د. زين العابدين كامل يكتب: حب الوطن في حياة الرسول
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
إن حب الإنسان لوطنه الذى ولُد فيه وعاش وتربى وترعرع وشب فيه، وعاش تحت سمائه وعلى أرضه وفيه أهله وآباؤه وأجداده غريزة فطرية تخالط دمه، ولا يمكن للإنسان أن ينسى وطنه ولو خرج منه وهاجر إلى غيره، ولابد له أن يحن ويتشوق إلى وطنه وملاعب صباه وإن طالت السنوات، فإن غادر الإنسان وطنَه لضرورة يبقى الشوق والحنينُ إليه، قال الغزالي رحمه الله ” والبشر يألَفُون أرضَهم على ما بها، ولو كانت قفرًا مستوحَشًا، وهذا الحب للوطن من الأمور المشروعة، وقد عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: ( والله إني أعلم أنك خير أرض الله وأحبها إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجتُ، وفي رواية أخرى: ما أطيبَك من بلدٍ وما أحبَّك إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنْتُ غيرك ) رواه الترمذي، وفي ذلك دلالة واضحة على حب النبي صلى الله عليه وسلم الشديد لبلده ووطنه مكة، كما تدلُّ علَى شدةِ حزنِه لمفارقته له، إِلا أَنه اضطُرَ لذلك، قال الذهبي مُعَدِّدًا طائفةً من محبوبات النبي صلى الله عليه وسلم “وكان يحبُّ عائشة، ويحبُّ أَبَاهَا، ويحبُّ أسامة، ويحب سبطَيْه، ويحب الحلواء والعسل، ويحب جبل أُحُدٍ، ويحب وطنه.ويحب الأنصار”. اهـ. (سير أعلام النبلاء)،
وبعد الهجرة قال صلى الله عليه وسلم مؤكدا نفس المعنى: “اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة”، أما ما يقوله بعض الناس وينسبونه للنبي صلى الله عليه سلم بقوله: “حب الوطن من الإيمان”، فهذا ليس من قول الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع أنه صلى الله عليه وسلم خرج من مكة بعدما تعرض هو وأصحابه لشتى أنواع التعذيب والتنكيل والإيذاء، إلا أنه لم يتمن يوما لها الدمار والخراب والهلاك، فلا يكره شخص وطنه ويتمنى له السوء والشر إلا لانتكاسة في عقله وفطرته، هذا وينبغى أن نؤكد أن الوطن بالنسبة للمسلم ليس وطنه الذى ولد فيه أو يعيش فيه فحسب، بل الوطن بالنسبة للمسلم كل بلاد الإسلام وجميع شعوبها المسلمة، باعتبار المسلم أخا المسلم أينما كان وحيثما كان، وأن المسلمين أمة واحدة، مهما تباعدت بهم الديار، وتناءت بهم الأقطار، وأنهم كالبنيان المرصوص، وكالجسد الواحد، ولكن يبقى حنينه الفطرى لبلده الذى عاش فيه، ولا حرج فى ذلك: كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبدا لأول منزل، وفى صحيح البخارى عن أنس رضى الله عنه قال: كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا قدِمَ مِنْ سَفَرٍ فأبْصَرَ دَرَجَاتِ المَدِينَةِ أوْضَعَ ناقَتَهُ وإنْ كانَتْ دَابَّةً حرَّكَهَا. (أوضع نَاقَته) أَي: أسْرع السّير، وقَوْله: “فأبصر دَرَجَات الْمَدِينَة” أي طرقها المرتفعة.
قال بدر الدين العينى فى عمدة القارى، وَفِيه: دلَالَة على فضل الْمَدِينَة وعَلى مَشْرُوعِيَّة حب الوطن والحنين إِلَيْهِ. وعن الضحاك قال لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، فبلغ الجحفة، اشتاق إلى مكة، فأنزل الله عليه: {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} إلى مكة. وعن عكرمة، عن ابن عباس: {لرادك إلى معاد} قال: إلى مكة. وهكذا روى العوفي أيضا عن ابن عباس: {لرادك إلى معاد} أي: لرادك إلى مكة كما أخرجك منها.
وقال محمد بن إسحاق، عن مجاهد في قوله: {لرادك إلى معاد}: إلى مولدك بمكة، وللخطابي في غريب الحديث عن الزهري قال قدم أُصيل الغفاري على رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قبل أن يضرب الحجاب، فقالت عائشة: كيف تركت مكة، قال: اخضرت جنباتها، وابيضت بطحاؤها، وأغدق إذخرها، وانتشر سلمها، فقال له رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حسبك يا أصيل لا تحزني، وهو عند أبي موسى المديني من وجه آخر، قال: قدم أُصيل الهذلي فذكر نحوه.
وقال الأصمعي: سمعت أعرابيا يقول: إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف تحننه إلى أوطانه وشوقه إلى إخوانه وبكاؤه على ما مضى من زمانه، وأشار العلامة المناوي في لَفْتَةٍ طيبة إلى حبِّ الأوطان عند شرحه لقول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: “إِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ حَجَّهُ فَلْيُعَجِّلِ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ؛ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لأَجْرِهِ”، “صحيح الجامع” قال: “فليعجِّل” أي فليسرع ندبًا، “الرُّجوع إلى أهله” أي وطنه وإن لم يكن له أهل، “فإنَّه أعظم لأجره” لِما يدخله على أهله وأصحابه من السُّرور بقدومه؛ “لأنَّ الإقامة بالوطن يسهل معها القيام بوظائف العبادات أكثر من غيرها، اهـ من “فيض القدير” .
وفي قصَّة الوحي ـ وهي في “الصَّحيح”: أنَّ ورقة بنَ نَوْفَل لمَّا قال للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لَيْتَنِي أكونُ حيًّا إذْ يُخرجك قومك! قال: أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟! قال: نعم، قال السُّهيلي فى شرح السيرة النبوية لابن هشام “ففي هذا دليل على حبِّ الوطن، وشدَّة مفارقته على النَّفس، هذا ويجب التنبيه على ألا يكون الوطن محورا للولاء والبراء والعصبية الجاهلية بحيث يوالي أهل وطنه ولو كانوا كفارا أو فساقا ويعادي الغرباء عن وطنه ولو كانوا مؤمنين صالحين فهي عصبية جاهلية منتنة محرمة، ومحبة المسلم لمكة والمدينة مقدمة على محبته لبلده لأنهما أحب إلى الله ورسوله، بِلاَدِي وَإِنْ جَارَتْ عَلَيَّ عزيزة وَأَهْلِي وَإِنْ ضَنُّوا عَلى كرام والله المستعان.