال القادم بمشيئة الله تعالى.
- البيان المغرب (1/ 23). ↑
- ناحية في بلاد البربر من أرض المغرب قرب مرّاكش، وبين مدينة أغمات ومرّاكش ثلاثة فراسخ هي في سفح جبل هناك. معجم البلدان (1/225). ↑
- ماسة: قرية على البحر تُحمل إليها التجارات، وفيها المسجد المعروف بمسجد بهلول، وفيه الرباط على ساحل البحر، وهي من بلاد السوس. البيان المغرب (1/6). ↑
- العالم الإسلامي في العصر الأموي (ص 246)، الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ص 377). ↑
- الكامل في التاريخ (2/ 590)، البيان المغرب (1/ 23ـ27). ↑