بين بدر وخيبر… عبقرية الحُبَاب بن المنذر -رضي الله عنه-
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد كان من عادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يشاور أصحابه، ومشورته لأصحابه ثابتة في الأحاديث الصحيحة كما في مشاورته لهم قبل غزوة بدر، ثم في الأسرى، وفي الخروج يوم أُحُد، وفي الحديبية، وفي حادثة الإفك، وغيرها.
ومن المواقف التي تجلَّت فيها صفة الشورى وقبول آراء الصحابة، ما حدث مع الحباب بن المنذر -رضي الله عنه- يوم بدر، وكذا يوم خيبر، ولقد تجلَّت عبقريته وخبرته العسكرية خلال الغزوتين؛ ففي يوم بدر لما تحرَّك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مِن المدينة توجَّه إلى بدر، فَلَمَّا جَاءَ أَدْنَى مَاءٍ مِنْ بَدْرٍ نَزَلَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَعَدَّاهُ، وَلَا نُقَصِّرُ عَنْهُ أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَة ُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: بَلْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ، فَقَالَ الْحُبَابُ: يَا رَسُولَ اللهِ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَنْزِلٍ، وَلَكِنِ انْهَضْ حَتَّى تَجْعَلَ الْقُلُبَ كُلَّهَا مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِكَ، ثُمَّ غَوِّرْ كُلَّ قَلِيبٍ بِهَا إِلَّا قَلِيبًا وَاحِدًا، ثُمَّ احْفِرْ عَلَيْهِ حَوْضًا فَنُقَاتِلُ الْقَوْمَ فَنَشْرَبُ وَلَا يَشْرَبُونَ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ. فَقَالَ: قَدْ أَشَرْتَ بِالرَّأْيِ”.
وهذا الخبر أورده الحاكم في المستدرك، وابن كثير في البداية والنهاية، والبيهقي في دلائل النبوة، وابن الأثير في أسد الغابة، وابن إسحاق في السيرة، أوبو داود في المراسيل، وغيرهم من علماء التراجم والسير، والخبر وإن كان قد ضعَّفه بعض العلماء؛ إلا أنه يُقْبَل في المغازي والسير، والقصص والزهد والأدب، ما لا يُقْبَل في الأحاديث المتعلقة بالتحليل والتحريم، ولم يزل أهل العلم يستشهدون بقصة الحباب بن المنذر في كتبهم، وبناءً عليه فإن القصة لها أصل مشهور متداول عند عامة أهل السِّير.
ثم يتكرر الموقف يوم خيبر، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- اختار لمعسكره منزلًا معينًا، فأتاه الحباب بن المنذر -رضي الله عنه-، فقال: “يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أنزلكه الله أم هو الرأي في الحرب؟ قال: بل هو الرأي، فقال: يا رسول الله إن هذا المنزل قريب جدًّا من حصن نطاة، وجميع مقاتلي خيبر فيها، وهم يدرون أحوالنا، ونحن لا ندري أحوالهم، وسهامهم تصل إلينا، وسهامنا لا تصل إليهم، ولا نأمن من بياتهم، وهذا الموطن بين النخلات، وهو مكان غائر، وفي أرضٍ وخيمةٍ، فلو أمرت بمكانٍ خالٍ عن هذه المفاسد نتخذه معسكرًا، فقال -صلى الله عليه وسلم-: الرأي ما أشرت، ثم تحول إلى مكان آخر”.
وهذا الخبر ذكره الواقدي في المغازي، والحلبي في السيرة الحلبية، وأورده صفي الرحمن المباركفوري في الرحيق، وينطبق عليه من حيث السند ما ذكرناه في الخبر الماضي.
والخبران يدلان بلا شك على عبقرية الْحُبَابَ بن المنذر -رضي الله عنه-؛ فهو خبير عسكري، وكيف أن خطته ساهمتْ بشكلٍ كبيرٍ في انتصار المسلمين يوم بدر على المشركين، وكذلك انتصار المسلمين يوم خيبر؛ ولذا نزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على رأيه، وهذا يدل على تواضعه -عليه الصلاة والسلام-، وأنه يقدِّم مصلحة الأمة على أي مصلحة أخرى، ومن هنا تتجلى بوضوح فضيلة تطبيق مبدأ الشورى، وتعويد الأمة على ممارستها، وبيان أهميتها، لا سيما في الأمور المصيرية المهمة.
كما وصف الله أهل الإيمان فقال: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى:38)، وفي هذا الصدد قال العلامة السعدي -رحمه الله تعالى- معقِّبًا على هذه الآية: “لا يستبد أحدٌ منهم برأيه في أمرٍ مِن الأمور المشتركة بينهم، وهذا لا يكون إلا فرعًا عن اجتماعهم وتوالفهم وتواددهم وتحاببهم وكمال عقولهم؛ أنهم إذا أرادوا أمرًا من الأمور التي تحتاج إلى إعمال الفكر والرأي فيها، اجتمعوا لها وتشاوروا وبحثوا فيها، حتى إذا تبيَّنت لهم المصلحة، انتهزوها وبادروها، وذلك كالرأي في الغزو والجهاد، وتولية الموظفين لإمارة أو قضاء، أو غيره، وكالبحث في المسائل الدينية عمومًا؛ فإنها من الأمور المشتركة، والبحث فيها لبيان الصواب مما يحبه الله، وهو داخل في هذه الآية” (تفسير السعدي).